ملاحظات نقدية حول مؤتمر قمة الأصفار الثاني والعشرين في سرت
لجنة التنسيق من أجل التغيير الديمقراطي في سورية
عُقِدَ قبل أيام قليلة في مدينة سرت في ليبيا المؤتمر الثاني والعشرين لملوك ورؤساء الدول العربية. وقد تابع الرأي العام العربي القمة، وهو مدرك أن السياسة العربية الرسمية وليدة كامب ديفيد وشرم الشيخ وأوسلو وآنابوليس والمفاوضات السرية والعلنية في زمن الفساد والعولمة التي ابتَلعت النظام العربي السائد، تَعقد قمتها في سرت، ليس من أجل التحرير والدفاع عن المقدَّسات، وإنما تريد من وراء قمتها تعزيز نظامها المعزول عن الشعب والمتواطئ مع الإمبريالية والصهيونية بخطاب أقل ما يُقال فيه أنه فارغ، وذلك في ما يمضي العدو الإسرائيلي قُدُما بمخطَّطاته لتهويد القدس والاستيلاء على المقدَّسات في الخليل، بانتظار معاهدة جديدة مع النظام العربي الرسمي تندمج فيه إسرائيل والأنظمة العربية في نظام عالمي واحد، بعدما تكون الإمبريالية وحلفاؤها في المنطقة قضوا على كل مقاومة.
وفي ما تستفيد إسرائيل من عامل الزمن لتوسيع مستوطناتها، وتغيير معالم الأراضي الفلسطينية المحتلة، السكانية منها والثقافية والجغرافية، وتعزيز مواقعها، فإن النظام العربي السائد لا يقيم وزنا لزمن الصراع مع إسرائيل وحلفائها، طالما يكرِّس جهوده للكسب السريع وتراكم الثروات. ويَغيب عن السياسة العربية الرسمية على هذا النحو أن الزمن هو نفسه التاريخ، وأن القرارات الصادرة عن القمم العربية والتي لا تجد طريقا لها إلى التنفيذ، أصبحت جزءً من تاريخ الكيان الصهيوني، وأن السياسة العربية فَقَدَت الزمن والتاريخ معا.
وكان العدو الإسرائيلي رفض مشروع السلام العربي الذي كانت القمة العربية المنعقدة في بيروت في العام 2002 قد وافقت عليه في غياب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي كان محاصرا في مكتبه في أريحا بدبابات العدو الصهيوني. ولم يَجد هذا العدو صعوبة في نهاية المطاف في تصفية ياسر عرفات جسديا وسط الصمت الرسمي للأنظمة العربية التي تخلَّصت بارتياح من أحد الأصوات المعبَّرة عن الضمير الفلسطيني، ووفَّرِت أسبابَ النجاح أمام اعتلاء مهندس اتفاقيات أوسلو محمود عباس سدة الرئاسة كشريك مقبول من قِبَل إسرائيل والولايات المتحدة في المساومات، بعدما كان ياسر عرفات قد انسحب من قمة كامب ديفيد الثانية، ورفض التنازل عن القدس، وسدَّ المنافذ أمام الأصوات الفلسطينية التي كانت تدعو إلى استئناف المفاوضات.
على إثر ذلك اتسع التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ، واستُؤنِفَت المفاوضات مع الكيان الصهيوني، بالرغم من أنها منذ أوسلو، لم تأت بأية نتيجة لصالح القضية الفلسطينية. بل، وإن هذه المفاوضات في عهد محمود عباس مَنَحَت فرصة جديدة أمام إسرائيل لتكثيف عمليات الاستيطان في مدينة القدس بوجه خاص. وغير خافٍ أن بناء جدار العار قد ترافق مع المفاوضات، وذلك في ما كانت قوات الاحتلال الإسرائيلية تكثّف، تحت أنظار الولايات المتحدة وحلفائها، وصمت النظام العربي، الحواجز “الأمنية” التي تصطف أمامها صفوف من ألوف الفلسطينيين بانتظار السماح لهم بالتنقل والدخول إلى أراضيهم. والجدير بالذكر هنا أن رئيس الوزراء الفلسطيني أبو العلاء هو الذي كان ترأس الوفد الفلسطيني إلى المفاوضات، وهو نفسه صاحب معامل في الأردن كانت وما تزال تُنتج الأسمنت الذي يُبنى منه جدار العار. وهذا كله دليل بين أدلة كثرٍ غيرها يؤكِّد أن عهد عباس يتطلع إلى إرضاء الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.
لكن حركة التحرر الوطني العربية، بما فيها المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية، ما فتئت تتجدد وتتغيَّر، من الثورة الجزائرية إلى تأميم قناة السويس، ومن الوحدة بين سورية ومصر إلى الحركة القومية والثورية المناهضة للانفصال في سورية في الستِّينات، ومن أيلول الأسود إلى العمليات الفدائية والانتفاضتين مرورا بحرب المخيمات وحرب تموز 2006. وهاهي اليوم قوى التحرر والتقدم والسلام في العالم تقف متضامنة مع الشعب الفلسطيني الذي يخوض من غزة الباسلة حلقة جديدة من تاريخ المقاومة في وجه أشكال لا حصر لها من السياسات والعمليات الحربية التي تَصبُّ كلُّها في خدمة هدف واحد، ألا وهو إبادة الشعب الفلسطيني، حسب ما يتبيَّن من غزة التي تحولَّت إلى أكبر معسكر للاعتقال، أو “محرقة” صهيونية لإبادة الشعب الفلسطيني. والقمة المنعقدة في سرت ليست غريبة عن التواطؤ الذي يهدف إلى التخلص من القضية الفلسطينية. وكانت الانتخابات الفلسطينية التي يَشهد المراقبون الدوليون بديمقراطيتها انتهت إلى فوز حركة حماس بأكثرية مقاعد المجلس الوطني الفلسطيني. ولم تلبث إسرائيل بعد عام واحد على مرور هذه الانتخابات أن اعتَقَلَت أكثر من ثلاثين عضوا من أعضاء المجلس، وهم قيادات من حركة حماس وأعضاء في الحكومة الفلسطينية، ومنهم رئيس المجلس نفسه. وها هي قوى التحرر والسلام في العالم تتضامن مع صمود غزة التي تقاوم حرب الإبادة التي كانت شَهِدَت تصعيدا لها في كانون الأول/ديسمبر 2008 عندما شن جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانا على غزة استمر 23 يوما، والذي انتهي في نهاية الحملة العسكرية إلى انتصار إرادة المقاومة وإلحاق الهزيمة بمخطَّطات إسرائيل التي أُُدينت بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، حسب ما جاء في تقرير غولدستون.
إن النظام الرسمي العربي منذ مؤتمر بيروت المنعقد في العام 2002 إلى قمة الخواء الملتئمة في سرت قبل أيام قليلة ما يزال مستمرا في الامتثال إلى قرار الحصار المفروض على الشعب العربي الفلسطيني في غزة. وهاهي السياسة العربية الرسمية، ما بعد سرت وما قبلها، ماضية في امتثالها لما تمليه عليها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الرأسمالي، حسب ما يَظهر بصورة مفضوحة من خلال حالات من تجميد الدعم المادي لحكومة حماس، وإغلاق النظام المصري للمعابر والأنفاق التي تمدُّ الشعب في غزة بالماء والدواء والغذاء، وبناء مصر لجدارِ من الفولاذ هو جدار عارٍ وخزيٍ آخر، وتكليف النظام المصري مدير المخابرات العامة المصرية الجنرال سليمان بإدارة ملف المفاوضات الفلسطينية- الفلسطينية. ناهيكم وأن النظام العربي الرسمي الذي يَملك ألوف مليارات الدولار لم يَضع في قمة القادة الأصفار المنعقدة في سرت أكثر من نصف مليار دولار من أجل الدفاع عن عروبة القدس، علما أن إسرائيل رَصَدَت 17.5 مليار دولار لبناء المستوطنات في القدس. إن النظام العربي الرسمي الذي يندفع نحو التطبيع مع إسرائيل تمهيدا لانخراطه في نظام الاستغلال العالمي والعولمة النيوليبرالية، يتبنَّى منطق الإمبريالية التي تَزعم أن العدو الرئيس للعرب هو إيران وليس إسرائيل. وهذا ما يعبِّر عنه النظام العربي الرسمي عبر معاداته لحزب الله منذ حرب تموز/يوليو 2006.
إن لجنة التنسيق من أجل التغيير الديمقراطي في سورية تَعتقد أن القمة العربية المنعَقِدَة في سرت الليبية، ليست سوى نسخة طبق الأصل لما سبقها من القمم إن لم تكن أسوأ منها، من حيث هي تكريس لحالة الاستلاب السائد والمعادي للحقوق المشروعة للأمة العربية في التحرر والاستقلال والوحدة والازدهار والعدالة والمساواة والسلام. وليس ما تمخَّضَت قمة الأصفار في سرت عنه من مقترحات حول إعادة “مأسسة” الجامعة العربية ومؤسسَّة القمة العربية، وإقرار آليات عمل جديدة لتنفيذ قرارات القمة، سوى غطاء يخفي تخلِّي القمة عن إصدار قرارات ذات طابع قومي تحرُّري، حتى ولو كانت مجرد قرارات لم تلق طريقها إلى التنفيذ. ولن يَخْفى المدلول المناهض للمقاومة والمعادي للحل القومي التحرري والمختبئ وراء هذه المقترحات عن الوعي الثوري للشعوب العربية التي تَعرف أن النظام العربي الرسمي يفتقد للشرعية، وهو عدو للديمقراطية، ولا يمثِّل إلا مصالح الطبقات الحاكمة والمستغِلة، ويُحبط التطلعات المشروعة لشعوبه، ويكرس القمع بجميع أشكاله، ولا شاغل له علاوة على ذلك كله سوى الحفاظ على علاقاته بالجهات التي تضمن له الاستمرار على رأس السلطة، ونَهب الثروات، والحفاظ على كراسي الحكم.
والنظام السوري جزء لا يتجزأ من النظام الرسمي العربي، وإنما بنكهة مختلفة قوامها خطابه الإعلامي الممانع الذي يصدق عليه القول المشهور “أسمَع جعجعة ولا أرى طحينا”. إن من يَعتَبر نفسه نظاما للمانعة عليه أن يعدَّ جبهة البلاد الداخلية للمواجهة ويحصِّنَها بتدعيم الوحدة الوطنية للشعب على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون، ويُلغي حالة الطوارئ والأحكام العرفية السارية المفعول منذ 47 عاما، والبدء بإجراءات الإصلاح السياسي، وفي مقدمتها إطلاق الحريات الديمقراطية والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين كمدخل إلى إنجاز إصلاح شامل على صعد الدولة والاقتصاد والمجتمع والقوات المسلَّحة.
إن إنجاز مصالحة تاريخية مع الشعب السوري تبقى أولى من الجري وراء وهم مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع العدو الإسرائيلي في ظل موازين قوى تميل بشكل حاسم لمصلحة العدو في ظل معطيات الأوضاع الداخلية الراهنة.
وإن قرار الحرب والسلام هو حق شرعي بامتياز من حقوق الشعب السوري، ولا يَسمح هذا القرار لنظام أيا كانت طبيعته أن ينفرد باتخاذ قرار يشكل خطا أحمر يتوقف عليه مصير البلاد والقضية القومية للأمة العربية.
إن لجنة التنسيق التي تنتمي إلى نهج الثورة العربية تنادي بمجتمع العدالة والمساواة والديمقراطية، فهي وليدة الدعوة إلى الوحدة العربية والنضال ضد الاستعمار والإمبريالية، نشأت عبر تاريخ من نضال حركة التحرر العربية ضد الانفصال الأسود، وإسرائيل، وسياسة الأحلاف، وهي أيضا جزء من سياق تاريخي تلاحقت عبره حروب المخيمات والمقاومة في غزة وجنوب لبنان والعراق والعمليات الفدائية، تدعو إلى دحض النظام العربي الرسمي والتنديد بسياساته، وتؤكد بثقة أن خيار المقاومة ووحدة القوى الديمقراطية والقومية والتحررية هي وحدها الكفيلة ببناء قاعدة مجتمعية تَكفَل إنجاز مهام التغيير التحرُّري والديمقراطي والقومي والاجتماعي.
لجنة التنسيق من أجل التغيير الديمقراطي في سورية
باريس، الخميس الأول من نيسان/أبريل 2010.
http://tansiqsyr@wanadoo.fr