حوار مع خوسيه ساراماغو: أكتب الروايات لأني لا أعرف كتابة البحوث!
ترجمة: ‘محسن الزكري
يعد خوسيه ساراماغو من أكثر الكتاب إثارة للإعجاب والجدل في آن. وهو معروف بالتزامه الشديد وبمواقفه الجذرية الصلبة. كانت ‘ لوماغازين ليتيرير’ ( المجلة الأدبية) الفرنسية في عدد شهر آذار ( مارس) المنصرمقد أجرت معه حوارا مطولا تطرق فيه لقضايا مختلفة منها الموقف من الإنترنت والالتزام الأدبي والكتابة الروائية والمرأة والكنيسة والإيمان وغيرها. وفي ما يأتي النص الكامل للحوار مترجما إلى العربية.
في سن الثامنة والثمانين يعد خوسيه ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1998 كاتبا غزير الإنتاج في خريف 2009 صدرت رواية ‘ رحلة الفيل’ بالفرنسية، وروايته الأخيرة ‘ قابيل’ صدرت بالبرتغالية ( وهي قيد الترجمة في دار سوي). نشرت دار لوشيرش ميدي كتاب ‘ الدفتر’ الذي يضم النصوص التي أصدرها الكاتب بانتظام بين 2008 و 2009، حيث لا نتوقع وجوده: على المدونات. هذا الكاتب يغير أشكال الكتابة – المسرح، الدراسة، الشعر، الرواية، المذكرات، والآن مقالات على الانترنت – لكنه بواسطة الرواية دشن هذا العصامي دخوله إلى الأدب في سنة 1977 مع ‘ كتاب الرسم وفن الخط’ بعد محاولة أولى سنة 1947 تركته غير راض. ولكي ينشر من جديد، انتظر حتى يعثر على شكل تجديدي وشخصي، يسمح له بأن ينسق بين أفكار ليست أقل أهمية بالنسبة إليه. رواية ‘ رحلة الفيل’ توظف ذاك الأسلوب الذي هذبت خصائصه مع مرور الوقت: فقرات طويلة، لعب بحروف بداية الكلمات وعلامات الترقيم، تنويعات أسلوبية داخل الجملة الواحدة، المزج بين أصوات الشخصيات. وبالنسبة إلى الأفكار فإنها تتجلى من خلال التاريخ الذي لا يتورع الكاتب عن تصحيحه على نحو ما فعل في ‘ قصة حصار لشبونة’، أو تتجلى بواسطة ابتداع وضعيات بعيدة الاحتمال على مستوى الحقيقة، وضعيات لا تبرر على المستوى العقلي ولا العلمي. هذه الأحداث المرعبة تعمق الطابع الكابوسي للعالم: في ‘ العمى’، وهي واحدة من أهم نجاحاته والتي نقلها إلى الشاشة فرناندو ميريل، الإنسانية بأسرها أصيبت بانعدام البصر. إن المواقف السياسية التي يتبناها هذا الكاتب الملتزم تثير الزوابع. وكثير من صفحات مدونته التي يضمها كتابه ‘ الدفتر’ هي ردود أفعال على بعض الأحداث وانتقادات لاذعة ضد بعض القادة ( برلسكوني، بوش، أثنار) الذين لا يغفر لهم مطلقا. لكن نظرته الموغلة في طابعها الشخصي والنقدي إلى التوراة هي التي تثير الجدل: في 1993، رحل إلى جزر الكاناري، في لانزاروت، من أجل الاحتجاج ضد أشكال الرقابة التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية في البرتغال على كتابه ‘ الإنجيل برواية المسيح’ حيث عرف ‘ المسيح’ الحب الجسدي مع ‘ ماري مادلين’. الموقف المضاد للدِّين الذي عبر عنه في رواية ‘ قابيل’ كان أكثر تطرفا. لكن النجاح الجماهيري لهذا الكاتب العالمي، الذي له مليون قارئ في بلده الذي تعداد سكانه لا يتعدى عشرة ملايين، لا يطاله الشك.
الكتاب الذي صدر اليوم في فرنسا هو مجموعة من النصوص المكتوبة لكي تنشر على مدونة، ماذا يضيف الإنترنت إلى شكل الكتابة، إلى كتابة اليوميات التي تمارسونها منذ مدة طويلة؟
الأشياء ـ تقريبا – هي أكثر بساطة مما نتخيل. لست أنا صاحب فكرة إنشاء مدونة، لكنها زوجتي بيلار. بدأت بمقاومة الفكرة، لكن حجاجها انتهى إلى إقناعي. وأنشأنا مؤسسة برئاستها، وبما أن هذا يبدو أساسيا مع مرور الوقت، فقد افتتحنا موقعا على الإنترنت. وطوال سنة، كتبت فيه بشكل شبه يومي بدون انضباط، ولا أظن أني سأعود إلى ذلك. لكن لا أحد يعلم، فليس من الحذر الرهان على المستقبل.
بدأتم خطابكم في استوكهولم بجملة: ‘ إن أكثر من عرفت من الرجال علما لم يكن يجيد القراءة ولا الكتابة’، وقصدتم بذلك جدَّكم الأمي. هل هذا يعني، بالنسبة إليكم، أن بعض أشكال المعرفة، وبل وحتى العلم، منفصلة عن الكتابة؟
إن التاريخ يقدم الجواب. بداية، يجب أن نتذكر أن الإنسانية بأسرها، بدأت بالأمية. وفي هذا الاتجاه، الطفل الذي يولد اليوم إنما يولد في ما قبل التاريخ. وبمجرد ما اخترعت اللغات، وجب الاستمرار في الاختراع عبر كتابتها. واستمرت هذه الصيرورة. المهم أن لا يتحول الإنترنت إلى عائق. نحن نعيش في عصر حيث لم يعد يبدو من الضروري أن نتعلم كي نعرف، وعلى غرار عديد من الأفعال الأخرى حيث الارتجال اللامسؤول هو القانون – وهذا يوجد في جميع التعابير الفنية – الإنترنت هو المكان الذي يقدم فيه الجهل التام وكأنه مثال يحتذى. نحن بصدد أسطرة الإنترنت.
لقد ألقيتم خطاب استوكهولم في حفل تسلم جائزة نوبل. وقد ذكرتم فيه المسؤولية الإضافية التي استشعرتم الانخراط فيها؟ في حياتكم، هل يوجد ‘ ما قبل’ و’ ما بعد’ نوبل؟
جميع الكتاب، وحتى لو أنكروا، يحلمون بجائزة نوبل، ولم أكن أشكل استثناء. إن هذا ‘ الما قبل’ و’ الما بعد’ أمر حتمي: إذ يكثر الحديث والترجمات والأسفار والحوارات. وعندما تحدثت عن مسؤولية أكبر، كنت أشير بخاصة إلى أنها المرة الأولى التي تعطى جائزة نوبل إلى مؤلف يكتب باللغة البرتغالية. وأعتقد بصدق، وبدون تواضع مزيف، أنه خلال الإحدى عشرة سنة الأخيرة كنت في مستوى هذه المسؤولية. وأستطيع إذن أن أؤكد أن جائزة نوبل لم تحدث أي تغيير في الشخص الذي كنته، والذي ما زلته.
أنتم تمارسون بالفعل هذه المسؤولية منذ بداية كتابتكم، وبخاصة بواسطة قوة ‘ اللا’ التي تضعونها ضد جميع أشكال الظلم، واللامساواة، والاضطهاد. هل لديكم الانطباع بأن تخلدوا بهذا صورة عن الكاتب الملتزم؟
كثير من الكتاب يؤكدون من دون مواربة أن أعمالهم الأدبية هي شكل التزامهم الوحيد. وأهميتهم المحتملة بوصفهم مؤلفين لا تبرئهم من زعم كهذا. إن ذلك شبيه بأن تقول: ‘ أنا موجود في العالم، لكني لا أنتمي إليه’. سيكون من المهم تحليل الاستراتيجية الإيديولوجية التي أدت إلى الاختفاء المنظم للالتزام. لو كانت لدي معجزة لأحييت بعض الكتاب الفرنسيين بدءا بكامو وسارتر. لقد أصبح من الشائع أن تطلب من المواطن العادي أن يلتزم تجاه المجتمع. يجب أن أقول أيضا للكتاب إننا لا نستطيع أن نسمح لأنفسنا بأي فصل، مهما كان، بين الكتاب الذين نَكُونُ والمواطنين الذين من الممكن التوقف عن أن نَكُونَهم.
رغبتكم في التأثير على العالم تتجلى أيضا في رواياتكم عن طريق المجازات التي تحاول أن تدفع القارئ إلى رؤية ما وراء المظاهر. هل هذا من أجل الحث على تغييرات في السلوك وتصحيح المستقبل؟
نعم، لكن مع وعي واضح أنه من أجل الوصول إلى هذا الهدف يبقى الكتـّاب غير كافين. أحب أن أتصور أن بعض أعمالي تمارس تأثيرا إيجابيا على نفسية القراء، لكني واع بما فيه الكفاية كي أقبل أن تأثير هذا الفعل لن يذهب إلى ما بعد سطح الكائن إن صح التعبير. لقد كثفت في جملة ما أعتقده حول هذا الموضوع: ‘ لن نغير الحياة ما لم نغير الحياة’. وحتى وإن بدوت ساذجا أستطيع أن أقول إنه من الضروري والعاجل أن نعيد الطيبة إلى العلاقة بين البشر. لكن، من أجل أن يتحقق هذا، فإن من الضروري والعاجل أيضا أن نفضح وبجذرية كل العوامل التي تحول دون هذا التحول؛ العوامل الاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية…سيقال، بالنسبة إلى متشائم بنيوي مثلي، هذا نوع من إبداء مقدار كبير من التفاؤل. في حين أن الوقحين كانوا ليبتسمون ابتسامة استعلاء. هذا عملهم. وليسوا بالقليلين هؤلاء الذين هم مأجورون من أجل القيام بذلك.
غالبا ما تتسم الوضعيات التي تخلقها بالشمولية: في ‘ الطوف الحجري’ نجد أن الجزيرة الإيبرية بأسرها تنحرف إلى الجنوب، في ‘ العمى’، كل البشرية مصابة بالعمى، في ‘ تناوب الموت’ لم يعد أحد يموت، وفي ‘ الوضوح’ 83 بالمئة من شعب صاروا يصوتون بالأبيض. وكأن الجماعي وحده يمكن أن يكون موضع اهتمام. إنكم تجعلون الفردانية وكأنها خطأ في مقابل مبدأ المسؤولية.
لا تخلو رواياتي من قصص الحب لكني لم أسع يوما إلى كتابة قصة حب. أن يقابل أنطونيو ماريا، وأن يقع هو في حبها أو هي في حبه، وأن يتأرجح حبهما بين وضعيات جيدة أو صعبة، وأن يكونا سعيدين أو حزينين، لا يوجد هنا شيء خارق، وهذا لا يهمني بوصفي كاتبا. ما يهمني هو الشخصية التي تتعرض لمواقف؛ أشخاص يبدو أنهم يتمنون حياة بسيطة وروتينية، والذين، وفجأة، وفي إثر حدث طارئ، سيضطرون إلى تغيير الاتجاه أو السلوك. وهذ هو الحال على سبيل المثال مع السيد خوسيه في ‘ كل الأسماء’، وريموند سيلفا المصحح في ‘ قصة حصار لشبونة’. يمكن أن تثيرني أيضا أزمة جماعية معيشة في الحالة التي تتحول فيها إلى مساءلة، وكأنها تستطيع أن تتكلم وتسأل الشخصيات: ‘ من أنتم؟’. إنها الكائنات التي تهمني، لكن أبغض الفردانية عندما تكون منبعا للشرور التي تعاني منها الإنسانية.
يعد التمييز بين البحث والرواية واهيا بالنسبة إليكم، العنوان البرتغالي لكتاب ‘ العمى’ هو ‘بحث حول العمى’.
في هذه الحالة ليس الأمر حكرا على ‘ بحث حول العمى’، ولكن يوجد أيضا في ‘ بحث حول الوضوح’ المنشور بفرنسا بعنوان ‘ الوضوح’. لقد قلت مرارا :’ أنا أكتب روايات لأني لا أعرف كتابة البحوث’، لا أستطيع أن أكون أكثر صراحة ووضوحا من هذا. أنا حامل ميل تربوي، تأملي إن أردتم، والذي لم يكن أبدا راضيا بالكامل. وفي بعض الأحيان فكرت أنه كان بإمكاني أن أكون مدرسا جيدا. وبدلا عن ذلك، اكتفيت بأن لا أكون كاتبا سيئا.
بالمقابل، من كتاب إلى آخر، نجد أن الشكل مختلف بعمق، ‘ الدفتر’ و’ رحلة الفيل’ مثالان واضحان في هذا الصدد. ‘ رحلة الفيل’ تتضافر مع أسلوبك الروائي شديد التميز الذي يجعل صفحة الكتاب مكثفة بوضوح، لكن القراءة تظل غاية في الانسيابية. كيف تركب هذه التوليفة؟
المقال، وبالأخص المدونة، تُكتب فعليا بلغة يومية أما الرواية، وهي مثل الشعر، فإنها تُبنى ضمن لغة تُكتشف شيئا فشيئا. الصفحة التي تتطلب مني دائما مقدارا أكبر من الوقت والتي تسبب لي عملا أكثر هي الصفحة الأولى. يجب أن أجد على الفور نبرة السرد المناسبة، وهذا ليس سهلا. في حالتي، أظنني أستطيع القول إني أبدأ بناء المنزل بالسقف. الشرط الأساسي هو الوصول إلى أن أسمع داخل رأسي الكلمات التي أكتب. نوعا ما أكتب لكي أُسمع.
في رواياتكم، تعطون دورا خاصا للسارد، المتدخل بشكل مباشر، الذي يمنح مسافة بنكهة من السخرية التي تبالغ في المأساوية. هل هذه طريقة لتأكيد حضور الكاتب؟
قضيت حياتي معلنا أن السارد لا وجود له. ومنذ سنوات،كنت مدعوا إلى حضور مؤتمر دولي في جامعة إدمونتون في كندا. عند وصولي، أعطوني كتيبا يضم عرضا لكل مداخلة، ما يقارب الثمانمئة. انكببت على قراءتها ووجدت كلمة السارد عشرات المرات، لكني لم أجد أبدا كلمة المؤلف. وتذكرت أن ‘ بارت’ أعلن موت المؤلف. وكان بين يدي الدليل على هذا الموت الحزين: بالنسبة إلى مئات من أساتذة الجامعات الذين أتوا من جميع القارات، المؤلف توقف عن الوجود.
في رواياتك الأولى، ‘ الإله الأكتع’ الشخصية الرئيسية امرأة، هي بليموندا، التي تتمتع بموهبة النظر إلى باطن الكائنات. في ‘ العمى’ امرأة واحدة هي التي ستبقى مبصرة، يبدو وكأنكم تعتبرون أن النساء يقاومن بشكل أفضل العمى العام، وكأنهن أكثر قوة. كتبتم في ‘ الدفتر’: ‘ مع النساء لن تستقر الفوضى في هذا العالم، لأنهن دائما عرفن أبعاد الإنسان’، ومع ذلك، في ‘سفر الفيل’، الملكة لم تفعل شيئا سوى النظر إلى مغادرة الفيل والبكاء بسبب موته…
امرأة في السلطة، سواء كانت سلطة سياسية أو اقتصادية، هي رجل. عندما قدمت ذاك المديح ومدائح أخرى للمرأة، لم أكن أفكر في دونية جنس، الجنس الذكوري، واستبداله بالآخر، الجنس النسائي. إلا في حالات استثنائية تماما، أن تزيل كائنا إنسانيا وتضع مكانه شخصا آخر، أيا كان جنسه، لا يحل شيئا. في نصائح إدارة كبريات الشركات المتعددة الجنسية، لا يوجد إلا الرجال. الملكة البرتغالية التي بكت موت الفيل كانت موجودة في الحقيقة، لكن أن تبكي فيلا ليس أمرا يمكن تصديقه. من الممكن أن المزايا التي أراهن عليها في النساء ليست قريبة من الحقيقة، لكني هكذا أريد أن أراهن. الرجال، لدينا منهم كثير.
تولون أيضا أهمية كبرى للكرامة الإنسانية، إلى الموقف الرابط الجأش الموروث عن قرويي ‘ ألنطيخو’. هل تبحثون عن جعل هذه المزايا ذات قيمة عليا في رواياتكم.
الخصائص الأخلاقية لشخصية ما ليست نوعا من اللباس الجاهز الذي يمكن أن يتماشى مع أي جسد. إنها تتجلى وتُعرّف في خضم الفعل. ما قلته أعلاه عن الشخصية التي تتعرض للمواقف ينطبق باكتمال هنا. الكاتب بدأ بعدم معرفة من هو خوسيه في ‘ كل الأسماء’، والسيد خوسيه لم يعلم هو الآخر من يكون. كان علينا كلينا أن ننتظر أن يحدث شيء ما وأن يحدث ذلك بعض الأثر.
البرتغال حاضرة بقوة في أعمالكم. أحد ‘ أساتذتكم’ الأوائل في الأدب هو اسم مستعار لفرناندو بيسوا، والذي خصصتم له ‘ سنة موت ريكاردو رييس’. إن رواياتكم تبعث أوقاتا معلومة ومجهولة من تاريخه. هذا الانغراس العميق هل هو عائق في وجه رؤيتكم الكونية للعالم؟
بدون المحلي، الكون لا يمكن أن يوجد، الرؤية الكلية لا يمكن أن تتخلى عن الإدراك القريب. البرتغال بلد صغير، والقرية التي ولدت فيها هي مجهرية تقريبا. عندي إحساس قوي بالحقيقة في كل شيء، وهي التي تسمح لي أن أتجه إلى الأمام. أنا متعلق بأصولي القروية وحر في معانقة العالم في كليته في الآن نفسه، دون تناقض ودون اصطدام ودون صدمة نفسية. ومن أجل أن أنتقل من جهة إلى أخرى لم أحتج أبدا إلى أن أمسح قدمي.
في ‘ رحلة الفيل’ تتناولون رحلة على الأقدام لفيل وسائسه من لشبونة إلى فيينا في منتصف القرن السادس عشر. المؤسسة التي تترأسها زوجتكم نظمت رحلة عبر البرتغال لزيارة الأماكن التي أعدتَ إبداعها. ماذا قدمت هذه المواجهة بالحقيقة؟
مناظر ‘ رحلة الفيل’ هي إبداع خالص. لم يكن أبدا لدي نية عرض منطقة أعرفها جيدا، فقط بكلمات عامة. كان بالنسبة إليّ من المستحيل أن أتخيل كيف كانت القرى والمدن البرتغالية في القرن السادس عشر. وأتساءل أيضا إن كان بالإمكان أن نصف مكانا ما. ونحن نصف، ألا نلصق حقيقة موضوعية بحقيقة تخييلية؟
روايتكم الأخيرة ‘ قابيل’ ظهرت للتو في البرتغال، وأثارت ردود فعل شديدة العنف. هل كنتم تتوقعونها؟
اعتدتُ أن تغتاظ الكنيسة الكاثوليكية مما أكتب، لكن، في حالة ‘ قابيل’، وباعتبار الرواية لا علاقة لها بـ ‘ العهد القديم’ لم أتوقع سوى ردود فعل شكلية فقط، أي مسألة أن لا تبقى الكنيسة صامتة، ولم تكن الأمور على هذا الشكل. الأساقفة واللاهوتيون البرتغاليون انقضوا عليها بسرعة كلاب بافلوف التي تتحرك بفعل الجرس. صحيح أني أثرتهم بالقول في بعض المقابلات الصحفية إن التوراة ‘ التي هي كتاب عادات سيئة’ يجب أن لا يعطى للأطفال الصغار كي يقرؤوه. وقد اتهموني بأني قمت بقراءة عرضية للنص، فأجبتهم بأن للقيام بقراءة رمزية يجب أن نجلس لاهوتيا إلى جانب كل قارئ مؤمن أو مجرد فضولي. في نيسان ( أبريل) أو أيار ( مايو) سيصدر الكتاب في إيطاليا. ينتابني فضول عارم حيال ذلك.
كتبتم: ‘ الإله هو صمت الكون، والإنسان هو الصرخة التي تعطي لهذا الصمت معنى’، في ‘ كل الأسماء’ تعبر عن ‘ فكرة الفوضى التي هي الْحَكَمُ الوحيد للكون’. في ‘ قابيل’ تقارنون بين الإله والشيطان بِعَدِّهِما مسؤولين أيضا عن آلام الأرض. هل أنت ملحد كليا؟
نعم، ملحد كليا، وبسبب ألف مبرر. وسأذكر فقط واحدا منها. منذ الأزلية التي سبقت خلق الكون، الإله لم يفعل شيئا. ثم، ولا ندري لماذا، اتخذ قرار خلق الكون، وقام بذلك في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح. وما زال مستريحا إلى الآن، وسيستمر مستريحا إلى الأبد. كيف يمكن أن نؤمن به؟
صرحتم بأن ‘ قابيل’ ستكون روايتكم الأخيرة، ومع ذلك، في حاشية ‘ قصة حصار لشبونة’ وضعتم قولة من ‘ كتاب النصائح’ :’ ما دُمتَ لا تطال الحقيقة / فأنت لا تستطيع تصحيحها. لكن، إذا كنت لا تستطيع تصحيحها،/ فلن تستطيع الوصول إليها. وفي انتظار ذلك، لا تستسلم’. هل لديكم الانطباع أنكم قاربتم هذه الحقيقة؟
كما قلت سابقا، ليس من الحصيف المراهنة على المستقبل، خصوصا عندما أعمل على رواية أخرى لا أدري إلى أين تقودني. أفترض أني سأكتب ما دمت أقدر. هل من أجل الوصول إلى الحقيقة؟ الأكثر ورودا أني لن أتعرف إليها إذا ما صادفتها في ساحة قريتي أو في جادة سان ميشيل.
ـ عن المجلة الأدبية الفرنسية عدد 4 و 5 آذار (مارس) الماضي.
‘ عن المجلة الأدبية الفرنسية
عدد 4 و 5 آذار (مارس) الماضي.
‘ باحث ومترجم من المغرب
القدس العربي