عندما تحل السلطة محل الوطن
ابراهيم ابراش
يبدو أن السلطة في عالمنا العربي حلت محل الوطن، وأصبح نضال الأحزاب والنخب ليس من أجل الوطن بل من أجل السلطة، فليس بعد الوصول للسلطة من جهد إلا للحفاظ عليها.
السلطة كأشخاص ومؤسسات وعلاقات سلطوية بين الحاكمين والمحكومين، ليست الوطن، بل أداة تنفيذية لاستقلال الوطن إن كان محتلا، ولبنائه إن كان مستقلا، ولحمايته إن كان مهدداً. فهدف كل سلطة سياسية في أي مجتمع هو تأمين المجتمع من المخاطر الخارجية وتحقيق الوفاق والانسجام الداخلي بين مكونات المجتمع، كما أن السلطة أحد مكونات الدولة بالإضافة إلى الشعب والإقليم.
وفي جميع الحالات وبغض النظر عن مصادر شرعية السلطة السياسية القائمة يجب أن تكون العلاقة واضحة ما بين السلطة ذات السيادة والدولة والمجتمع، والانسجام بين هذه المكونات الثلاثة يُنتج ما يسمى الوطن كحاضنة مادية ومعنوية للمواطن وكانتماء وشعور يحمله معه المواطن أينما حل وارتحل.
السلطة وحدها ليست وطناً والدولة وحدها ليست وطناً، فالمواطن يخضع لهما قانونياً، ولكنهما لا تشكلان انتماء وجدانيا. وحتى المجتمع قد لا يشكل وطنا لأبنائه في بعض الحالات، فكثير من الأفراد يشعرون بأنهم ساكنة وليسوا مواطنين، حيث ينتابهم إحساس بالاغتراب الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتهم، والتطلع للهجرة للخارج وخصوصا بالنسبة للمثقفين والأدمغة خير دليل على ذلك.
في المجتمعات الديموقراطية العقلانية، وحيث إن من يتبوأ مواقع السلطة منتخبون من المجتمع، ويعبرون عن رغباته وتطلعاته ويستطيع الشعب التحكم في ممارساتهم ومراقبتهم وتغييرها بالانتخابات وبضغط الرأي العام الخ، فإن علاقة تصالحية توجد ما بين السلطة والمجتمع وما بين السلطة والوطن، وبالتالي فإن الأحزاب والقوى التي تتنافس أو تتصارع للوصول إلى السلطة لا تخرج عن إطار المصلحة الوطنية، حيث يبقى التنافس والصراع ضمن ثوابت الأمة ومرجعياتها، صحيح أن السلطة تمنح امتيازات وتحقق مصالح للنخب الحاكمة ولا تخلو أحيانا من فساد واستغلال نفوذ، ولكن هذه النخب في المقابل تعمل من أجل المصلحة الوطنية أو الوطن بما هو المشترك بين كل مكونات المجتمع من أفراد وجماعات وثقافات فرعية وأحزاب سياسية.
أما في العالم العربي ومنذ الاستقلال ونحن نشهد صراعاً على السلطة، وغالباً، إن لم يكن كلياً، صراعاً دموياً غير ديموقراطي عبر الانقلابات التي سُميت ثورات وعبر حروب أهلية أو انتخابات شكلية، لا علاقة لها بالممارسة الديموقراطية الحقيقية، وكل ذلك كان وما زال يتم باسم الوطن والمصلحة الوطنية أو باسم الدين، وحتى اليوم فالذين يتمسكون بالسلطة يستقوون بالأجهزة الأمنية والجيش، والذين يتطلعون إلى السلطة عبر العنف السياسي أو الجهادي، وغالبية الذين يتطلعون للسلطة ويناضلون للوصول إليها موظِّفين خطاب الثورية والوطنية أو خطاب الديموقراطية، إنما يتطلعون للوصول للسلطة كهدف بحد ذاتها، وهذا ما لمسناه خلال العقود الماضية، حيث إن من يصل للسلطة ينسى كل شعاراته الكبيرة عن الوطن والوطنية، ويصبح هدفه الحفاظ على السلطة والتمتع بامتيازاتها على حساب الوطن. وهنا نلاحظ كيف أن تضخم السلطة في العالم العربي يتواكب مع انهيار الوطن والدولة الوطنية، ونلاحظ أن نخب السلطة تزداد ثراء وفسادا، فيما الوطن ينهار وتصبح الدولة الوطنية محل تساؤل، من الصومال إلى السودان واليمن والعراق، حتى مصر والجزائر ولبنان ليسوا بعيدين عن أزمة الدولة الوطنية. فهل مفهوم الوطن عند الحوثيين في اليمن هو نفسه عند الحراك الجنوبي أو عند أحزاب السلطة؟ هل مفهوم الوطن عند شيعة العراق نفسه عند البعثيين المُبعدين عن السلطة والسياسة؟ هل مفهوم الوطن عند السلفية الجهادية في الجزائر نفسه عند جبهة تحرير الجزائر؟ هل مفهوم الوطن عند حركة «حماس» نفسه عند حركة «فتح» وسلام فياض؟ هل مفهوم الوطن عند تنظيم «القاعدة» في أي بلد يكون فيه نفسه مفهوم الوطن عند السلطة وأحزابها ونخبها؟ الخ.
عندما نتحدث عن السلطة السياسية في الدول الديموقراطية إنما نتحدث عن أجهزة ومؤسسات عسكرية أو مدنية بيروقراطية ثابتة لا تتغير مع كل رئيس أو حزب جديد، وعن نخبة سياسية حاكمة تعمل بتكليف من الشعب لفترة زمنية ثم تتغير لتحل محلها نخبة جديدة، دورة النخبة أو التداول على السلطة لا يسمح لمن هم في السلطة بترسيخ علاقات مصلحية دائمة، حيث هناك فصل ما بين السلطة والثروة، وبالتالي، فإن أصحاب الثروات في الغرب ليسوا أصحاب السلطة السياسية، بل من نخب اجتماعية واقتصادية، أما في عالمنا العربي، وحيث لا تداول للسلطة إلا ضمن نطاق ضيق، وحيث إن النخب الحاكمة تستمر لعقود، فإن اقتراناً يحدث ما بين السلطة والثروة، ولتحمي السلطة المقترنة بالثروة نفسها تلجأ لإفساد كبار رجال الجيش والأجهزة الأمنية وقادة الرأي العام من قادة أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ورؤساء تحرير أهم الصحف ورجال دين الخ ، بالمال والامتيازات، كما تسعى لإنتاج نخب جديدة مستفيدة من السلطة القائمة لحمايتها وفي كثير من الحالات تكون نخباً عائلية أو طائفية أو إثنية، وتصبح علاقة اعتمادية متبادلة ما بين الطرفين، ويصبح هدف السلطة والنخب التابعة ليس مصلحة الوطن، بل الحفاظ على ما بيدها من سلطة، لأن السلطة هي التي تضمن حفاظها على مصالحها، وهذه الأطراف مستعدة للدخول في حرب أهلية ليس دفاعاً عن الوطن، بل دفاعاً عن مصالحها، أو دفاعاً عن وطن تضع السلطة مواصفاته ومرتكزاته، حيث يتماهى مع السلطة، وبالتالي يصبح المساس بالسلطة مساساً وتهديداً لهذا الوطن، وطن السلطة، وليس وطن الشعب.
المُلاحظ أن الدول العربية المستقلة لديها أزمة دولة وأزمة علاقة بين الدولة والمجتمع وبين السلطة والمجتمع وأزمة بين مكونات المجتمع الإثنية والطائفية، بمعنى أنها تعاني أزمة وجودية، وهذا ما يتطلب عقدا اجتماعيا جديدا يؤسس لمشروع وطني جديد.
*ينشر في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» في المغرب
السفير