الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

إيران في مفترق طرق

عمّار علي حسن
ما جرى في الانتخابات الرئاسية الإيرانية أكبر وأهم بكثير من مجرد احتجاج أحد طرفي السباق على النتيجة، ومطالبته بإعادة الانتخابات، وتشكيكه في صحة فوز نجاد بها. فمثل هذه الأمور عادية وطبيعية، ويمكن أن تقع في أي بلد، بما في ذلك الدول راسخة الأقدام في الديمقراطية. لكن ما هو غير طبيعي، ولا يمكن أن يمر على ذهن أي متابع ومدقق في بنية النظام السياسي الإيراني، ويعرف طبيعة الأيديولوجية التي تشكل إطاراً حاكماً له، لا فكاك منها، هو تعدي الاحتجاج حاجز المسائل الإجرائية ليصل إلى التذمر من الفلسفة الدينية العامة للحكم، والتمرد على شرعيته الثورية، أو على الأقل الغبن منها، ووضعها أمام مساءلة، للمرة الأولى منذ وقوع الثورة الإيرانية في عام 1979.
لقد شهدت إيران عدة انتخابات وتعاقب عليها سبعة رؤساء جمهورية على مدار ثلاثين عاما، لكن الانتخابات، برلمانية كانت أم رئاسية، ظلت تجري في حيز محدد سلفاً، وعلى هامش ضيق من الصلاحيات السياسية للرئيس، الذي يعد الرجل الثالث، وليس الأول في النظام، بعد المرشد الأعلى للثورة، ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام. وكان المتسابقون يسلمون بهذا الأمر، ويرتضون بالشكل على حساب المضمون، ويحشدون الناس وراء مسلمات لا يتعداها أحد، وليس بوسع أي جماعة أو فرد أن يتمرد عليها، ألا وهي “ولاية الفقيه”، التي تعد الفكرة الأساسية والعمود الفقري للنظام السياسي برمته.
وأياً كانت نتيجة الانتخابات في الماضي فإنها بدت على الدوام حصيلة لهذا التصور الراسخ، الذي يتحول فيه الدين إلى أيديولوجيا ويبقى خادماً للشرعية وحارساً عليها، وضابطاً لإيقاع السياسة الإيرانية، مهما شهدت من أزمات داخلية على خلفيات اقتصادية واجتماعية، وخارجية مستمرة على أسباب ترتبط بمواجهة طهران للغرب تارة، وطموحاتها الإقليمية تارة أخرى.
الانتخابات الأخيرة تنقل إيران خطوة في اتجاه مفارقة الشرعية الدينية الثورية، للدخول باتجاه الدولة العصرية التي تضع القرار في يد الأمة.
أما الانتخابات الأخيرة فإنها تنقل إيران خطوة في اتجاه مفارقة الشرعية الدينية الثورية، والدخول أكثر في اتجاه الدولة العصرية، التي تضع القرار في يد الأمة، وتبني مشروعية النظام على أساس القانون الوضعي، الذي قد لا يكون بالضرورة مخالفاً للشرع ومجافياً له، لكنه يفتح الباب تدريجياً أمام فئات أخرى خارج المؤسسة الدينية لتأويل النصوص، ورسم الحدود الفاصلة بين الدين بجلاله وقدسيته وبين السلطة السياسية بكل ما قد تنطوي عليه من أطماع شخصية وفئوية.
وبالطبع فإن هذه المسألة لن يربحها بعض أنصار “التيار الإصلاحي” بسهولة، ولن تتم دفعة واحدة، وستنسلخ ببطء لكن بثقة من إسار نظام سياسي يهيمن عليه الملالي، كما ينسلخ النهار من الليل، وهي آتية لا ريب فيها، ليس من قبيل التمني ولا القفز على حقائق الواقع، لكن من زاوية القراءة المتأنية للواقع الإيراني الذي سبق انتخابات الرئاسة الأخيرة وتخللها وأعقبها.
لقد ذهب الإيرانيون إلى صناديق الاقتراع وهم يعرفون أن المرشد الأعلى للثورة يميل كل الميل إلى نجاد، وفهموا، من دون شك ولا مواربة، ما كان يعنيه بدعوته الشعب الإيراني إلى اختيار الشخص الذي لا يرغب فيه الغرب. ومع هذا -وحسب النتائج الرسمية- اختار نحو ثلث من أدلوا بأصواتهم الشخص الآخر، على النقيض من موقف المرشد. أما لو أخذنا النتائج غير الرسمية فسنقول إن نصف الإيرانيين ممن لهم حق التصويت لم يتبعوا نصيحة خامنئي.
وحين انتهت الانتخابات إلى النتيجة التي تم إعلانها، لم يرضخ ملايين الإيرانيين لدعوة المرشد لهم إلى التسليم بفوز نجاد، بل نزلوا إلى الشوارع، ونظموا احتجاجات عنيفة قتل وجرح فيها العشرات، ودمرت خلالها محلات وسيارات. واستمرت الاحتجاجات العنيفة رغم أن خامنئي استقبل موسوي وطلب منه الاحتجاج بطريقة هادئة وشرعية والتقدم بطعونه إلى مجلس صيانة الدستور الذي سيبت فيها في مدة لا تتجاوز عشرة أيام، ثم وجه رسالة إلى المجلس يطالبه فيها بـ”التعامل بدقة” مع اعتراضات موسوي، على رغم أن هذه الطعون تنطوي على المطالبة بإلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها، وذلك على غير ما يريد خامنئي ويهوى.
أما العدد الضخم من المشاركين في الاحتجاجات فقد أعطى برهاناً ناصعاً على حجم التأييد الشعبي للتيار الإصلاحي داخل إيران، الأمر الذي سيمكن هذا التيار من مواصلة نضاله، سواء نجح في انتزاع قرار بإعادة الانتخابات أو لم ينجح، وهي مسألة عبرت عنها زوجة موسوي بقولها إن: “التيار الإصلاحي سيواصل طريقه حتى النهاية”. وهذا يعني ببساطة أن الأيام المقبلة في إيران لن تكون كسابقتها، وأن ساعد الإصلاحيين سيشتد في السنوات الأربع القادمة، وسيكون أداؤهم في الانتخابات الرئاسية وقتها مختلفاً.
إن من يمعن النظر في السجال الإعلامي والفكري الذي دار بين ممثلي الإصلاحيين ونظرائهم المحافظين يكتشف أن الانتقادات لم تقف هذه المرة عن حد المرشحين وبرامجهم وسلوكياتهم، ولا المؤسسات السياسية والأمنية بالدولة، بل صعدت إلى ما هو أعلى وأكبر من ذلك بكثير، أي أنها طالت المرشد نفسه، وغمزت في قناته، على موقفه المؤيد لنجاد. وحديث من هذا القبيل لم يكن معتاداً في إيران من قبل، بهذا الاتساع وتلك الدرجة. وهو من دون شك مرشح للاستمرار بل والتصاعد في السنوات المقبلة، ليطول مجالات جديدة، عن ضرورة توسيع قاعدة الترشيح في الانتخابات، والتي تضيق بإرادة “مجلس تشخيص مصلحة النظام” الذي من سلطته البت في صلاحية من يتقدمون للمنافسة على منصب رئيس الجمهورية.
لقد صنع الخميني نظام “ولاية الفقيه” على عينه، ليعطي سنداً كبيراً وراسخاً للثورة الإيرانية، التي أطاحت بحكم الشاه المستبد. وكانت هذه الصيغة وقتها حلا لإشكاليات عديدة، تخص شعباً كانت تقتنع أغلبيته الكاسحة قبل قرون بأن دولتها لن تقوم إلا بحضور الإمام الغائب، ثم تغاضى عن هذا الشرط مستسلماً للعبة الشاه إسماعيل الصفوي حين ادعى أن الإمام قد أوكله أو أنابه عنه في الحكم، ثم تغاضى مرة ثالثة حين انتقلت الوكالة أو الإنابة إلى “ولاية الفقيه” ليصبح هو من يحل مكان الإمام الغائب في قيادة الدولة حتى يعود. وكان الهدف من إطلاق هذه الفكرة هو تولي رجال الدين السلطة السياسية في إيران بعد الثورة، وخلق مسار مقدس لهذا المسلك، من يعارضه يصبح في حكم الخارج عن الملة.
وظني أن نظام “ولاية الفقيه” لم يعد صالحاً لتخويل النظام الإيراني صلاحية مطلقة، مثلما كان عليه الحال في الماضي، ولم يعد هو الدعامة الوحيدة والركيزة المتفردة للشرعية. فالإيرانيون يبحثون هذه الأيام عن “الإنجازات” ويقيمون حكامهم بحجم ما قدموا للناس، ومقدار ما نفذوه من برامجهم الانتخابية، ولا ينظرون إلى نجاد باعتباره اختيار المرشد فقط، بل أيضاً يناقشون سياسته الداخلية والخارجية، ويعددون ما فيها من عيوب وثقوب، ويسجلون ضده كل ما اعتور السياسات العامة خلال السنوات الأربع التي قضاها في الحكم، ويقيسون ما إذا كان نهجه في السياسة الخارجية يشكل خطراً على الدولة الإيرانية أم لا. ومثل هذا الخطاب النقدي ساد الحملات الانتخابية، وطغى على المواجهات أو المناظرات التي جرت بين المرشحين، والتي نقلتها وسائل الإعلام الإيرانية، ليكتشف الشعب الإيراني أن بعض رجال النظام، ممن يخلطون الدين بالسلطة، قد فسدوا، وأخذوا ما ليس لهم بحق من أموال الإيرانيين.
ومما يزيد من فرص الضغط على المؤسسة الدينية الإيرانية أنها هي لا تواجه خصومها مجتمعة، بل لقد اعترتها الفرقة وأصابها الانقسام. فآية الله منتظري خرج من عزلته وشارك في الانتخابات بعد مقاطعة استمرت 20 عاماً، وآية الله صانعي أطلق فتوى بـ”تحريم التعامل مع حكومة نجاد”، ولم تدعم جمعية رجال الدين المجاهدين المحافظة نجاد في الانتخابات، وهو بدوره لم يستثن بعض رموزها مثل ناطق نوري وهاشمي رفسنجاني من الانتقادات اللاذعة.
لكن هذه الخلافات الداخلية في إيران لا تعني أن أياً من المتنافسين، أو حتى المتخاصمين، يتماهى مع المشروع الغربي الرامي إلى إحداث تغيير ذاتي لإيران، فهناك إجماع وتطابق بين كافة الفرقاء على الملفات الاستراتيجية والحيوية، وفي مطلعها الملف النووي ومواجهة الولايات المتحدة، حتى وإن اختلفت الأساليب. كما أن الجميع متفقون على الخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية الإيرانية، التي تتمتع باستمرارية بغض النظر عن التوجهات الأيديولوجية للقوى السياسية الحاكمة في طهران.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى