لن يصلح عطّار المصالحات العابرة ما أفسده دهر الطائفية!
وديع حمدان
تتوالى مواسم الصراع في لبنان بين صعود وهبوط. وفي الآونة الأخيرة، إزدهر موسم المصالحات بين القوى السياسية، بدءاً من مبادرة سعد الحريري في الشمال والبقاع، مروراً بلقاء وفدين من حزب الله والحزب التقدمي في خلدة، وصولاً الى مشروع جمع أمين عام حزب الله رئيس “المستقبل” في بيروت. فضلاً عن المحاولات الجارية لرأب الصدع في الشارع المسيحي. هذا إضافة الى بدء الحوار الوطني الذي دعا اليه إتفاق الدوحة، برعاية رئيس الجمهورية.
في المبدأ، لا يمكن الاّ تأييد إجراء المصالحات والتشجيع عليها لما تثيره من أجواء تهدئة. ولكن السؤال هو هل نحن أمام مصالحات راسخة وجدية، أم نحن أمام أعمال عابرة فرضتها اعتبارات وظروف مؤقتة؟ خاصة أن الحوادث الأمنية المتنقلة في المناطق مستمرة: مقتل شاب من تيار المستقبل في تعلبايا، ورمي قنابل في كورنيش المزرعة في بيروت، والاعتداء على نُصب وأضرحة لشهداء شيوعيين في كفرمان، من جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد إسرائيل، والإشتباك بين عناصر من حزب الله ومحازبين للحزب التقدمي في بشامون، والتفجيرات والاشتباكات في مخيم عين الحلوة، واغتيال صالح العريضي في بيصور الذي ارتبط اسمه بالمصالحات في الجبل، ومقتل عنصر من القوات اللبنانية وآخر أنصار سليمان فرنجية في حادث بصرما الكورة.
وما يثير الخوف على هذه المصالحات هو موقف النظام السوري الذي عاد الى استحضار بعض الشخصيات والقوى السياسية اللبنانية الدائرة في فلكه، وتنظيم الزيارات العلنية لها الى دمشق، وإطلاق التصريحات التي تقسّم اللبنانيين بين وطنيين وحلفاء لإسرائيل، إضافة الى الحشد العسكري السوري على الحدود الشمالية الذي يهدف الى توجيه رسائل ضغط للتأثير على الوضع الداخلي اللبناني.
إن العطب الأساسي في المصالحات الجارية هو أنها تقوم على أرضيّة إستمرار النزاع السياسي التناحري والقهري، المتمثل بالإنضواء (مباشرة أو على نحو غير مباشر) في أحلاف ومعسكرات خارجية، والاستقواء بها لإحداث تعديلات في موازين القوى الداخلية. وما دفاع السيد حسن نصرالله عن أحداث أيار واعتبارها أنها أنقذت لبنان، بدل الاعتذار عنها، الاّ تعبير عن عمق الفجوة في هذه المصالحات. كما أن إطلاق النار على طائرة مروحيّة للجيش اللبناني ومقتل قائدها النقيب سامر حنا، ماهو الاّ رسم بالنار من قبل حزب الله للإستراتيجية الدفاعية التي يريدها، حيُث يكون الجيش والدولة تابعين له فيها وليس العكس!
وما يجعل المصالحات بعيدة عن نزع فتائل التفجير هو أن تبقى فوقيّة بين القيادات، ولا تسحب نفسها الى القواعد على الأرض، حيث الاحتقان والشحن على حالهما. كما أن هذه المصالحات لاتطرح مسألة جمع الأسلحة من أيدي المحازبين، ولاتتناول محاسبة المرتكبين الذين قاموا بأعمال اعتداء وتسببوا بمقتل وجرح مواطنين، أو مارسوا أعمال تخريب وسرقة منازل واقتحام مؤسسات اعلامية ومهنية، مثلما جرى في أحداث أيار المشؤومة.
ومن الواضح أن كل طرف في المصالحات يريد منها هدفاً خاصاً، وإن كان هناك جامع مشترك هو عدم ترك زمام الأمور يفلت من الأيدي، ولا يعود التحكّم به ممكناً. فهناك من يسعى الى حماية الذات وإعادة التموّضع، وهناك من يريد تهدئة الأوضاع للسماح بإجراء إنتخابات نيابية يصبو للفوز فيها. والكلّ يفَضّل تمرير الوقت الى حين حصول متغيرات في المنطقة، وهذا على الارجح ما جعل الجلسة الثانية للحوار برعاية رئيس الجمهورية تؤجّل لمدة خمسين يوماً بعد انطلاقها، أي الى ما بعد الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، وقياس أثرها على الملفات الإقليمية، وفي طليعتها الملف النووّي الإيراني، كما الى ما بعد جلاء أمر المفاوضات السورية الإسرائيلية، بعد التعديل الحكومي في إسرائيل.
لقد بات مصير الأوضاع في لبنان مرتبطاً بالكامل بالتوافق الخارجي حوله، بسبب اعتباره ساحة للصراع الإقليمي والدولي وعجز قواه الداخلية عن توفير حصانة وحياد نسبيّ له، بحكم اندماج معظمها في هذا الصراع. ومن غير المؤكّد بعد أن التوافق الخارجي حول لبنان حاصل في المدى القريب، بحكم ما يعتري السياسة الأميركية من تخبّط، وبحكم ما يشبه العودة الى الحرب الباردة مع روسيا. وما يُخشى منه أن لبنان الكيان والوطن، يتآكل ويخبو مع الوقت، على جميع المستويات السياسية والإقتصادية، ومؤسسات الدولة تفرّغ من مضمونها، وتعطّل دور القوى العسكرية والأمنية عن ممارسة دورها أبلغ دليل على ذلك.
تأسّس لبنان الكيان والدولة، في ظرف تاريخي محدّد، على توازنات ومحاصصات سياسية طائفية، جعلته يتأثر ويهتزّ مع كل تغيّر في محيطه. وما تاريخه سوى مسلسل من الاهتزازات المتقطعة، التي تأخذ غالباً شكلاً من أشكال الصراعات والحروب الداخلية بين مكوّناته الطائفية، وتصيب أول ما تصيب مؤسسات الدولة، فيهتزّ نتيجة لذلك كل البنيان السياسي والإجتماعي. وكلّ الإتفاقات والتسويات والمصالحات الطائفية هي بالتعريف هشّة ومؤقتة، وإن استدامت بعض الشيء، وأنقى صورة عن ذلك هو إتفاق الطائف، الذي على أهميته، لم ينجح في تفعيل المؤسسات ولا في تجاوز الطائفية التي غالباً ما تهمّشها لصالح توازنات من خارجها.
إن حماية لبنان الكيان والوطن وتطوره، بلّ إنقاذه من التشرذم والتفتت والإنحلال، يحتاج الى إعادة بناء الدولة فيه على أسس تعاقدية جديدة قائمة على تحديد موقعه في المنطقة بناء على مصالحه وحمايته والدفاع عن استقراره، وقائمة أيضاً على حقوق المواطنية فيه، بدلاً من حقوق رعايا الطوائف، وانطلاقاً من تأسيس المؤسسات المدنية عوض المحاصصات المذهبية. وهذا يستدعي إجراء إصلاحات سياسية، وإدارية وإقتصادية، يأتي في طليعتها قانون إنتخابي جديد يؤمّن عدالة التمثيل ويرفع من مستوى المشاركة ويجدّد النخب السياسية، ويتيح لجميع مكوّنات الشعب اللبناني التمثّل، عبر اعتماد النظام النسبي، على خلاف قانون “الستين” الذي جرى إقراره من المجلس النيابي بموافقة الاكثرية الساحقة من القوى السياسية، من دون الأخذ بالقضايا الإصلاحية التي قدّمها مشروع فؤاد بطرس، إن لجهة شكل التمثيل أو لجهة القوانين الإجرائية والإدارية التحديثية التي اقترحها.
من هنا، فإن العمل لاستنهاض القوى الديمقراطية والعلمانية الاستقلالية وتنظيم نفسها لحمل لواء الإصلاحات، يجب أن لا يبقى مهمة مؤجلة تحت أيّ ظرف من الظروف. فهذا ما يعطي معركة الإستقلال الوطني التي يخوضها لبنان منذ سنوات بعدها الحيوّي، ويحصّنها ببناء الدولة المنشودة…
نشرة الأفق
www.al-ofok.com