صفحات مختارة

هـــذه كـــلــفـــة حــــرب الــعــراق

null

جوزف ستيغليتز الحائز جائزة نوبل للاقتصاد يعرضها في كتابه الجديد

في أوج انهماك الاميركيين بالانتخابات الرئاسية التي تكاد تنسيهم اي موضوع آخر، بدأوا يسمعون أخباراً عن حربهم في العراق هي في احسن الاحوال مصدر قلق أو اضطراب كي لا نقول صدمة. فمع اقتراب الذكرى الخامسة لهذه الحرب بعد ايام، في 19 آذار الجاري، جاء جوزف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد عام 2001
والمسؤول السابق في البنك الدولي والاستاذ حاليا في جامعة كولومبيا بنيويورك، ليقول لهم عمليا في كتاب وضعه مع زميلته في جامعة هارفرد ليندا بيلمز : انتم تعرفون انكم بالضرائب التي تدفعون تساهمون في تمويل الحرب، لكنكم قد لا تعرفون كلفتها والى متى ستواصلون الدفع، واذا كنتم تظنون ان الامر ينتهي بإنسحاب الجنود الاميركيين من العراق فانتم مخطئون. الانعكاسات ستستمر على الاقتصاد سنوات واولادكم لا بل احفادكم سيتحملّون الكثير من الاعباء المادية والمعنوية. انسوا ما سمعتموه من ادارة الرئيس جورج بوش عشية الحرب من ان الكلفة ستبلغ ما بين 50 ملياراً و60 مليار دولار، وانسوا حتى التقدير الذي وضعه لاري ليندسي المستشار الاقتصادي لبوش والذي بلغ 200 مليار دولار وبسببه خسر وظيفته، بل انسوا مئات المليارات التي اضافتها الادارة مذذاك علنا أو خفية، واسمعوا: الكلفة الحقيقية للحرب على الاميركيين لن تكون أقل من ثلاثة تريليون دولار والكلفة على العالم قد تكون ضعفي هذا المبلغ. وهذه التقديرات بحسب المؤلفين”متحفظّة”. ومن يجد صعوبة في الحساب فليتذكر ان التيرليون يساوي مليوناً مضروباً بمليون.

هذا الرقم اختاره ستيغليتز وبيلمز عنواناً للكتاب الذي صدر في نيويورك قبل أيام، “حرب الثلاثة تريليون دولار: الكلفة الحقيقية لنزاع العراق”. وهو حصيلة جهد استمر ثلاث سنوات لشخصين من أشد المعارضين للحرب منذ بدايتها ارادا احتساب كلفة الحرب واثبات خطأ القرار بالارقام وقد حاولا ذلك بجمع كم هائل منها ومن المعلومات المتاحة وغير المتاحة في الدفاتر الحكومية عن كل مجالات الانفاق على الحرب، معلنة كانت أم مكتومة، مباشرة أم مواربة، جارية أم مستقبلية، من كلفة العمليات العسكرية وانتشار الجنود الى انعكاساتها على الموازنة والاقتصاد، ومن كلفة معالجة الجرحى والرعاية الصحية الدائمة لهم الى تعويض الاعاقة واهالي الجنود القتلى، ومن الديون التي تتراكم الى الفوائد المتوقعة لهذه الديون. وقد يشكك كثيرون في المنهجية التي اتبعها المؤلفان، لكن ما يصعب التشكيك فيه هو الارقام والنفقات التي استندا اليها اذ كلها مستقاة من ارقام الحكومة والوزارات او الدوائر المعنية ومن الكونغرس والمؤسسات التي تعنى بشؤون الحرب ونتائجها.

ولعل هذا ما أثار غضب ادارة بوش فشنت هجوماً شرساً على ستيغليتز حتى قبل ان يدلي بشهادته أمام اللجنة الاقتصادية المشتركة في الكونغرس عشية اطلاق الكتاب، وقال البيت الابيض إن “أشخاصا مثل ستيغليتز تنقصهم الشجاعة لإجراء حساب كلفة عدم اتخاذ أي اجراء وكلفة الفشل. فالمرء لا يستطيع بعد أن يحصي كلفة اعتداءات 11 ايلول على البلاد“.

لم يقرأوا” قال لي ستيغليتز، لأن الكتاب “يتضمن حساب كلفة الفرصة الضائعة على صعيد الامن” وملخصها انه “في حين كنا (اميركا) نركّز على العراق صارت أفغانستان فشلاً جديداً. وفي حين كنا نركّز على العراق، حيث لم تكن هناك اسلحة دمار شامل، انضمت دولة جديدة هي كوريا الشمالية الى النادي النووي. لذا فان على كل من يفكّر في هذه الحرب ان يقول إنها جعلتنا أقلّ أمنا”. لكنهم “يكررون ما فعلوه دائما أي محاولة تحويل الانظار عن فشلهم في العراق بالحديث عن 11 ايلول، ولا علاقة للعراق بـ11 ايلول”. أما “قولهم إنني افتقدت الشجاعة لحساب ثمن الفشل، فارد عليه بالقول إنهم يفتقدون الشجاعة في معتقداتهم لانهم يؤمنون بالديموقراطية، والديموقراطية تعني ابقاء مواطنيك مطلعين على كل ما تفعل. هذا ليس إجراء دورياً. والمواطنون المطلّعون يجب ان يعرفوا ما هي كلفة قراراتك بما فيها قرار الحرب“.

تشكيك ادارة بوش في أرقام ستيغليتز ليس مستغربا لان حساسيتها مفرطة حيال أية أرقام تناقض أرقامها وموقفها هذا صار نمطا. ففي تشرين الاول الماضي استخفت بدراسة لمكتب الموازنة في الكونغرس قدرت كلفة الحرب في العقد المقبل، أي حتى 2017 ، بنحو 2 تريليون دولار “كتقدير متحفظّ” ايضا، وتجاهل حتى الان طلبا من اللجنة لتقديم ارقامه بغية مناقشة الفوارق وجلاء أي التباس اذا كان هناك من التباس.

والسبب في رأي ستيغليتز “واضح جدا” وهو “ان الادارة لا تريد نقاشاً. لا تريد للاميركيين ان يفكروا في التكاليف التي نتحدث عنها“.

والواقع ان التكاليف التي يتحدث عنها الكتاب مخيفة. ولكن قبل البدء بالجمع، قد يفيد بعض المقارنات الواقعية لاظهار اطار كلفة حرب العراق وحجمها:

حرب العراق بسنواتها الخمس حتى الان هي أطول الحروب الاميركية بعد فيتنام. أطول من الحرب الاهلية بين الاميركيين التي استمرت أربع سنوات ومن مشاركة أميركا في الحرب العالمية الاولى والتي استمرت سنتين وشهرين ومشاركة أميركا في الحرب العالمية الثانية والتي استمرت ثلاث سنوات وثمانية أشهر وأطول من حربها على كوريا والتي استمرت ثلاث سنوات وشهراً.

الكلفة المباشرة للعمليات العسكرية الاميركية في العراق من دون حساب التكاليف البعيدة المدى مثل الرعاية الصحية الدائمة للجنود المصابين تفوق حتى الان كلفة حرب فيتنام التي استمرت 12 عاما وتبلغ اكثر من ضعفي كلفة حرب كوريا. اما الحرب الوحيدة في تاريخ اميركا الاكثر كلفة، فهي الحرب العالمية الثانية اذ اشترك في القتال 3٫16 ملايين جندي وكلفت (بحسب قيمة دولار 2007) نحو خمسة تريليون دولار.

بناء على الارقام المعروفة، تفوق القيمة الشهرية المقدرة لكلفة العمليات في 2008 (الكتاب انجز أواخر 2007) أو ما يسمى “النفقات الجارية” 12,5 مليار دولار في العراق في مقابل 4،4 مليارات شهريا عام 2003. واذا اضيفت النفقات المماثلة لافغانستان، يبلغ الرقم 16 مليار دولار شهريا، أي كلفة معدلها 138 دولاراً شهرياً على العائلة الاميركية الواحدة يذهب منها أكثر من مئة دولار الى العراق وحده. وهذا المبلغ الشهري، 16 مليار دولار، يعادل قيمة الموازنة السنوية للامم المتحدة ويبلغ ثلاثة اضعاف ما تنفقه أميركا سنوياً مساعدة للقارة الافريقية كلها.

حتى كانون الثاني 2007 كانت أميركا لا تزال تدفع تعويضات للمحاربين القدامى في الحرب العالمية الاولى عندما توفي آخرهم بعد 90 سنة من انتهاء الحرب، ولا تزال حتى الان تدفع أكثر من 12 مليار دولار سنويا تعويضات اعاقة للمحاربين في فيتنام بعد 35 سنة من الانسحاب الاميركي. أما الحرب الاولى على العراق عام 1991، فمع انها استمرت بضعة أسابيع فقط وخلفت 147 قتيلاً و235 جريحاً، فإن 45% من أصل 700 الف جندي شاركوا فيها تقدموا بعدها بطلبات تعويض اعاقة وافقت الدوائر المختصة على 88% منها وهذه التعويضات تكلّف أميركا الان 4،3 مليارات سنويا.

من مثل هذه الارقام والنسب لما تنفقه أميركا اليوم في العراق، يحتسب ستيغليتز وبيلمز نفقات الحرب المصنفة في أربع فئات: الاولى، المال الذي انفق لشن الحرب. الثانية، النفقات المستقبلية المترتبة على الحرب والتي ستستمر حتى بعد توقف العمليات وهذه تشمل كلفة الرعاية الطبية للجنود وتعويض الاعاقة واستبدال المعدات العسكرية والاسلحة وترميم قوة الجيش وكلفة اعادة الجنود الى أميركا. الثالثة، النفقات “المخفية” المتعلقة بالحرب مثل زيادة أساس قيمة موازنة الدفاع وكلفة توسيع حجم الجيش. والاخيرة، كلفة الفائدة على الاموال التي اقترضتها اميركا لشن الحرب. فصل تلو فصل يجمع الكتاب الكلفة بتفاصيل مذهلة لا تترك أي جانب مغفلاً ليتوصل الى التقديرات “المتحفظة” لاعباء حربي العراق وافغانستان على الموازنة وهي في خطوطها العريضة: 464 مليار دولار كلفة العمليات العسكرية الى حين انجاز الكتاب، 913 ملياراً كلفة العمليات العسكرية المستقبلية، 717 ملياراً الكلفة المستقبلية للرعاية الطبية وبدل اعاقة للجنود، 404 مليارات كلفة اجراءات عسكرية اخرى مثل ترميم الجيش والغاء حال التعبئة وغيرها. المجموع يكون 2,680 تريليون دولار من دون اضافة الفائدة المقدرةّ قيمتها بـ816 مليارا، وبعد اضافتها يصير 3,496 تريليون دولار. ولافغانستان في هذا المجموع 841 ملياراً. لكن هذا الرقم لا يشمل تقديرات كثيرة عن كلفة الحرب على الاقتصاد وانعكاسات ارتفاع اسعار النفط وكذلك التكاليف الاجتماعية والبشرية التي يتكبدها المصابون والمحيطون بهم، كما لا يشمل كلفة الحرب على العراقيين واقتصادهم ولا كلفتها على العالم.

وما ساهم في رفع الكلفة الى حد كبير “خصائص غير عادية” لهذه الحرب حددها لي ستيغليتز هي: أولاً، “عندما تذهب دولة الى الحرب تطلب من مواطنيها المشاركة في التضحيات، لكنها المرة الاولى تذهب أميركا الى الحرب وتتخذ اجراء بخفض الضرائب عن الاغنياء، وهكذا فإن كلفتها المالية اُلقيت كلياً عملياً على الاجيال المقبلة” وهؤلاء سيدفعون لسنوات آتية وربما أكثر.

ثانياً، “في معظم الحروب، يُفتح باب التطوع ليتقاسم المواطنون الاعباء ولا يكون الجيش جيش مرتزقة. والجيش الان عموماً مرتزقة يقاتل من أجل المال وليس تلبية لدعوة التطوع. بمعنى ان عدداً كبيراً من المحاربين ليس متطوعاً بل هو مجبر على القتال سواء من الحرس الوطني واحتياط الجيش الذين استدعتهم الادارة للقتال، أو مجبر على البقاء في ساحة الحرب مدداً أطول من مهماته المحددة“.

لكن أعباء قرار كهذا لا تقف عند هذه الحدود بل تزيد الكلفة كثيراً. فبديهي ان يتقاضى كل عنصر من الحرس الوطني واحتياط الجيش يقاتل في العراق راتباً كاملاً ويحصل على حق متساو في التعويض والرعاية الطبية في حال اصابته. لكن هذا يحصل على حساب ابقاء هذه العناصر في وظيفتها الاصلية داخل الحدود وهي ليست القتال وعلى حساب دفع الرواتب كاملة وليس اعطاؤهما بدل عمل اسبوعياً أو شهرياً عندما تستدعي الحاجة اليهم.

والاهم كما يظهر الكتاب ان هذا يعكس الصعوبة التي واجهتها الادارة في انضواء عناصر جديدة الى الجيش نتيجة المعارضة للحرب والكلفة المتنامية للاحتفاظ بالجنود وتدريب جنود جدد يحلون محل من يصابون أو يقتلون، فاضطرت تدريجاً الى مزيد من الاغراءات. في البدء رفعت الرواتب بنسبة 28% ولم تنجح في 2005 في بلوغ العدد المستهدف للمنضوين الجدد فبدأت بالتخلي عن بعض مقاييسها. فرفعت السن المطلوبة للمنضوي من 35 عاما الى 42 عاما. وفي 2006 بدأت تسمح لبعض المدانين بجرائم معينة بالانضواء، وبلغت العدد المستهدف في 2007 ليتبين ان اكثر من 73% من الجدد هم تلامذة مدارس ثانوية. ونتيجة لهذه التغييرات وغيرها ارتفعت كلفة إعداد الجندي من نحو 15 الف دولار عام 2003 الى كلفة مقدرة هذه السنة بنحو 19 الف دولار.

ثالثا، ما يجعل هذه الحرب “غير عادية” كما قال ستيغليتز هو “انها المرة الاولى يعتمد تخصيص الحرب الى هذا الحد، اذ يبلغ عدد المتعاقدين في العراق اليوم مئة الف شخص“.

والواقع ان تخصيص الحرب، على ما يظهر الكتاب، أمر لا سابق له وكلفته تتجاوز موازنة الدفاع لتشمل وزارة العمل التي تدير البرنامج وتدفع ما يراوح بين 10 الاف و21 الف دولار تأمينا عن كل رجل أمن خاص، واذا أصيب هذا المتعاقد أو قتل في “عمل حربي” فيحق له بتعويضات مثل الجندي. وهذا يضيف 780 مليون دولار الى الكلفة على أساس حساب دفع معدل الف دولار اسبوعيا لمئة الف متعاقد.

لكن الاعتماد على المتعاقدين يزداد في العراق وهم يقومون بكل الاعمال من الطبخ الى التنظيف الى القتال وتشغيل أنظمة الاسلحة وخصوصا لعدم قدرة الادارة على زيادة عدد جنودها، وحصلت شركات الامن الخاصة على فرص استثنائية. فوزارة الخارجية وحدها مثلا انفقت أكثر من اربعة مليارات دولار في 2007 على هؤلاء في مقابل مليار واحد قبل ثلاث سنوات. وشركة “بلاكووتر”، التي حصلت عام 2003 على التزام بالتراضي قيمته 27 مليون دولار، بلغت قيمة عقدها بعد سنة مئة مليون وفي 2007 مليارا و200 مليون دولار ولها الان 845 متعاقداً امنياً خاصاً في العراق.

ولعل ما يتثر غضب الاميركيين في هذا الامر ان الحارس الخاص من “بلاكووتر” أو “دينكورب” يتقاضى 1222 دولارا يوميا اي 445 الف دولار سنويا مقارنة مع ما يرواح بين 140 و190 دولارا يوميا للجندي الاميركي اي ما بين 51 الفاً و69 الفاً سنوياً. وهذا ، استناداً الى الكتاب، وضع الجيش في منافسة مع نفسه لان الجندي الذي ينهي مهمته ينتقل الى العمل لدى شركة خاصة من أجل تحسين أوضاعه المالية. والكلفة في النهاية تتجاوز القيمة المادية لتصيب معنويات الجيش.

وما يجعل الحرب “غير عادية” رابعاً، على ما حدد ستينغليتز، انه “ربما نتيجة التقدم في الطب يساوي معدل الجرحى بالنسبة الى القتلى سبعة في مقابل واحد” وهذا ليس الا المعدل الرسمي، لكن المعدل الحقيقي هو 15 جريحا في مقابل كل قتيل اذ تبين له خلال البحث ان الادارة لا تكشف اعداد كل المصابين وتضع تصنيفات مختلفة لهم كأن لا تشمل بينهم من يصاب بحوادث سير او تحطم طائرات لانها لا تعتبر السبب “عملا حربيا”. في أي حال “هذه النسبة المرتفعة من المصابين الذين يبقون على قيد الحياة لحسن الحظ تعني في الوقت نفسه تعويضات اكبر وكلفة رعاية أكبر“.

واضطرار ستيغليتز وزميلته الى اللجوء الى قانون حرية الحصول على المعلومات لمعرفة عدد الجرحى في الحرب اضاف بالنسبة اليه ميزة خامسة هي “مستوى عدم صدقية الادارة“.

لكن هذه الخصائص والامثلة عليها لا تحتكر الهدر أو اسباب ارتفاع النفقات. فهناك، حسب نظام المحاسبة المليء بالثغرات وتعدد الدفاتر في كل ما يتعلق بنفقات الحرب، تضيع بعض المبالغ في دفتر وتظهر اخرى في دفاتر وتختفي مبالغ في بنود النفقات العادية لوزارة الدفاع. وهناك استخدام اسلوب تمويل الحرب بالنفقات الطارئة وهذه عادة لا تخضع للتدقيق المشدد. وهناك ايضا الفساد المتمثل في العقود والتلزيم بالتراضي، والمثال الاقوى هو شركة “هاليبورتون” المرتبطة بنائب الرئيس الاميركي فيها علاقة وثيقة جدا وقد حصلت على عقود في العراق لا تقل قيمتها عن 19,3 مليار دولار.

ومع ان ارقام ستيغليتز وتقديراته تبدو مقنعة، فما لا يبدو مقنعا هو ان تكون الحرب الاميركية على العراق مسلسلاً من الخسائر لا مكسب اقتصادياً فيه. وهذا كان ايضاً من المآخذ على منهجية عمله. سألته أليس للحرب اي فائدة اقتصادية؟ ماذا عن مشاريع اعادة الاعمار، ألم تحصل الشركات الاميركية على هذه العقود؟ ألا توفر هذه العقود وظائف جديدة لاميركيين وتالياً ارباحاً ومداخيل؟ أجاب ان “أحد الطرق التي يمكن النظر اليها لهذا الموضوع هي الاتية: اذا دمّر المرء شيئا ثم اعاد بناءه فهل يسمي هذا فائدة أم مجرد استبدال؟ فحتى لو كانت الشركات اميركية اوجدت وظائف لاميركيين، فان نسبة الفائدة للاقتصاد الاميركي لا قيمة فعلية لها مقارنة بما كان يمكن ان نفعله لو انفقنا المال في بناء طرق اميركية ومستشفيات اميركية ومدارس اميركية. الفائدة ضئيلة جداً. ولكن لو انفقنا المال في اميركا لكنا استفدنا اضعاف اضعاف. لان العمل حتى لو حصل في العراق يعني توظيف عراقيين وهؤلاء سينفقون أموالهم في العراق“.

وماذا عن ارتفاع سعر النفط، أليس فيه فائدة لاميركا من حيث انه يتيح لها الاعتماد على نفسها بمعنى انه يسمح لها باستخراج نفطها باسعار مقبولة مقارنة بسعر استيراد النفط؟ ألم يحصل هذا خلال ازمة ارتفاع اسعار النفط عام 1973؟ أجاب ستيغليتز: “لا شك في أن ارتفاع سعر النفط يفيد البعض هنا في أميركا. وقد قلنا في الكتاب ان الرابح الوحيد من الحرب هو شركات النفط وصناعة الاسلحة. لكن البلاد ككل خسرت كثيرا في 1973 وفي 2003، لان اميركا مستورد كبير للنفط (تستورد خمسة مليارات برميل سنوياً) وعندما دخلت الحرب كان سعر البرميل 25 دولاراً والان يبلغ مئة دولار. وعلينا الان ان ننفق المزيد من المال على النفط وهو مال لا نملكه”. وهذا أحد الاسباب التي تؤدي الى اضعاف الاقتصاد الاميركي “الا اننا غطينا ضعف الاقتصاد بسياسة مالية واجراءات رخوة لهذا لم نشعر بالتأثيرات السلبية التي كنا نتوقعها الى بضعة أشهر خلت. لكننا كنا فقط نؤجل المشكلة. وهكذا، مثلما ادى ارتفاع اسعار النفط في 1973 الى إضعاف الاقتصاد العالمي، فان الارتفاع اليوم يؤدي أيضاً الى اضعافه”. وتوقع نتيجة لذلك “تباطؤا كبيراً للاقتصاد الاميركي وربما ركودا، والى حد ما تباطؤاً للاقتصاد العالمي وسيستمر اكثر من ستة أشهر. نحن نتكلم هنا عن سنتين او ثلاث مقبلة“.

وماذا عن العراق وخسائره؟

الكتاب يتناول باسهاب أقل كلفة الحرب على العراق، ولكن كما قال ستيغليتز: “لا يمكن حساب الخسائر بالفعل لانها هائلة. فما حصل للعراق هو دمار كامل، سواء بالنسبة الى عدد القتلى أو الاقتصاد، دمار للعائلات وللمجتمع ككل”. اعداد القتلى العسكريين غير معروفة تماما واميركا لا تبقي سجلاً بعدد الجرحى من العسكريين العراقيين. ولكن ايا تكن الارقام فانها أقل بكثير من عدد الضحايا من المدنيين. وهناك النزوح داخل العراق والى خارجه والاعداد مرعبة. فبحلول ايلول 2007 كان 4,6 ملايين عراقي نزحوا عن بيوتهم وهذه اكبر هجرة في الشرق الاوسط منذ اقامة اسرائيل، وبينهم أكثر من مليونين لجأوا الى الاردن وسوريا. “وفي هذا نبرز الموقف الاميركي المثير للسخط. والسبب ليس ان أميركا لم تستوعب عدداً مرضيا من اللاجئين العراقيين فحسب بلا انها لم تتحمل الاعباء المالية التي وقعت على الاردن وسوريا نتيجة هذا النزوح، في حين ان أسوج مثلا اخذت عددا ضخما من اللاجئين مقارنة بحجمها“.

أما الضرر الذي لحق بالعالم بالنسبة الى ستيغليتز، فله وجهه الاقتصادي الناتج في الغالب من ارتفاع اسعار النفط وله وجهه الثقافي اذ تعزز “صراع الحضارات” وله وجه آخر يعتبره أساسياً ويتمثل في “الضرر البالغ الذي اصاب الدور القيادي لاميركا وصدقيتها. وما دامت اميركا الدولة الاهم في العالم فان عدم قدرتها على ممارسة دور قيادي سيؤدي الى مشكلة حقيقية”. جانب آخر من الحرب، قال، هو انها “أدت بالتأكيد الى عدم استقرار كبير جدا في المنطقة وأضعفت اي جهد لتحقيق سلام دائم فيها. فكأن اميركا القت قنبلة ووقفت تتفرج على ما سيحدث“.

وطلبت منه ان يشرح اشارته في الكتاب الى امكان تطبيق خطة مارشال للشرق الاوسط وكيف كان ليتصور امكان ذلك في ظل استمرار عدم حل الصراع العربي – الاسرائيلي وفي ظل الطبيعة المعروفة لغالبية الانظمة فيها، فاجاب: “ان الاقتصادي والسياسي يتفاعلان هنا. من الصعب الحصول على وضع سياسي مستقر في ظل نسبة عالية من البطالة، وواضح ان بعض المشاكل السياسية يجعل ايجاد وظائف جديدة امرا صعبا”. والنقطة هنا تكمن في ما لو قررنا بعد اطاحة صدام حسين مباشرة ان مسؤوليتنا الان ان نساعد في بناء دولة ديموقراطية فاعلة من خلال مساعدة اقتصادها. كان يجب ان نعرف انه علينا ان نكسب قلوب العراقيين وعقولهم فعلا . هذا كان يجب ان يكون الرقم واحد في أولوياتنا. لكن الواقع اننا خصصنا 18 مليار دولار لاعادة الاعمار وادارة بوش لم تتمتع بالكفاية الى حد انها صرفت مليار دولار فقط من هذا المبلغ معظمه على الامن “، والمشكلة ان الادارة “ارتكبت بعض الاخطاء في البداية وكانت اخطاء فادحة أوجدت دينامية صار يصعب عكس اتجاهها. والخلاصة ان المبلغ الذي انفقناه على الحرب في العراق أكبر بكثير مما انفقنا على خطة مارشال بقياس ما هو مخصص للفرد، لكن الفارق اننا لم ننفقه بطريقة بناءة بل بطريقة مدمرة“.

ستيغليتز يقول إن للحروب اثماناً باهظة وثلاثة تريليون دولار مضافة اليه كلفة الفرص الضائعة لن يتسبب بإفلاس اميركا لكنه مبلغ كبير جدا حتى بالنسبة الى دولة غنية مثلها. والسؤال هو ماذا كنا لنفعل بهذا المال وبماذا ضحينا؟“.

دمار كلي في العراق وكلفة باهظة جداً على أميركا اذاً هي حصيلة الحرب حتى الان، واستمرارها يعني مزيدا من الدمار ومن الكلفة. وبما ان تركيزه هو على اميركا فان الصورة التي يرسمها بالارقام مقلقة خصوصا توقعاته لتباطؤ الاقتصاد وربما الركود يضاف اليها يقينه أن الادارة الحالية لن تتخذ اي اجراء انقاذي.

كلها “اذاً اخبار سيئة للرئيس الجديد؟ يجيب ان “الامر يعتمد على الاجراءات التي يتخذها هذا الرئيس. فاذا اتخذ القرارات الصائبة يكون الامر أقل خطورة“.

وأسأله: طبعا تقصد بين هذه الاجراءات الانسحاب من العراق، فيجيب أن “مثل هذا القرار سيؤمن للرئيس مالاً كثيراً ينفقه على أميركا وهذا سيساعدها على الشفاء”. وماذا عن العراق؟ “اذا سحبنا جنودنا من العراق وخصصنا جزءاً من هذا المال لمساعدته على اعادة الاعمار فاننا سنكون نساعد الاقتصادين الاميركي والعراقي“.

رأي ستيغليتز في هذا الشأن واضح: ما لم يحصل تغيير جذري في اتجاه الامن والسلام نتيجة استمرار الوجود الاميركي في العراق من الان الى حين انتخاب رئيس جديد، فيجب ان يحصل انسحاب سريع ويجب اطلاع الاميركيين على الحقيقة البشعة بأن لا مخرج سهلاً من المأساة التي حصلت في العراق. فبعد خمس سنوات هناك فشلنا في تحقيق عراق آمن ومستقر ويجب التخلي عن اية أوهام من حيث ان بقاء الجيش سينجز المهمة لان ما فقدته اميركا من صدقيتها قد لا يسمح لها بعدها باختيار توقيت الانسحاب، او من حيث اننا يجب ان نبقى لاننا ندين للعراقيين بمساعدتهم على بناء بلدهم وهذا مفهوم خاطئ لانه يمكن مساعدتهم بطرق كثيرة اخرى.

سحر بعاصيري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى