حالــة حــرب
سليمان تقي الدين
كيفما كان تحليلنا لأوضاع المنطقة وتطوراتها فنحن في حالة حرب. احتلال وجيوش وأساطيل وقواعد عسكرية وحصار وعقوبات وسباق تسلح ولا حلول سياسية. ببساطة هذه هي الحرب في شكل من أشكالها المتعددة. لا نحتاج إلى تحذيرات ولا إلى تهديدات. الحرب لم تتوقف في فلسطين والعراق وأفغانستان ولا حتى في لبنان. شبكات التجسس والتخريب لم توقف نشاطها. التحريض على عناصر قوة لبنان مستمر والاختراقات الأمنية بالسياسة وبغيرها قائمة.
إذا كان هذا منطق كل عاقل فإن كل تفريط بالأمن هو جزء من عمل حربي ضد لبنان وتسهيل له. القضية بهذا المستوى ولا تقبل التأويل والتفسير والتبرير. إما أننا نحرص على أمننا الوطني، على أمن الناس أو أننا نشارك في ما تعرضوا وسيتعرضون من أخطار وأضرار.
تورّطت بعض الجهات في هذه أو تلك من الاتفاقات الأمنية الخطرة، ويظهر كل يوم حدث يدل على استسهال التعامل مع الوصي الأميركي الذي استباحنا منذ خمس سنوات ونشر الفوضى عندنا بالسياسة والأمن والحرب. هل استوعبنا تلك النتائج أم أن انكفاء البعض الاضطراري لم يؤسّس صحوة وطنية ولا مراجعة ضميرية!؟ هل خطابنا السياسي وبياننا الوزاري وشراكتنا الوطنية مجرد عدة شغل موقتة أم هي حاجة وضرورة واقتناع ووعي بالأخطار التي نبحث عن سياسة دفاعية بوجهها؟!
لسنا نحن من نعادي أميركا وسياستها، هي التي تؤكد على أمنها المشترك مع إسرائيل وتترجم ذلك دعماً مطلقاً للعدوان الإسرائيلي، وإسرائيل، كما يقول أهل السياسة عندنا، عدوّنا. عدوّنا ليس افتراضاً وليس توهّماً وليس مبالغة بل بحكم التجربة والتاريخ والحرب والاحتلال والتخريب والأطماع. أما آن لنا أن نلتزم جانب الحذر والحيطة تجاه الدولة العظمى التي تحميها وترعاها وتحتضنها وتدعونا إلى الرضوخ لمطالبها وهواجسها وقلقها على أمنها؟!
يقال إنه عندنا دولة وحكومة وسيادة يحرص عليها الغرب وزعيمة الغرب ويدعمانها. ما تعلنه حكومتنا هو الأمر النافذ على أرض سيادتها فمن أين جاءت سلطة أجهزة أميركا «لمكافحة الإرهاب» لكي تسرح وتمرح بمؤازرة أو من دون مؤازرة من مؤسساتنا الأمنية الوطنية؟
على حد علمنا أن هناك مَن يحرص على السيادة وعلى وحدانية السلاح والأمن والسلطة وحق الدولة. بأية صفة واستناداً إلى أي مرجعية تقوم جهة غير لبنانية وغير رسمية في التحري عن الحدود الذي يستفز سيادتنا ويستفز سوريا، ولماذا يستجيب المسؤولون الأمنيون لهذه التجاوزات، أم أن هناك اتفاقيات أمنية غير تلك التي افتضح أمرها وفاحت منها رائحة الاستهتار بالأمن الوطني؟ مَن يغطّي هذه التجاوزات والمخالفات المسلكية ومَن يحمي هؤلاء الكشافة المشبوهين والموظفين المعنيين؟ يظهر أن حكومة الوحدة الوطنية التي أطنبنا في مدحها والإفاضة في مزاياها ومحاسنها صارت عبئاً على أمننا كما هي على «أولويات الناس» وهمومها ومشاكلها.
قالت حكومتنا إن لبنان سيدافع عن أمنه بشعبه وجيشه ومقاومته. لم يعد مهماً إلى أي جهة يأتي السلاح ولا نوع هذا السلاح. نحتاج السلاح أكثر من أي جهة غيرنا حين نسمع تصريحات قادة إسرائيل وحين نرى ما فعلت وتفعل في لبنان وفلسطين وما تتوعّد به دول المنطقة وشعوبها.
من الصعب أن نصف إسرائيل «بالدولة» في القرن الواحد والعشرين حين تهدّد دولة أخرى «بإعادتها إلى العصر الحجري»، أو حين تمارس حروباً على شعب محاصَر شبه أعزل في غزة وترتكب جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم إبادة. بل نحن مَن خبر إسرائيل في مجازر صبرا وشاتيلا وقانا الأولى والثانية على مرأى من قوات الدول الغربية والأمم المتحدة وفي كنفها. إسرائيل كيان قام على الغصب والقوة ويستمرّ بهما فوق القانون الدولي وفوق كل القيم. في عقيدته إلغاء للآخر، وفي وجوده إلغاء للآخر، وفي سلوكه إلغاء للآخر. إذا كان للعنصرية من تجسيد حي في عصرنا فهي الصهيونية. وإذا كان للعدوان وانتهاك الحقوق من نموذج فهي إسرائيل. لا شيء يشجع إسرائيل إلا الدعم الغربي وخاصة الأميركي. لا شيء يسمح لإسرائيل بهذا المسار إلا حين تعلن أميركا أن أمنها من أمن إسرائيل وأمن إسرائيل خط أحمر. بريطانيا حبلت بإسرائيل وأميركا استولدتها عام 1948 وربّتها. إسرائيل ليست إلا هذا الوكيل الأميركي، هذا البلطجي وهذه الأداة.
نريد المقاومة في «كنف الدولة» وقرار الحرب والسلم والأمن، ونريد الدولة وحدها صاحبة الأمر والنهي والإدارة والقرار. لكن أموراً بسيطة جداً لم نأخذ زمامها ولم نمسك مصيرها. صارت دولتنا مخترقة من غير جانب وجهة وأمننا الحامي لنا نحتاج مَن يحمينا منه. ثمة في الدولة وفي المؤسسات جزر وبؤر تعمل عكس ما ندّعيه ونعلنه. وثمة مَن يطلق حملات سياسية وقائية دفاعاً عن مسلكيات تخرج على منطق القانون والسيادة، فمن هي الجهة المسؤولة عن ذلك سوى الحكومة؟
يمر الزمن على الفساد وسوء الإدارة واستغلال السلطة، لكن الأمن يحكم حياتنا كلها ولا يجوز أن نفاجأ كل يوم في مكان ما بفضيحة. تقتلنا هذه الطبقة السياسية بالدواء والغذاء والماء والهواء، وتسرقنا بالكهرباء والمحروقات والضرائب والهاتف وكل الخدمات، وتتركنا لجشع التجار الكبار وفوضى الأسعار، وتطردنا من ممالكها في جزر البذخ وناطحات السحاب، ولا تتورع عن إباحة أمننا. سقطت هذه الطبقة السياسية في غير امتحان لكننا لا نجد مَن يكنسها. تتجدد بالعصبية، تتقوّى بالتبعية، تتغذّى بالزبائنية، وتعيش كالعفريت على دم الناس وجهلها وخوفها. ما أعجبنا نستبسل في تجديد طبقة سياسية نحتقرها ويعرف معظم الناس حتى البسطاء عيوبها.
حفلة التهويل بالحرب والتحريض على صواريخ «سكود» ليست بلا جدوى. هي عملية استطلاع جدي للأوراق غير الواضحة، لردود الفعل والخيارات الفعلية للنظام الرسمي العربي، لموقف إيران وسوريا، وللمناخ الوطني اللبناني. حاجة إسرائيل للحرب ورغبتها بها لا جدال فيها، وحاجة أميركا لتغيير التوازن الحالي لا جدال فيها. إنها مسألة حسابات واحتمالات. الحروب البديلة عن الحرب الشاملة ممكنة إذا تراخت جبهة المواجهة. هذا التوازن القلق هو حافز للحرب إلا إذا حصلت تصدعات في مواقع أخرى سلباً أو إيجاباً. لعلنا ننتظر ما يحمله التاريخ من مفاجآت، فهو أحياناً يتقدّم حيث لا نتوقع. لكن ليس في الأفق ما يوحي بالاستقرار. إننا في حالة حرب فلنتصرّف على أساسها.
السفير