صفحات الحوار

بول هاردينغ الحائز جائزة بوليتزر للأدب القصصي: أسرد انطلاقاً من وصف صور ثابتة لا من أحداث جارية

null
ترجمة وتقديم فوزي محيدلي
في العمل الروائي الأول لبول هاردينغ والذي نال عنه جائزة بوليتزر لعام 2010، يفلفش مصلح الساعات جورج واشنطن كروسبي سلسلة من الذكريات الحارة وهو يحتضر فوق سرير داخل غرفة الجلوس في بيته.
وما يشكل الترنيمة الخافتة لهذيان جورج هو والده هاورد الذي قضى منذ زمن بعيد، وهو بائع يتجول مصاب بالصرع رحل عن الدنيا بعد عضه، في إحدى نوباته، يد ابنته. يتم تطواف رواية هاردينغ غير الطويلة، 192 صفحة، عبر شخصيات ثلاثة أجيال تنتمي الى منطقة نيوـ انغلاند الأميركية المحافظة. وتقطف الرواية سلسلة من الصور الرثائية المحزنة والمشاهد المتوغلة داخل فسيفساء بل موزاييك جمال مترنح للحياة وبلغة اعتبرت النجم الأول للرواية وإن تميزت بجمل طويلة.
في الثاني عشر من نيسان أعلنت جوائز بوليتزر المتنوعة، شعر، أدب قصصي، دراما، صحافة، نقد، وفي 14 نيسان أجرى جوليان آرني “للهارفاد بوك ريفيو” المقابلة التالية مع بول هاردينغ.
[ تبدأ “مصلحون” كما يلي: “بدأ جورج واشنطن كروسبي بالهلوسة قبل ثمانية أيام من موته” وتنتهي بعد ثمانية مع جورج في مرحلة الاحتضار. ما الذي حدا بك الى اقتحام متعمد لهكذا نوع طبيعي من التوتر السردي تماماً في السطر الأول؟
ـ أعتقد أن المصدر الطبيعي الذي تتكلم عنه هو “الحبكة الروائية” وهي عنصر لست مهتماً به البتة. إذا كانت لديك شخصية روائية جيدة، لا تعود بحاجة الى الكثير من الحبكة. برأيي إن الحبكة تؤدي وظيفتها وتتمظهر ضمن خدمة الشخصية. لدي أيضاً خطة أسلوبية بوضع خطة القصة بالكامل مباشرة، بحيث لا يعود بمقدوري اللجوء الى أي نوع من الخداع، أو الى ما أسماه توماس مان “التأثير المجرد” لاحقاً (من مثل “لكن أمه كانت بالأساس فرساً” إلخ..) القصة هي في الإخبار. أؤمن بقوة أيضاً بأن معرفة ما سيحدث لاحقاً تخلق نوعاً من التوتر الدرامي المدهش. وهذا يتموضع في طبقة مختلفة من الكتابة. ثمة توتر يخلقه ما هو محتم. بقدر ما تتورط مع الشخصية بمقدار ما يزداد اهتمامك بموتها المحتم والمعلن عنه بوضوح. الرواية “مصلحون” صممت كأنها عد عكسي لموت البطل. الأيام الثمانية التي يتطلبها موته هي تشبيه مقابل للفترة التي ستدق أو تسير فيها ساعة معيارية. قبل أن تتوقف ويعاد تعبئتها، مما يتماشى مع بعض التغييرات المتعلقة بالأسلوب في الرواية.
[ مقدمة أو استهلال الرواية رجل على فراش الموت يؤدي بسهولة الى نوع معين من التأمل التجريدي. لكن مادة الكتاب ليست النوم الغامض أو الحنين بل هي مجموعة من الذكريات الملموسة جداً.
ـ هذا صحيح تماماً. المؤلفات السردية كلها تتشارك في نوع أو آخر من تقاليد القص. لكل تقليد مخاطره المتوقعة (كما فضائله) التأمل التجريدي ينطوي على خطر يلازم المادة الاستعادية الجوانية. لذا تبنيت قاعدة معيارية في هذه الرواية بحيث إذا ما قلبت الأوراق ثم توقفت عشوائياً ووضعت أصبعك على كلمة في الصحفة، ستكون الكلمة بالتحديد عبارة عن اسم أو فعل دقيق وملموس أو عيني. وهذا أثبت أنه بمثابة تحدٍ ممتع، وباعتقادي ساعد على إدخال النظام الى النثر. أميل من جهتي بشكل طبيعي تجاه المكان والزمان الداخليين الثابتين على حد معين حياة الذهن أو العقل، كما كان لذا فإن ابتعاد الأشياء ضمن العالم الواقعي بل المادي أمر مهم لي.
الأمر ببساطة أن السرد يحضرني في لحظات متقطعة، كما الصور الفوتوغرافية أو اللوحات أو النسيج المزدان بالرسوم، أكثر منه كما في سلسلة من الأحداث، ولذا جزء كبير مما أنفق وقتي عليه حين أكتب هو توصيف بنيوي للحظات مميزة. إن وجود نقص في الأحداث، إذا صح القول، بحاجة الى التعويض عنه بتأكيد على التوتر، على الدراما داخل اللحظة.
هذه الكتابة الواقعية بل العينية عادة ما تترسب على الصفحة كوصف. وجدت أن الوصف إذا زمّ الى أقصى درجات الدقة يحدث نوعاً مشوقاً من الظواهر الالتباسية بل التناقض الظاهري حيث ينفتح النص على مملكة الاستعادة والرمز. يبدو أنه تبعاً لما يناقص الحدس أن عملية الاختراق الى التأصل أو الباطن تؤدي الى نوع من التجاوز السامي، وهذه كانت تجربتي التي انطوت على بوح جمالي مجزٍ ومرضٍ.
[ كلمة “تينكرز” (المصلحون) يبدو أنها تنطبق على معانٍ عدة (مصلح أواني معدنية متجول، بائع متجول، مصلح أو مرمم) وليس فقط على عمل كل من جورج وهاورد، لكن تنطبق على عملك أيضاً: يبدو وكأن معظم الكتابة انطوت على إعادة كتابة أو تنقيح “إصلاح” الرواية حتى تغدو متكاملة. هل حدث الأمر على هذا النحو؟
ـ تماماً. هذا كان محتماً، آخذين في الاعتبار أجزاء القصة المختلفة. ما أملت به هو أن تجسد الرواية معناها أو مضمونها. كما اعتادت أستاذتي مارلين روبنسون القول. بمعنى أن الكتاب يصبح مثالاً أو نموذجاً لموضوعه الخاص. في حالة “مصلحون”، إنها حالة واحدة من تلك التناغمات أو المعاني الإضافية التي تنتهي ببسط وكشف كامل عملية التأليف. اعترف أني أعيد الصياغة بلا توقف. ليس ثمة حملة واحدة في الرواية لم أعد كتابتها عشر مرات على أقل تقدير. وحتى الآن وحين اضطر الى قراءة تقاطع في مناسبات معينة، أشرد صوب تنقيح الجمل وأنا أقرأها بصوت مرتفع. نسختي التي أقرأ منها في المناسبات مليئة بتنقيحات سأعتمدها إذا تسنت في طبعة ثانية من الرواية.
[ هل استعنت بمصدر واقعي؟
ـ الأجزاء الدرامية الخام استندت الى قطع من قصص عائلية قديمة اعتاد جدي وجدتي، لناحية أمي، تلاوتها على مسمعي، لكن من دون تدخل تجميلي منهما. مثال على ذلك كان والد جدي مصاباً بالصرع، وهو رحل من العائلة حين اكتشف أن زوجته أم جدتي، سعت الى إيداعه في مصح. لكن هذا كل ما أخبرني جدي عن الأمر لذا تخيلت درباً لي انطلاقاً من تلك الحقيقة. الى أن حققت الرواية نوعها الوازن.
[ ثمة قدر لا بأس به في الرواية يذكر بالمذهب التجاوزي الأميركي وبالأخص الشعور بأن العزلة تنطوي على الخلاص. يبدو ضمن هذا السياق أن عدم التواصل لدى كل من هوارد وجورج هو ما يكشف في النهاية عن تشابههما العميق.
ـ بلى، ثمة نوع من الارتباط متصل بفهم الشخصين وحرص كل منهما على عزلة الآخر. باعتقادي أن مزاجي الخاص الطبيعي هو ما جعل الرواية تعكس علامات الفكر التجاوزي وليس الأمر بالمعتمد. في داخلي حب مقيم لأولئك المفكرين، لكن الأمر يتأتى من شعور حدسي جميل بفضلهم حين أقرأهم، أكثر من أن أكون تعلمت نظاماً فكرياً. والمقصود، حينما أكتب يخرج النص من هذا النوع كشيء طبيعي في البال أكثر مما يتأتى من عرض فلسفي متعمد.
[ النوبات الخاصة بالصرع كما الموت تجعل التجارب الباطنية بل الروحية أو الصوفية ربما عاملاً مركزياً للرواية. لكنها من الخارج تبدو بشعة غير مفهومة وغير منظومة على ذرة رومانسية.
أجل، لو كان الأمر عائداً لي، ما كنت كتبت عن شخص مصاب بالصرع، لأن الأمر يصبح عرضة لكل أنواع الشك، بل المعالجات المجازية والرمزية. حاولت إبقاء الصرع مسألة سريرية، فيما الشخصية روحية غامضة. لكن الاثنين وقعا في نفس الشبكة، لكن بطريقة أرجو ألا تكون رومانسية. أعني أنني مهتم بتاريخ الطرق الغريبة التي يصار فيها الى جعل الموت والمرض مسألتين جماليتين كما كان الأمر في الفن ـ روايات طوماس مان مثل “الجبل السحري”، أو عمله “دكتور فاوست” هي من الأمثلة العظيمة ـ لكنني وددت في نفس الوقت تجنب تبني ذلك كموضوع. واقعاً، بذلت جهدي لأجعل مرض الصرع غير رومانسي قدر الإمكان، هاورد الشخصية التي تعاني هذا المرض، يكابده كأنه القتل بالكهرباء. لا شيء رومانسياًَ بالنسبة للأمر من جهة أنه يطهوه على درجة حرارة عالية.
[ ليس في الرواية سوى قدر قليل من الحوار فضلاً عن خلوه من علامات الاقتباس.
ـ لا يروق لي منظر علامات الاقتباس، أو علامة الشرطة، القاطعة (ـ) وبرأيي إن النقص النسبي في الحوار هو مسألة مزاج. حين تحضرني لحظات سرد، لا ترد على شكل أشخاص يتبادلون الحديث. افترض أني منجذب دائماً الى الحياة الداخلية، الى دراما الوعي أو الشعور، أجد أن حالة الوعي أو الوجدان درامية بما لا يقاس.
[ ماذا عن تواجد نصوص وأصوات مختلفة؟
ـ يمكن وصف طريقة كتابتي بأنها كتابة الكولاج والمجاورة، وضع عبارة الى جانب الأخرى. في حالة “مصلحون” أعتقد أنني اهتميت أيضاً بالباليت أو بلوحة ألوان جنازة المارة، وأردت العثور على ظلال لونية وتراكيب مختلفة على الصفحة، ليتحقق بعض التعارض، بعض التغيير، بعض العمق، وفي مثل حالة ما يسمى بالكتاب التخييلي داخل الكتاب، “الساعاتي العاقل”، وجود بعض التقلب أو الخفة حتى أثناء اشتغال النص على مواضيع الكتاب.
[ أنت أيضاً موسيقي. هل ثمة طرق جلية أو ملموسة ترى من خلالها أن هذه الحقيقة تؤثر على كتابتك؟
ـ حسناً، كنت قارع طبلة. لذا فإني اهتم بايقاع كتابتي كثيراً. لكن الأغلب أنني أفكر بالأمر على طريقة إعادة كتابة قطعة موسيقية لآلة غير تلك التي كتبت لها أساساً. أنظر الى نفسي كمن يدون ما يملى عليه، وبمقدوري ممارسة الإملاء بزوج من عصي قرع الطبل أو بقلم. جل ما في الأمر أن نفس المادة تتأثر من الوتر، فيما خصني أنا، وبطريقة محببة تبدو عرضية سواء عملت على التفاعل معها رقصاً، رسماً، كتابة، أو أطلقت صوتاً من بوق. الفن الأفضل هو ما يجعل الوسط المستعمل عرضياً، حين اندمج كلياً في مقطوعة عزف منفرد لكولتراين أو لبيل ايفان، لا يعود من وجود أو معنى للساكسافون أو البيانو، بل يغدو شفافاً وتشعر أنت بالتلذذ بموسيقى صافية أو خالصة. هذا هو نوع المثال الذي صبو اليه وأصوب نحوه بنثري. في أفضل الحالات تحمل اللغة المعنى بدقة على نحو يجعل الكتابة تتلاشى. لن يبدو الأمر وكأنك تقرأ بل تتشرب التجربة مباشرة. بالطبع يتبخر ذلك الإحساس في اللحظة التي تدرك حدوثه، لكن هذا أيضاً ساحر وأخاذ. وها قد عدنا من جديد الى دراما الوعي…
[ عمل أول، عن دار نشر صغيرة، لفت الانتباه بسرعة وعلى نطاق واسع ينطوي برأيي على تبدل مجز للأحوال؟
ـ غريب كيف أن كامل تجربة ايصال هذا الكتاب الى مرحلة النشر يمكن قراءتها كحبكة دبجت لبرامج التوك ـ شو أو ما شابه، لكن، أجل، كتبت الرواية ولم أجبر أي دار نشر تجارية تهتم بنشرها. لذا فإنها قبعت داخل الدرج ما بين السنتين والثلاث حتى جئت على ذكرها خلال زيارة صديق قال لي بأن اقصد صديقاً له قام بقراءتها وأرسلها من ثم الى ايريكا غولدمان، صاحبة دار نشر بيليفيو ليتراري برس، الخ… أمر مشجع لأن معنى ذلك وجود أطنان من البشر يحبون القراءة والذين سيجدون الكتب التي يودونها، والذين سيخبرون بعضهم البعض عن هذه الكتب ويمررونها من واحد الى آخر، ولا شك أن ذلك يمثل تلك العملية البشرية الكبيرة التي ستثابر على الاستمرار على الرغم من الجهود الجبارة لجعل الأمر يتحول الى شيء أشبه ببيع معجون أسنان أو أجهزة مسطحة الشاشة. أقصد شعوري أن كلية الطب لجامعة نيويورك تقوم بنشري. يبدو الأمر غريباً على الورق، لكنه نجح بشكل جميل حقاً، لا أستطيع تخيل تجربة أولى أفضل نشرت على هذا النحو.
[ هل تعمل حالياً على شيء آخر؟
ـ أعمل على رواية ثانية، تتناول الجيل الثاني من نفس العائلة التي وردت في “مصلحون”.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى