فواز حداد: المدن المتخيّلة تعجّ بالوافدين
بهيج وردة
الروائي المسكون بأسئلة الحاضر يستحضر الماضي للإجابة، ويعترف بفضل ناشره (رياض الريس) في تقديمه كروائي، بعد أعوام من الصمت الإعلامي. وعندما تسأل حداد -المتفرغ للكتابة منذ عقد من الزمن- عن جديده، يبتسم ويجيبك: أنا في حالة كتابة دائمة. (الجزيرة) التقت الروائي السوري فواز حداد المرشح لبوكر المعربة هذا العام عن روايته – الممنوعة- (عزف منفرد على البيانو)، وكان هذا الحوار:
هل المنع هو شرط لوصول الروايات السورية إلى القائمة المختصرة لجائزة بوكر العربية في دورتها الثانية، كما حصل مع روايتك (المترجم الخائن)، وقبلها رواية خالد خليفة (مديح الكراهية)، واللتان لا تزالان ممنوعتين؟
لا أحسب أن لجنة التحكيم تفكر على هذا المنوال، والمنع ليس امتيازاً يمنح لأي رواية، وهو معيار مرفوض تماماً. الامتياز الوحيد هو الجودة. أما إذا وضع المنع لصالح العمل الروائي، فهذا يسيء للجائزة، لأنها بذلك تعتمد معياراً خارج معايير الجائزة والأدب. إن ما يصيب الرواية في بعض البلدان من منع أو حجر أو مصادرة، لهو أمر يعني حرية الرأي، وقد يصادف أن يكون عدد من هذه الروايات ذا سوية فنية جيدة.
تعرف الرواية أنها نمط مديني بامتياز، ما الشروط التي يجب أن تتوفر في المدينة لتصلح فضاء روائياً؟
ما أعرفه عن علاقة الرواية بالمدينة، المقصود به نشأة الرواية مع تشكل المدينة، وهذا لا علاقة له بمدينة تصلح أو لا تصلح فضاء روائياً. نعم، لولا المدينة ما كانت الرواية، هذا في البداية، لكن فيما بعد انطلقت الرواية لترتاد العوالم كافة، حتى تلك المدن المتخيلة التي لا وجود لها على الأرض، ولدينا أمثلة قوية مثل جان جيونو الكاتب الفرنسي الذي كتب أروع الروايات عن الريف الفرنسي، والليبي إبراهيم الكوني الذي كتب عن الصحراء، وكشف لنا عالماً لا يقل عن عالم المدينة عمقاً واتساعاً. أما لماذا تُكتب أغلب الأعمال الروائية حول المدينة، فلأن المدينة تنمو والريف ينحسر، والأهم ما تعج به المدن من بشر مقيمين ووافدين إليها، وتنامي تشابك المصالح وتعقّد الصراعات والمنازعات في داخلها، واستيعابها للجديد، وتطلعها نحو الأكثر جدة.
هاجمك البعض على انتقادك المثقف في رواية (المترجم الخائن) -وهذا ليس بجديد في كتاباتك. هل كان كلام الروائي في إحدى قصصك تبريراً مسبقاً لنيتك بتناول هذه الشريحة الإشكالية بالنقد؟
ثمة فارق بين الواقع والأدب، والرواية تحاول رأب الصدع بينهما إلى الحد الذي نرغب في قول إن الرواية تعادل الحياة، وهو في الحقيقة طموح كبير. نحن نكتب ما شاء لنا، وندعي ما يروق لنا، ولهذا أحياناً تكون الشقة واسعة بين ما نكتبه أو نقوله وبين ما نفعله. لا نطلب أن يكون الكاتب مثالياً ولا طهرانياً، بينما ينافق ويكذب ويتزلف ويبيع نفسه بغية تمرير مصالحه، والنقطة التي ألح عليها دائماً، أن ينسجم الكاتب مع نفسه، مهما كان هذا الانسجام. وهذا ما يدعونا ومن طرف آخر للتساؤل، أليس ثمة تأثير للثقافة على سلوكنا الشخصي؟ كيف ندافع عن قضايا عامة، إذا كان من الممكن شراؤنا بثمن مهما كان باهظاً، هو بخس في النهاية؟
كثير من أبطالك لهم صلة مباشرة بالتاريخ، كالصحفي وأستاذ التاريخ والروائي، هل ترى أن الرواية هي إعادة كتابة للتاريخ؟
من المبالغة الادعاء بأن الروائي يعيد كتابة التاريخ، الروائي ليس في هذا الوارد، ولا هي مهمته، وليست لديه القدرة على الإقدام على هكذا عمل. إنه كاتب قصص وحكايات، وبالتالي يسير في اتجاه آخر، وحتى في حال أصغى إلى الوثيقة وجعل لها مكاناً مهماً في عمله، يبقى الخيال عدته التي لا يستغني عنها. في حين يحرضنا التاريخ على التأمل، ومن خلاله نرضخ للزمن، وفي هذا اختبار كبير للحاضر، ومواجهة بين الكاتب القادم من «الآن»، والتاريخ داخل ماضٍ منصرم، ليسهم مع الراهن بتشكيل رواية تبقى دون أن تزيد مدينة لكليهما. ولتشكل الرواية في هذا المضمار، الصلة بين زمنين -بين ما حدث سابقاً وما يجري حالياً- مادتها البشر وتلك الجغرافيا الراسخة والطموحات الغامضة.
أين ترى الرواية السورية اليوم، هل هناك حرس قديم وجديد فيها – كما روج إعلامياً؟ ما رأيك بالجدد من الروائيين السوريين؟ وهل هي مجرد موجة فقط؟
يوحي تعبير الحرس بالحماية، عدا عن الدفاع والهجوم. الأمر خلاف ذلك. ما أعرفه أن الحرس الجديد، إذا جاز استعمال هذا التوصيف، ظهر تحت رعاية الحرس القديم، وهو امتداد روائي لهم، وإن كان لم يثمر رواية جديدة بعد، أو يضف شيئاً مهماً، سوى المزيد من الجرأة الجنسية، التي تفوقوا فيها على من سبقهم، الذي لم يكن متزمتاً ولا حنبلياً حيال هذا الجانب. ما فعلوه هو إعادة صياغته بابتذال، وفي هذا كانوا محقين، فالجنس في هذا العصر فقد هالته، وتمظهر بشكل سقيم، حتى أن المشاعر العاطفية تراجعت في الأغاني. رأيي أن يكون الكتاب الشباب روائيين أولاً، بعدها بوسعنا الكلام عن رواية جديدة.