صفحات سورية

زيـارة بـوش: المصالـح فـوق حقائـق الشـرق الأوسـط

null


نعوم تشومسكي

سافر الرئيس جورج بوش في اواسط شهر أيار الى الشرق الاوسط ليكرس إرثه في هذا الجزء من العام الذي كان البؤرة الاولى لاهتمامه أثناء رئاسته. كانت للرحلة وجهتان، اخير كل منهما للاحتفال بذكرى سنوية كبرى: إسرائيل، حيث الذكرى الستين لانشائها واعتراف الولايات المتحدة بها، والمملكة العربية السعودية للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لاعتراف الولايات المتحدة بالمملكة التي كانت حديثة التأسيس. الخياران ملائمان اذا وضعا في ضوء التاريخ والاستراتيجية الراهنة.

غير أن إغفالا ملحوظا قد حصل، لم يغب عن شعب المنطقة. على الرغم من ان بوش احتفى بتأسيس إسرائيل، فإنه لم يشر (ناهيك عن تذكر) الحدث الملازم: تدمير فلسطين، النكبة. كان الرئيس مشاركاً متحمساً في الاحتفالات الباذخة في القدس، وحرص على الذهاب الى موقع مسادا شبه المقدس في العقيدة القومية اليهودية. لكنه لم يزر مقر السلطة الفلسطينية في رام الله او اي مخيم للاجئين او مدينة قلقيلية التي يطبق على أنفاسها «جدار الفصل» الذي صار الآن «جدار الضم» في ظل الاستيطان غير الشرعي وبرامج التطوير التي اصبح بوش اول رئيس يساندها علناً. ولم يكن مطروحاً إجراء اي اتصال بـقادة «حماس» واعضاء المجلس التشريعي الذي تشكل إثر الانتخابات الحرة الوحيدة التي شهدها العالم العربي، ويقبع من بينهم كثيرون في السجون الاسرائيلية من دون حاجة (اسرائيل) الى الزعم انهم يواجهون اجراءات قضائية. غني عن البيان وجود سبب رسمي لمشاركة واشنطن في العقاب الوحشي للفلسطينيين بسبب تصويتهم «في الاتجاه الخاطئ» في انتخابات حرة. لم يقبل الحزب الفائز «حماس» الشروط الثلاثة التي فرضها «السيد»: الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف والموافقة على الاتفاقات السابقة، خصوصاً على «خريطة الطريق» التي وضعتها اللجنة الرباعية. لقد اعتبر الموقف هذا مصيباً ومنصفاً في الغرب. غير ان الولايات المتحدة وإسرائيل ترفضان الشروط هذه في كل حين. وبلا أي جدال، فإنهما لا تعترفان بفلسطين ولا تنبذان العنف وفي حين أنهما تقبلان شكليا «خريطة الطريق»، الا ان اسرائيل قد اصرت على اضافة اربعة عشر تحفظاً ادت الى افراغ «خريطة الطريق» من مضمونها، بموافقة الولايات المتحدة. يضاف الى ذلك ان «حماس» دعت من دون توقف وتكراراً الى تسوية على أساس دولتين وفقاً للإجماع الدولي الذي رفضته الولايات المتحدة وإسرائيل، لوحدهما تقريباً، لأكثر من ثلاثين عاماً وما زالتا ترفضانه.

مع ذلك، فإن بوش سمح لمحمود عباس، المفضل عند الولايات المتحدة بالمشاركة في الاجتماعات في مصر إلى جانب العديد من القادة الإقليميين.

ولا يصعب إدراك السبب الذي دفع بوش الى اختيار تكريس ارثه من خلال التشديد على العلاقات مع اسرائيل والمملكة العربية السعودية، مع التفاتة جانبية الى مصر الى جانب ازدراء الفلسطينيين وحالتهم المزرية، باستثناء بعض الجمل الطقسية.

لا ينبغي علينا إضاعة الوقت في التفكير ان الخيارات هذه على اي نوع من الصلات بالعدالة او بحقوق الانسان او برؤية «لتعزيز الديموقراطية» التي أمسكت بروح الرئيس الى ان انهارت الذرائع التي قدّمها لاجتياح العراق. بل ان الخيارات تتوافق مع مبدأ عام، تجري متابعته بثبات ملحوظ: إن الحقوق تتعين بالتوافق مع خدمة السلطة. الفلسطينيون فقراء وضعفاء ومشتتون ولا صديق لهم. يكاد يكون بديهياً والحال على ما تقدّم، ألا يكون لديهم أية حقوق. وفي تناقض حاد، تمتلك السعودية موارد طاقة لا تمكن مقارنتها بشيء مشابه، ومصر هي دولة عربية كبرى وإسرائيل هي بلد غربي غني وعقدة النفوذ الاقليمية وتملك سلاحي جو ومدرعات اكبر واكثر تقدما تكنولوجيا من أي قوة في حلف شمالي الاطلسي (باستثناء رئيسه) الى جانب مئات من الرؤوس النووية واقتصاد متقدم ومعسكر على نطاق واسع ووثيق الصلة بالولايات المتحدة. تقاس الحقوق بالتناسب مع الخدمات المقدمة.

تعود العلاقات السعودية الأميركية الى الاعتراف بالمملكة في العام 1933ـ وليس صدفة ان تكون هي السنة ذاتها التي نالت فيها شركة «ستاندرد اوف كاليفورنيا» امتياز النفط وبدأ الجيولوجيون الاميركيون استكشاف ما تبين لاحقاً انه اكبر احتياطي نفطي في العالم. سارعت الولايات المتحدة الى التحرك لضمان سيطرتها مزيحة بريطانيا من طريقها. وقد جرى ذلك، وفق ما يحصل دائماً في عالم الأعمال، في سبيل أنبل الأهداف. ويشرح الوزير الاميركي المفوض في المملكة العربية السعودية الكسندر كيرك ذلك بالقول «غني عن البيان ان نظاما عالميا مستقرا قابل للانجاز فقط في ظل النظام الاميركي» الذي «سيساعد البلدان المتخلفة على مساعدة نفسها من اجل ان ترسي اسس الاعتماد الحقيقي على الذات». ونصح مستشار الرئيس روزفلت لشؤون السياسة الخارجية وليام بوليت، نصح الرئيس بتوفير مساعدة «الإعارة والتأجير» للحكام السعوديين لضمان أنهم لن يسمحوا للبريطانيين بالوصول إلى الامتيازات الأميركية التي جرى التخطيط لها. واعترف روزفلت بناء على ذلك بالحكم الملكي في السعودية كواحد «من الحلفاء الديموقراطيين» الذين يقاتلون النازيين، معلناً أن «الدفاع عن المملكة العربية السعودية (سيكون) حيوياً من أجل الدفاع عن الولايات المتحدة، وتكون هذه الديموقراطية النابضة بالحياة مهيأة لتلقي مساعدة «الإعارة والتأجير» بما في ذلك المواد النادرة». كانت تلك خطوات من عملية طويلة استولت عبرها الولايات المتحدة على السيطرة العالمية من بريطانيا وقلصتها ببطء إلى «شريك أصغر»، بحسب ما اشتكت وزارة الخارجية البريطانية، مشيرة إلى عجزها عن مواجهة «الامبريالية الاقتصادية للمصالح الاقتصادية الأميركية، شديدة النشاط تحت غطاء الاممية الخيرة والودية» فيما «تدفعنا بالمرافق الى الخارج».

وظلت العلاقات الأميركية ـ السعودية متينة على الرغم من ان الناشرة السابقة لصحيفة «وول ستريت جورنال» كارن اليوت هاوس لاحظت أن «الشراكة المديدة في الاعمال» والتي «جرى الاحتفال بها في الأسبوع الحالي بزيارة قام بها الرئيس جورج دبليو بوش… تهترئ على نحو ظاهر».

اتخذ التحالف الاميركي ـ الاسرائيلي القوي شكله الحالي في العام ,1967 عندما قدمت إسرائيل خدمة كبرى الى الولايات المتحدة بتدميرها المركز الرئيس للقومية العربية العلمانية، مصر الناصرية، كما حمت الحكام السعوديين من التهديد القومي العلماني. وأدرك المخططون الاميركيون قبل عقد من ذلك ان «النتيجة الطبيعة المنطقية» لمعارضة الولايات المتحدة للقومية العربية «الراديكالية» (أي الاستقلالية) ستكون من خلال «دعم اسرائيل بصفتها السلطة القوية الوحيدة في الشرق الأوسط المؤيدة للغرب الباقية في الشرق الاوسط».

وبقي التحالف متيناً. والى جانب العلاقات الوثيقة للغاية في المجالات العسكرية ـ الاستراتيجية ـ الاستخبارية، فإن التكامل بين الاقتصاديين القائمين على التقنية العالية يتواصل. ويوضح ذلك قرار أحد كبار المنتجين العسكريين الإسرائيليين، شركة رافايل، بتحويل معظم عمليات التطوير والتصنيع التي تقوم بها إلى الولايات المتحدة. وقد ازدادت زيادة حادة استثمارات الشركات الأميركية الكبرى في صناعة التقنية العالية الاسرائيلية، بما في ذلك شركة «انتل» وهيولت ـ باكارد ومايكروسوفت ووارن بافت وغيرها، وقد انضم عدد من كبار المستثمرين من اليـــابان والهند ـ وفي الحالة الأخيرة يمــثل ذلك احد وجوه التحالف الاستراتيجي الاميركي ـ الاسرائيلي ـ الهـندي.

وهناك، حكماً، عوامل أخرى اساسية في العلاقة الاميركية ـ الاسرائيلية. كشف النقاب عن بعضها في الخطاب الرسمي الذي ألقاه بوش اثناء زيارته الاحتفالية الى القدس. وقد تم تجاهل «الرؤى» التي وسم بها كلامه السابق غير ان بعض تباهيه لم يمر من دون ان يلاحظه احد. لقد ادانت الصحافة السعودية بمرارة «تجرؤ بوش على تسمية اسرائيل (وطن الشعب المختار)»، ما يدل ضمناً على ان «الباقين منا» ليسوا من «المختارين». أضافت ان «ميزة (بوش) الخاصة بالإفلاس الأخلاقي كانت واضحة تماما عندما مر مرورا سريعا على الدولة الفلسطينية في رؤيته للمنطقة بعد ستين عاما». وكانت اعجوبة صغيرة ان يصف رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت «بالقائد العظيم» و«بمصدر الالهام». وربما كان في ذهن اولمرت آثار بوش لمسألة «روابط الكتاب المقدس»، عن الايمان الذي يتشارك فيه المسيحيون مثله واليهود، وفق ما علقت الصحافة الاسترالية فيما بدا ان المسلمين وحتى المسيحيين العرب كأولئك المقيمين في بيت لحم والمحظور عليهم الآن الدخول الى القدس التي تبعد كيلومترات قليلة بسبب مشاريع البناء الإسرائيلية غير الشرعية، لا يشاركونها هذا التفسير. وتجاهلت الولايات المتحدة تقريباً تلك الخطابة الملتهبة. كما تجاهلت رد الفعل السعودي على زيارة بوش السابقة في كانون الثاني عندما سعى إلى زج المملكة في تحالفه المناهض لإيران. ونددت افتتاحية في صحيفة سعودية كبرى حقيقة أن «السياسة الأميركية لا تمثل دبلوماسية البحث عن السلام، بل جنون البحث عن الحرب». ردود الفعل هذه تبعث فعلاً على الدهشة. وعلق السفير تشاس فريدمـــان موضحاً ان «العرب معروفون بكياستهم وبترحيبهم بالضيوف حتى عندما لا يكونون معجبين بهؤلاء الضيوف».

لن يكون سهلاً جمع تحالف ضد ايران على الرغم من قلق الحكام السنة بشأن «الهلال الشيعي» وتنامي النفوذ الايراني الذي يوصف دائماً «بالعداوني». ولدى الحكام كل الاسباب ليفضلوا التكيف على المواجهة والتهديد بالعنف، فيما تلوح في الخلفية رغبات التوجه شرقاً بل ربما الانضمام الى «منظمة شنغهاي للتعاون» وهي قوة متعاظمة في الشؤون العالمية. ومع أن الرأي العام مهمّش، فلا يمكن عدم أخذه نهائياً في الاعتبار. وقد احتلّ جورج بوش في استطلاعات الرأي الأخيرة موقعاً متقدماً للغاية على أسامة بن لادن في فئة الشخصيات «غـــير المرغوبة اطلاقا»، ليزيد من ضعف المكان الذي احتله الرئيس الايـــراني احمـدي نجاد او زعـــيم حزب الـــله حسن نصر الله.

وكشفت الاستطلاعات ايضا ان الاميركيين والايرانيين يتوافقون كثيراً حول المسائل الكبرى. فقد اتفقوا وبأكثرية واسعة على ان ايران مؤهلة للحصول على الطاقة النووية وليس السلاح النووي، وعلى تفضيل التسوية السياسة واقامة منطقة خالية من الاسلحة النووية في الاقليم تشمل ايران واسرائيل. واعلن في منتدى عقد في واشنطن المحلل الاستراتيجي البارز جوزف سيرنيسيون، النتائج هذه، قائلاً ان الاستطلاعات اظهرت «الحس السليم عند الشعبين الاميركي والايراني اللذين يبدوان قادرين على تجاوز الخطابات التي يطلقها قادتهما للعثور على حلول تلائم الحس المشترك في بعض من اكثر المسائل حساسية» التي تواجه الأمتين اللتـــين تفضلان الحلول البراغماتية والدبلوماسية للتغلب على خلافاتهما.

ويمكن الاستنتاج من النتائج انه اذا كانت الولايات المتحدة وايران وغيرهما مجتمعات تسودها الديموقراطية ويتمـــتع فيها الرأي العـــام بتأثير على السياسة، فإن المواجهات شديدة الخطـــورة التي تلوح في الأفق يمكن تسويتها على الأرجح سلـــمياً وهذه دروس قابلة للتطبيق على نطاق اوسع بكثير.

([) تنشر «السفير» هذا النص بإذن من نعوم تشومسكي، وذلك قبل أن تنشره صحيفة «نيويورك تايمز» بصيغة معدلة بعد أيام.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى