الاستعصاء السياسي في المنطقة يعزّز خيار «سورية أولاً»
ماجد كيالي
لا يبدو أن حل «الدولة الفلسطينية ذات الحدود الموقتة» سيشكل مدخلاً مناسباً لتفعيل عملية التسوية، فهو بأحسن أحواله يعوّم هذه العملية فقط ويحركها، ما يفسر القلق والتردّد لدى القيادة الفلسطينية، كما عبّر عنه الرئيس محمود عباس.
وإذا كان حل الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، من دون حق العودة، ومن دون تغيير طبيعة إسرائيل كدولة دينية وعنصرية ووظيفية في المنطقة، ومن دون انسحابها من الجولان السوري وما تبقى من أراضٍ لبنانية محتلة، يعتبر حلاً مجحفاً وموقتاً، ما يفتح الباب لاحقاً على صراعات وربما حروب أخرى، فكيف إذا كان الأمر مع مجرد دويلة في حدود موقتة؟!
واضح من هذا الحل الذي تطبخه وتروجه المحافل الأميركية والإسرائيلية، أن إسرائيل غير جاهزة بعد لتسوية حقيقية، وأن الإدارة الأميركية، في الوضع الراهن، غير قادرة على دفع إسرائيل نحو تسوية نهائية وشاملة، وأن ثمة مشكلات ومتغيرات أخرى ينبغي أخذها في الحسبان، مع التأكيد على أهمية القضية الفلسطينية.
مثلاً، ثمة مشكلة العراق، لجهة ترسيخ الأمن والاستقرار، وتحقيق الاندماج المجتمعي فيه، كما لجهة الخشية من وقوعه في إطار الفوضى، أو في إطار الهيمنة الإيرانية بعد خروج القوات الأميركية منه. وعلى صعيد المتغيرات يمكن ملاحظة التخوف الدولي والإقليمي من تزايد نفوذ إيران في المنطقة، من العراق إلى فلسطين ولبنان، يفاقم منه إمكان حيازة إيران طاقة نووية للأغراض العسكرية.
وفي شكل خاص أيضاً يمكن ملاحظة المتغير الناجم عن تزعزع مكانة إسرائيل كقوة إقليمية رادعة، وهو ما انكشف في إخفاقها في حربي لبنان (2006) وغزة (أواخر 2008)، وفي تهديد إيران لها بكسر احتكارها النووي. كما يمكن ملاحظة انحسار مكانة اسرائيل في العالم، بسبب تعنتها وعدم التزامها القانون الدولي، ما نجم عنه تضعضع علاقاتها مع كل من تركيا والاتحاد الأوروبي، وحتى مع الولايات المتحدة، التي باتت تعتبرها بمثابة عبء عليها، ومصدر تهديد لمصالحها في المنطقة.
متغير آخر، غاية في الأهمية، يتمثل بتحول الولايات المتحدة عن سياسات إدارة بوش المنصرفة إلى سياسات جديدة، نميز منها خصوصاً، تغيير سياستها إزاء إسرائيل، لدرجة إبداء الضغوط عليها للتجاوب مع عملية التسوية، لتسهيل سياساتها الشرق أوسطية. وكذا تحولها من سياسة اعتماد القوة إلى سياسة الحوار والديبلوماسية، الطويلة النفس، وهذا ما يحصل مع سورية وإزاء إيران أيضاً. هذا إضافة الى تخليها عن سياسات فرض الإملاء والتدخل المباشر، لتغيير الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط بالقوة أو بالتهديد والإكراه. وقد حصل ذلك بعد ان اتعظت الولايات المتحدة من التداعيات السلبية والكارثية لتدخلاتها في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان، والتي أسهمت في تقويض صورتها وإضعاف مكانتها في المنطقة.
الآن إذا كانت كل هذه المشكلات والمتغيرات تدفع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة لإيجاد مخرج ما لتفعيل عملية التسوية على الجبهة الفلسطينية، فإنها تدفع، وبما لا يقاس، للتركيز أيضاً على خيار سورية أولاً، بالنظر الى تأثيره الايجابي على مختلف ملفات المنطقة، من لبنان إلى العراق مروراً بفلسطين وصولاً إلى إيران.
معلوم أن سورية، خلال العقد الماضي، وعلى رغم الضغوط الأميركية والإسرائيلية، تمكنت من تعزيز مكانتها في المنطقة. وهي مثلاً أقامت علاقات وطيدة ومتنوعة مع تركيا، مع محافظتها على علاقاتها المتميزة مع إيران، ولا زالت تملك تأثيراً كبيراً في لبنان على رغم خروجها منه. وعلى الصعيد العربي عادت العلاقات السورية ـ السعودية إلى طبيعتها، وثمة محاولات في هذا الإطار مع مصر.
كذلك ثمة علاقات وثيقة بين سورية والعديد من الدول الأوروبية، حتى أن الولايات المتحدة الأميركية باتت تحث الخطى نحو تطبيع العلاقات مع سورية، وهي في خطابات أركانها تؤكد على أهمية الحوار معها، وعلى التمييز بينها وبين إيران.
على ذلك، فإذا كانت الولايات المتحدة غير قادرة على فرض تسوية معقولة بالنسبة الى الفلسطينيين، لا تبدو إسرائيل مهيئة لها، وإذا كانت عازمة على الخروج من العراق وعدم تركه للمجهول، وإذا كانت غير راغبة بالذهاب نحو حل عسكري للملف النووي الإيراني، مفضلة الحل السياسي، فمن البديهي والحال كذلك أن تكون سورية هي المخرج، بعد أن باتت بمثابة عقدة الحل والربط لمختلف أزمات المنطقة.
وفي الواقع فإن الخيار السوري كان دائماً على الطاولة، وكانت إدارة بوش أعاقت هذا الخيار، لا سيما أن المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، التي أجريت منذ مطلع التسعينات، تمخّضت عن إيجاد حلول لحوالى 80 في المئة من القضايا التفاوضية، ما يدعم حقيقة أن الصراع لا يدور فقط على الأراضي المحتلة، وإنما على مكانة سورية وحدود دورها في المنطقة.
يؤكد على ذلك أوري ساغي (لواء احتياط ورئيس سابق لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل)، والذي تولى الإشراف على المفاوضات الإسرائيلية – السورية (1990 و2000)، في تصريحات له أفاد فيها بأن سورية وإسرائيل كانتا على وشك التوصل إلى اتفاق سلام كامل بينهما، وأن عدم تحقيق ذلك كان بمثابة «فشل سياسي استراتيجي من الدرجة الأولى»، محملاً مسؤولية ذلك لإيهود باراك (رئيس الوزراء الأسبق ووزير الدفاع الحالي). وبحسب ساغي فإن خمسة رؤساء وزراء (رابين وبيريز ونتانياهو وباراك وأولمرت) قبلوا مبدأ الانسحاب الكامل من الجولان إلى حدود الرابع من يونيو 1967. («الحياة»، 28/4 الماضي)
أيضا، وبخصوص عودة خيار «سورية أولاً» يمكن التذكير بتصريح أدلى به أخيراً جيمس جونز (مستشار الأمن القومي الأميركي)، أشار فيه إلى أن «السلام بين إسرائيل وسورية يمكن أن يحدث انقلاباً في الشرق الأوسط.» وهو ما كرره جيفري فيلتمان (مساعد وزيرة الخارجية الأميركية)، الذي أكد أيضاً على أهمية الحوار مع سورية. وقال إن «تحقيق سلام شامل في المنطقة سيكون مفتاح التغيير التاريخي. هذه هي اللعبة الكبيرة التي ستبين للسوريين التقدم الممكن الناتج عن التعاون، وهي التي ستؤثر في «حماس» و «حزب الله».» («النهار» 23/4 الماضي) كذلك يمكن أن نشير إلى ما كتبه مارتن انديك أخيراً في صحيفة «نيويورك تايمز» الاميركية (21/4)، وجاء فيه: «في الوقت الراهن، لا يوجد شيء من الممكن أن يساعد أوباما أفضل من عرض نتانياهو التنازل عن الجولان، كما فعل أربعة رؤساء وزراء إسرائيليين سابقين، مقابل السلام مع سورية».
أما في إسرائيل فقد بات كثيرون من قادتها يؤيدون التوجه نحو الخيار السوري، ضمنهم وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس الاستخبارات العسكرية، بدفع من أزمة المسار الفلسطيني، والتهديدات الإقليمية التي باتت تتعرض لها إسرائيل، ولتسهيل السياسة الأميركية في العراق وفي مواجهة ايران.
* كاتب فلسطيني
الحياة