صفحات العالمميشيل كيلو

الصين: تنمية باليد اللينة!

ميشيل كيلو
كثيرا ما يتبنى أنصار السلطة المركزية العربية القول باستحالة التنمية دون يد شديدة. أما دليلهم على صحة قولهم فهو الصين، البلد الذي حقق معجزة اقتصادية في زمن قياسي، أقصر من الزمن الذي تطلبته تنمية الدول الرأسمالية المتقدمة، وبطريقة مختلفة عن طريقتها، طبقتها دولة مركزية شديدة اليد، لم تقم تنميتها على الحريات السياسية والنظام الديموقراطي. هذا النموذج الصيني، يستشهد بمركزيته ضد من يربطون عندنا التنمية بالديموقراطية والحريات. يقول أنصار الطريق الصيني: لو كان هناك ديموقراطية لما تحققت التنمية في الصين، ولبقيت فقيرة متخلفة. لكن هؤلاء يصمتون عندما يواجهون السؤال: لماذا عجزت يد الدولة المركزية الشديدة جدا عن تحقيق التنمية في بلداننا؟ إذا كانت اليد الشديدة حامل التقدم الاقتصادي والاجتماعي وحافزه، أما كان من الحتمي أن تصير بلداننا ودولنا، الخاضعة خضوعاً مطلقاً لهذه اليد، من أكثر بلدان ودول العالم تقدماً وتطوراً؟
يستحيل تفسير تقدم الصين بالمركزية الشديدة وغياب الحريات والديموقراطية. لو كان التقدم يفسر بالشدة والسلطوية، لما كان هناك مشكلات تنموية في معظم أرجاء العالم النامي، ولما مات ملايين البشر جوعا وعطشا ومرضا وتشردا كل عام، ولكانت البلدان المتقدمة متأخرة ولاحتلت البلدان المتأخرة صدارة المسرح الدولي في التقدم والتطور.
لا تنهض الأمم ولا تقهر تخلفها بغير مشروع تاريخي متشعب/ مترابط الحلقات، يغطي سائر مجالات وجودها. مشكلتنا نحن عرب اليوم أننا لا نملك مشروعا كهذا، ونفتقر إلى ما هو أقل منه بكثير. بينما تطبق الصين منذ نيف وثلث قرن مشروع نهضة عملاقا، جعل الخارج يسهم بقسط وافر في نجاحه، فإن المشروع الصيني كان داخليا بالدرجة الأولى، وضعته نخبة الحكم كمشروع قومي تحديثي طويل الأمد، يستهدف تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وبشرية عصرية وشاملة، انطلق من إعادة نظر جدية في أدوار الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وفي وظائفهم، ومن إعادة تعريف محدداتهم الاجتماعية والسياسية وعلاقاتهم بعضهم مع بعض ومع الدولة والمجتمع، ومن عقد سياسي/ اجتماعي وجدت الدولة والمجتمع فيه مصالحهما المشتركة والمتطابقة، على كل الأصعدة. لولا هذا المشروع، لما كان هناك أرضية للتنمية الشاملة التي تشهدها الصين، ولما تغير وضعها في العالم وغدت إحدى أكثر دوله نفوذا وتأثيرا، ولما احتاج المتقدم والمتأخر من بلدانه إلى تجارتها، وصناعتها، وفوائضها الزراعية، وقوتها الشرائية، ومبيعاتها، ومواردها، وخدماتها، وتقنيتها، ووصلت سلعها وأدويتها وسياراتها وموادها الغذائية ومنسوجاتها وتقنياتها الرخيصة إلى أربع أقطار الأرض، لتمكن أعدادا هائلة من فقرائها من التمتع ببعض نعم عصرهم، ومعايشة عالم كانوا خارجه، ومهددين بالحرمان الدائم من تقدمه.
بدأت الصين مشروعها بالانفكاك عن المعسكر الاشتراكي والحركة الشيوعية الدولية، وبالتكور، بالمقابل، على ذاتها، لوقف هدر وتبديد طاقاتها وتأمين مستلزمات نهضة شاملة ضرورية لإنقاذها، يجب أن تستمر لفترة طويلة تنجز خلالها ما فاتها من تقدم وتطور، وتلحق بالعالم، الرأسمالي منه تحديدا، لتندمج فيه صناعة وزراعة وتجارة وتقنية وعلماً.
بعد حقبة منحت خلالها الأولية لتنفيذ استراتيجيات ثورية عالمية محورها السوفيات، خاضت خلالها صراعات غاضبة انتهت إلى حرب مع أميركا في كوريا، ونصف حرب معها ثم مع السوفيات في فيتنام وعلى طول حدودها الآسيوية، تخلت الصين عن الرغبة في التحول إلى مركز للحركة الشيوعية والثورية العالمية، وقررت الخروج من تجاذب دولي استنزافي ولا نهاية له، وأعطت أولية مطلقة لبنائها الذاتي، ولتفادي تكرار موجات مجاعات متلاحقة فجرت ثورات جياع محلية متزايدة العنف، عبر وضع حد نهائي لانخراطها في معارك أيديولوجية وخارجية فاقت قدراتها واحتجزت تطورها الاقتصادي والاجتماعي، وأبقتها غارقة في تأخر لم يتوقف عن التفاقم.
هذه الرؤية الصينية الجديدة، كانت خطوة أولى أعقبتها خطوة ثانية، تركزت حول إعادة النظر في خيارات النظام العامة وخاصة الاقتصادية منها. في هذا السياق قال دنغ سياو بنغ، زعيم الصين الإصلاحي، جملته الشهيرة: «ليس مهماً لون الهر، المهم أن يصطاد الفئران». كان الهر الصيني أحمر اللون، يجهل كيف يصطاد الفئران، فصار لونه وردياً، لكنه تعلم اصطيادها بمهارة ستحسده عليها بعد قليل أمم العالم وخلائقه.
عوض هلاك الصين من أجل ثورة عالمية تفاقم مشكلاتها وتقوض أمنها القومي وسلامها الاجتماعي، تبلور فهم أعطى أولية مطلقة لتنمية الصين من خلال مواردها الذاتية، وعزلها عن الصراعات الدولية، على أن تعرف كيف تفيد من إطار كوني ملائم، رأسمالي أساسا. هكذا صارت التنمية الذاتية الثورة الوحيدة، التي يمكن الصين تحقيقها، وصار من الحكمة إرجاء الثورة العالمية إلى أمد يصعب تحديده، فقطعت أو جمدت العلاقات مع «الأحزاب الشيوعية والعمالية»، بما في ذلك تلك التي ساندت بكين في صراعها مع السوفيات، وتم قصر العلاقات الخارجية على الدول وحدها، بدل الأحزاب، وأقر مبدأ العمل من داخل النظام الدولي، على أن يترجم تعاظم اقتصادها ودوره العالمي المتنامي، ويحترم القانون الدولي ومؤسسات الشرعية الدولية، ويسعى إلى توطيد القيم المشتركة بين الدول والكتل الدولية، وتوسيع التبادل السلعي وحرية انتقال رؤوس الأموال وفتح الأسواق الدولية، كي تخرج الصين في أقصر وقت من العزلة التي كانت تفرضها عليها الحركة الشيوعية وأميركا.
من أواسط السبعينيات فصاعدا، لن يخدم الاقتصاد الثورة العالمية، وستخدم السياسة، وقد اكتسبت طابعا براغماتيا مرنا، التنمية الاقتصادية، التي ستحرر الصين من ركودها التاريخي وتجددها، وتجعل منها دولة جبارة وأمة متقدمة، متمدنة وعصرية، تنافس باقتدار متعاظم دولا كبرى وعظمى لطالما سيطرت على المجال العالمي، بما في ذلك المجال الصيني، وتعزز باطّراد حضورها ونفوذها في كل مكان من عالمنا، متقدما كان أم متأخرا، لتستعيد من موقع قوي الدور اللائق بها، وتقهر فقر شعبها وتقضي على الجوع، وترفع مستوى مواطنيها المادي والروحي، وتزيد من اندماجهم في الاقتصاد الحديث، وتحدث بعوائدها طفرة غير مسبوقة في بناء المدن، وتحديث القرى، ومد الخطوط الحديدية، وإقامة الطرق السريعة، والجامعات، والمستشفيات، ومراكز البحث العلمي… الخ، وتتمكن من لعب دور مفتاحي في المجالات التقنية والعلمية، وعلى صعيد الابتكارات والتجديدات المتنوعة، كانت، على سبيل المثال، أول دولة صنعت عقارا ضد أنفلونزا الخنازير.
لم يقتصر تطور الصين على التنمية الاقتصادية، فقد شهدت تغييرات مهمة في المجال السياسي، نقلت مركز الشأن العام من الحزب إلى الدولة، استنادا إلى فكرة رأت في الحزب تكويناً جزئياً وفي الدولة تكويناً عاماً، وقالت باستحالة أن يمسك تكوين جزئي بتكوين عام، وبمنطقية وضرورة أن يحدث العكس: أن يتبع الحزب الدولة بدل أن تتبع الدولة الحزب. هذه النقلة، جعلت الولاء للدولة، وأنهت أفضلية الحزبي على غيره، وردت الاعتبار للمواطنة وقلصت الصراعات داخل الحزب، وبينه وبين المجتمع والدولة. بعد حين، مع تحول العمل إلى معيار للوطنية والولاء، صار بالإمكان إدخال الرأسمالية إلى الحزب، الذي اكتسب أكثر فأكثر هوية حزب أمة تنبعث من رمادها، بعد أن كان حزب طبقة عاملة ضعيفة ومتأخرة في بلد أغلبية شعبه من الفلاحين الفقراء والمعدمين والعاطلين من العمل والجهلة والمتخلفين، غرق، فضلا عن ذلك، في قرون طويلة من الغربة عن العالم والاستبداد والتخلف. بالولاء للدولة وتبدل دور الحزب وهويته، برزت بيروقراطية الإدارة على حساب بيروقراطية السياسة، واتسع دور العلم والمعرفة في الحياة العامة مقابل تراجع الأيديولوجيا، وبدأت علاقة جديدة بين الدولة والهيئة المجتمعية، قامت على الإقرار بحيوية دورها، وبضرورة أن تتمتع باستقلال نسبي عن الحقل السياسي الرسمي، وإن اقتصر أول الأمر على المجال الاقتصادي، وبشرعية أن يصير المجتمع الفضاء الذي يحق للمواطن التحرك فيه بحرية، خاصة في المجال المدني، لتعويضه عن قيود المجال السياسي، التي تناقصت شدتها، لكنها مارست تأثيراً ضاغطاً عليه، وإن تناقص مع تزايد قدرة الاقتصاد على تمكين الطبقة السياسية من ضبط المجال الداخلي والتحكم بعلاقاته دون اللجوء إلى القمع والإكراه. هذا التطور وطد مكانة القانون، وأثرى علاقات الحاكمين بالمحكومين، وأسهم في زيادة إنتاجية الفرد، وتحسين دخله، وتعظيم استهلاكه، بما في ذلك الثقافي منه، وتوسيع تعامله مع المعلوماتية والاتصالات، والثورة العلمية/ التقنية، وفتح مجالات التحصيل العلمي أمام مئات ملايين المواطنين، داخل الصين وخارجها.
لا داعي للقول إن عدد السجون ومعسكرات الاعتقال تناقص، بينما تحول الاقتصاد إلى رافعة تنظم العلاقة بين الدولة والمواطن، الذي صار يعامل كفرد خلاق يكيّف نفسه مع طرق في العمل تزيد حظوظه في الكسب المادي، وتجعل مصلحته في تجنب المشكلات مع نظام يحرص عليه، لأنه يسهم في زيادة ثروته وقوته، حتى إن كان لا يؤيده. بهذه الرؤية الشاملة والمدروسة، وبالدولة المقتدرة ذات اليد اللينة، التي تزداد ليناً، وليس الشديدة/ القاسية التي تزداد شدة وقسوة، تبني الصين نهضتها وتحقق تقدمها، وتردم الهوة بين العصر وبينها، وتنتقل من مكان تعرج فيه وراء الآخرين، إلى موقع يضعها أكثر فأكثر في صدارة مسرح العالم.
اختلف الصينيون مع السوفيات في أواخر الستينيات على العامل الذي يجب أن تكون له الأولية في التنمية: هل هو علاقات الإنتاج أم القوى المنتجة. أعطى السوفيات الأولوية لعلاقات الإنتاج، وأعطاها الصينيون للقوى المنتجة، للبشر. وقد عبر الموقفان عن جمود النظام السوفياتي وحيوية الصيني، الذي أقلع قي تلك اللحظة عن الاهتمام بلون الهر، واشترط عليه أن يكون قادرا على اصطياد الفئران. ثم، في أواخر السبعينيات، قالت الصين بإمكانية تطوير النظام عبر رافعته الاقتصادية، التي يجب أن يرتبط كل أمر آخر بنجاحها، وأجرت تعديلات على فكرها ونظامها، وتعامل دولتها وحزبها مع مكونات الحقل العام، وأيديولوجيتها، التي كانت ثورية فصارت وظيفية، مركزها دولة تحدث نفسها ومجتمعها في عملية مستمرة، شاملة ومترابطة الحلقات، بدل أن تحدث نفسها ثم مجتمعها في عمليتين منفصلتين، كما في النموذج السوفياتي، الذي اقتبسته أنظمتنا العربية. في الصين، كان استخدام الرافعة الاقتصادية يعني تطوير القوى المنتجة وليس الحفاظ على علاقات الإنتاج: على الأمر الرسمي الراكد. هذه النظرة، انطلقت من حقيقة أن المستوى السياسي لن ينجح في قيادة التغيير الاقتصادي إن بقي جامدا وايديولوجيا، واعترفت بضرورة أن تفضي التحولات الاقتصادية إلى تغيير يطاول السلطة وعلاقاتها، وتداول النخب وتجددها، والحريات الشخصية والعامة، التي غطت الحقل المدني والاجتماعي، وحققت تقدماً في المجال السياسي، الذي بقي ممسوكاً عند مستوى القيادة، لكنه غدا متحركاً، أو تم تحريكه عند القاعدة، كي لا يكبح جموده التنمية، ويجعلها متقطعة وجزئية وقليلة التشابك، وتاليا تنمية تأخر لا تنمية تقدم.
يرى بعض العرب في التنمية الصينية يد الدولة المركزية الشديدة، ولا يرون فيها يدها اللينة والطرية، التي تدير مشروعاً تاريخياً هائل الأبعاد، يراد له تلبية مصالح الصينيين وتطلعاتهم، الذين يزيدهم نجاح التنمية ونجاحهم الشخصي نفوراً من الشدة ويحصنهم ضدها، بينما يجعل ممارستها أشد صعوبة اليوم منها بالأمس. إن مصيبتنا نحن العرب تكمن في افتقارنا إلى مشروع. لو كنا أصحاب مشروع، لتخلينا عن الأيدي الشديدة، ولعلمنا أننا بحاجة إلى عقول صاحية وقلوب متآلفة وإرادات موحدة
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى