دول مرشحة للإفلاس
سلامة كيلة
بدأت الأزمة المالية العالمية في سبتمبر سنة 2008 بافلاس بنوك وشركات اقراض من الحجم الثقيل، لكن يبدو أنها وصلت إلى مرحلة افلاس الدول بعد الوضع الذي تعانيه اليونان والإشارات التي تحذر من ضخامة المديونية التي باتت تعانيها أميركا، وما يمكن أن يطال كلا من اسبانيا والبرتغال وايرلندا، وحتى بريطانيا. هذه الأزمة، باتت تطغى وتنذر بانهيار مالي جديد، ربما يكون أضخم من ذاك الذي طال البنوك ومؤسسات الاقراض، لكنه هذه المرة يتركز في منطقة اليورو، أي أوروبا. فقد تبين أن دولاً مثل اليونان والبرتغال واسبانيا وإيرلندا، وحتى ايطاليا والنمسا وبلجيكا وفرنسا تعاني من مديونية توازي أو تتجاوز ناتجها الداخلي الإجمالي. بسبب تسارع عملية الإقراض في السنوات الثلاث السابقة، خصوصاً بعد الأزمة المالية العالمية.
وبحسب التقديرات فقد بلغ انكشاف المصارف الأجنبية مجتمعة على ثلاث دول من منطقة اليورو هي اليونان والبرتغال وإسبانيا أكثر من 1,6 تريليون دولار (1,2 تريليون يورو)، حصة إسبانيا وحدها هي 908 مليارات يورو، واليونان 164 مليار يورو، والبرتغال 198 مليار يورو. وهو وضع خطر، يهدد بانعكاس أزمة تسديد الديون على المصارف ذاتها التي ما زالت تعاني من الأزمة السابقة رغم الضخ الضخم الذي قامت بع الدول من أجل انقاذها.
وإذا أخذنا مديونية بعض بلدان منطقة اليورو نجد مثلاً أن مديونية اليونان تقترب من الـ 120% من ناتجها المحلي الإجمالي، وإسبانيا تقترب من 66,3%، والبرتغال تقترب من 91,1%، وإيطاليا تقترب من 116,1%، وبلجيكا تقترب من 100,9%، والنمسا تقترب من 75%. وهي في مجمل منطقة اليورو 83,6%، وفي بريطانيا 63%، والولايات المتحدة 91%. وهذا ما يلقي أعباء كبيرة على الميزانية نتيجة النسبة المرتفعة التي يجب على الدولة أن تدفعها كأقساط لهذه الديون. وهو الأمر الذي قاد اليونان إلى الوصول إلى حالة العجز عن سدادها، وما تعاني منه كل من إسبانيا والبرتغال وإيرلندا، وربما إيطاليا، وأيضاً بريطانيا والولايات المتحدة التي قدمت مساعدات هائلة للمصارف والشركات خلال الأزمة التي اندلعت في سبتمبر من سنة 2008.
سنلاحظ أن الأزمة تضرب البلدان الأضعف في منطقة اليورو، والتي كانت الأزمة العامة في النمط الرأسمالي تنعكس عليها أولاً، وأقصد هنا المنافسة التي كانت تهزّ المناطق الأضعف في مجالات الصناعة والإنتاج عموماً. لكن من الواضح أن المؤسسات المالية الكبرى مثل غولدمان ساكس كانت تستغل هذا الوضع من أجل تشجيع الاقتراض، وتدفع نحو زيادة الصرف والنهب من قبل الرأسماليات المحلية. وهذا ما ظهر في وضع اليونان، حيث ساعدت هذه المؤسسات على «الغش» لمصلحة انضمام اليونان لمنطقة اليورو، فغطت على المديونية المرتفعة من أجل قبول اليونان في هذه المنطقة. وهنا سنلمس طبيعة العلاقة التي باتت تتشكل بين الطغم المالية التي تريد تعميم التوظيف في مجال المال، والرأسماليات المحلية التي تتكيف مع الوضع الجديد للرأسمالية فتتحول إلى النشاط المالي، واستغلال الظروف من أجل النهب الأعلى.
لهذا سنجد أن الآليات التي اشتغلت فيها الرأسمالية خلال العقود الأخيرة تفضي إلى تراكم هائل لدى طغم وافلاسات متسعة وصلت إلى دول. وهو الأمر الذي شهدنا مثيله مع بدء نشوء النشاط المالي الجديد منذ سبعينات القرن العشرين، والذي أفضى إلى «أزمة المديونية» التي لحقت ببلدان العالم الثالث. لكنها هذه المرة تطال دولاً رأسمالية، وهو الأمر الذي يفرض ردوداً ربما تكون مختلفة عما حدث في العالم الثالث.
إذا كانت المؤسسات المفلسة قد وجدت من ينقذها، حيث حملت الدول هذا العبء، فإنه ليس من خيار لدى الدول المفلسة سوى نهب المجتمع. وهذا ما بدأ في اليونان عبر إقرار خطط للتقشف تطال الطبقات المتوسطة والفقيرة. ليس لانعدام إمكانية للمساعدة، بل لأن هدف الربح يفرض توسيع النهب. إن الرأسمالية أكثر حرصاً على مصالح مصارفها وشركاتها التي قدمت القروض لتلك الدول، لهذا سوف تفرض على الدول المدينة اجراءات صارمة من أجل نهب المجتمع. ولقد قررت الحكومة اليونانية تخفيض الأجور ومرتبات التقاعد، وكذلك رفع الضرائب على السلع وإضافة ضرائب جديدة، وهو الأمر الذي يعني انحدار المستوى المعيشي لقطاعات واسعة من المجتمع. أي توسيع الإفقار وتزايد البطالة. وبالتالي تفاقم الصراعات الطبقية التي ربما تقود إلى تغيرات عميقة في هذه البلدان.
هذه هي المسألة التي يمكن أن نتلمسها في الفترة القادمة، حيث ان الضغط الشديد على الوضع المعيشي لشعوب تلك الدول يمكن أن يولد ثورات حقيقية، يمكن، على الأقل، أن تلغي سياسات التقشف التي تفرضها الحكومات، وهو ما يعني اتجاهها إلى رفض سداد الديون مما ينقل الأزمة إلى المصارف الكبرى من جديد.
إذا نجحت خطط التقشف، فنحن إزاء صراعات طبقية حقيقية ليس من حل لها، وإذا أفشلت الطبقات المتضررة خطط التقشف فنحن إزاء أزمة أعمق في النمط الرأسمالي ككل. وهنا سوف تتعرض منطقة اليورو لهزة عنيفة يمكن أن تطيح بها، وتضعف وضع أوروبا العالمي. انتظاراً لظهور أزمة المديونية للولايات المتحدة ذاتها.
السفير