من النبيّ الأُمِّي إلى النبيّ الأُمَميّ
جورج طرابيشي
هذا التحوّل من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، أي من الإسلام الذي كان الرسول بموجبه مشرَّعاً له إلى الإسلام الذي صار الرسول بموجبه هو الشارع، يقترن بتحول آخر ذي خطورة لاهوتية وليس فقط تشريعية، هو ذاك الذي أعطى هذا الكتاب عنوانه: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. وقد يكون أوّل ما ترتَّب على هذا التحوّل الخلاف التأويلي الذي نشب حول «أُمِّية» الرسول، وحول المرجعية التي ينبغي اعتمادها في هذا التأويل: أهي إلى القرآن نفسه أم إلى الحديث؟
فمعلوم أنّ صفة «الأمِّية» وردت في القرآن ستّ مرّات: مرتين بصيغة المفرد «أمِّي» وأربع مرات بصيغة الجمع: «أمِّيين». ورغم كلّ الالتباس الذي اكتنف هذه الكلمة وحرَّف معناها ممّن ينتمي إلى الأمّة التي لا كتاب لها إلى من لا يعرف القراءة والكتابة، فإن المعجم القرآني واضح كلّ الوضوح بصدد مدلول هذه الكلمة. فالآية العشرون من سورة آل عمران لا تقيم المعارضة بين الكتابيين والأمِّيين إلا من منطلق أن الأخيرين لم يؤتوا الكتاب الذي أوتيه الأوّلون : وقل للذين أوتوا الكتاب والأمِّيين أَأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا. والآية الثامنة والسبعون من سورة البقرة تحدّد بأنّ : ومنهم أمِّيون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ . والآية الخامسة والسبعون من سورة آل عمران تتابع، في سياق آخر، المعارضة نفسها بين أهل الكتاب والأمِّيين الذين لا كتاب لهم فتقول : ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدِّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدين لا يؤدِّه إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك أنهم قالوا ليس علينا في الأمِّيين سبيل(1). أما الآية الثانية من سورة الجمعة فصريحة مطلق الصراحة في أن الله «هو الذي بعث في الأمِّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة». ومن هنا أصلاً توصيف القرآن في آيتين متتاليتين من سورة الأعراف، 157 و158، للرسول محمد بأنه «النبي الأمِّي»، أي ذاك الذي بعثه الله «في الأمِّيين» وإلى الأمِّيين.
ولم يخفَ مدلول لفظة «الأمِّيين» هذا على بعض من متقدمي فقهاء العربية. فقد قال الفراء: «الأمِّيون العرب الذين لم يكن لهم كتاب»(2). كما لم يخفَ أيضاً على بعض أهل التفسير، ومنهم القرطبي الذي روى على لسان ابن عباس: «الأمِّيون: العرب كلهم، مَن كتبَ منهم ومَن لم يكتبْ»(3). وقد تنبَّه دارس رائد لتاريخ العرب قبل الإسلام إلى هذا المعنى «العربي» للأمِّيين، ونوَّه بما ذهب إليه بعض المستشرقين – من دون أن يسمّيهم – من أن اللفظة العربية مشتقة من «أُمَّتْ» أو «أُمَّيم» العبرية، أو ربما من «غوييم»، وهو النعت الذي يطلقه المأثور اليهودي على سائر أبناء الأمم الذين لم يؤتوا – بعكس بني إسرائيل- الكتاب، أي الوثنيين(4).
والواقع أن دعوى «الأممية»، بمعنى «العالمية» ، لن تغلب على اللاهوت الإسلامي، سواء أفي كتب التفسير أم في كتب الفقه أم على الأخص في كتب الحديث، إلا في سياق التحوّل التاريخي والجغرافي الكبير من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات. وهي دعوى ينقضها نقضاً صريحاً أيضاً المعجم القرآني. ففي أربع آيات من أربع سور يؤكد القرآن أن : ولو شاء ربكم لجعلكم أمة واحدة (المائدة: 48)، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة (هود: 118)، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة (النحل: 93)، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة (الشورى: 7). وبحكم هذا التشتت الأممي غدت القاعدة أن: ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط وهم لا يُظلمون (يونس: 47).
وإنما من هذا المنطلق، الذي قضت المشيئة الإلهية بموجبه ألا يكون البشر أمة واحدة، وأن يكون بالتالي لكل «أمة رسولها» (المؤمنون: 44)، جاء دور «الأمِّيين» ليبعث الله «فيهم» و«منهم» رسولاً يؤسّسهم بدورهم، ولو بعد طول تأخير، أمّة كتابية: كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك (الرعد: 30). ومن هذا المنطلق عينه، الذي يفترض بمقتضاه أن يكون لكلّ «أمة رسولها»، وبالتالي «كتابها» (الجاثية: 45)، تكتسب عروبة القرآن كامل دلالتها. فالله، مرسل الرسل، هو نفسه من يسنُّ اللغة قاعدة مطلقة لتوصيل الرسالة: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (إبراهيم: 4). وبما أن تلك الأمَّة «الأمِّية»، التي شاءت لها المشيئة الإلهية أن يتأخر دورها إلى آخر الأمم في تلقي الرسالة، تنطق، دون سائر الأمم، بالعربية فقل كان محتماً أن يكون الرسول المرسَل إليها ليبشرها ولينذرها في آن معاً ناطقاً «بلسان عربي مبين» (الشعراء: 195)(5). ولئن يسَّر الله كتابه إلى الأمَّة الأمِّية باللسان الذي يسَّره بها(6)، فلأن هذه الأمة هي حصراً تلك التي تتموضع جغرافياً في «أم القرى ومَن حولها»، وذلك طبقاً لمنطوق الآيتين التاليتين: وهذا كتاب أنزلناه مباركٌ مصدّقٌ الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومَنْ حولها (الأنعام: 92)، وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها (الشورى: 7)(7).
وإنما من منظور هذا المطابقة الحصرية بين «الأمِّية» و«العروبة» رفض عمر بن الخطاب، في رواية مروية عنه، أن يعترف بكتابية نصارى العرب، بقوله: «ما نصارى العرب بأهل كتاب»(8). فما داموا عرباً فمعنى ذلك أنهم بالضرورة أمِّيون، أي لا كتاب لهم. ومن هنا قراره، طبقاً للرواية نفسها، بعدم جواز أخذ الجزية منهم لأنها لا تؤخذ إلا من أهل كتاب، ومن ثم تخييرهم بين الإسلام، بوصفه دين الأمِّيين العرب، وبين السيف(9).
ونحن نحوز من داخل النص القرآني على قرينة إضافية تعزز فرضيتنا عن الحصر اللغوي للرسالة باللسان العربي، وعن حصرها الجغرافي بـ «أم القرى ومن حولها» من الناطقين بذلك اللسان. فسورة الروم، التي تنفرد عن غيرها من سور القرآن بالإشارة إلى حدث «جيوبوليتيكي» معاصر زمنياً للرسالة ومفارق لها مكانياً، تُفتتح بالآيات الست التالية:
ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبِهم سيغلِبون في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
في بيان سبب نزول هذا الآيات الست يقول الطبري نقلاً عن عكرمة: «إن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض، وقالوا: وأدنى الأرض يومئذ أذْرِعات(10)، بها التقوا، فهُزمت الروم، فبلغ ذلك النبي (ص) وأصحابه وهم بمكة، فشقَّ ذلك عليهم، وكان النبي (ص) يكره أن يَظهَر الأمِّيون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، ففرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي (ص) فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أمِّيون(11)، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنَّ عليكم. فأنزل: غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: «أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا ولا يقرَّنَّ الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبيُّنا (ص)»(12).
إن هذا النص، الذي يتكرر شبيهه في بضع روايات أخرى، لا يدع مجالاً للشك في أن حدود الرسالة الكتابية الجديدة كانت تقف – إلى حينه على الأقل – حيث تبدأ حدود الرسالة الكتابية القديمة، وهي بالمناسبة ليست محض حدود دينية، بل هي أيضاً حدود لغوية باعتبار أن أهل الشام وما بعدها ما كانوا ينطقون بالعربية(13). ثم إن النص يعمِّد الروم إخواناً، وهم أنفسهم الذين سيتحولون إلى أعداء مع التحول من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات. والمفارقة لا تقف عند هذا الحد: فالروم، الذين تتنبأ لهم بداية السورة التي تحمل اسمهم بأن الغلبة ستكون لهم من جديد «في بضع سنين»، لن يتأخر الأمر بهم حتى يُغلبوا مرة أخرى، ولكن ليس على يد أعدائهم من بني فارس، بل على يد «إخوانهم» من بني عدنان بعد نجاز تحول هؤلاء الأخيرين من «أمِّيين» إلى «كتابيين»(14).
والواقع أن هذا التحول من حرب الأمِّيين، أي مشركي العرب، إلى حرب الكتابيين الروم هو ما يمكن أن يفسر أو -على الأقل- يسهم في تفسير ثاني أكبر أزمة ثقة عصفت بالإسلام الفتيّ بعد صلح الحديبية، وهي تلك التي تمثلت بالإضراب عن المشاركة في غزوة تبوك التي كانت فاتحة الحملات على أرض الروم. فعدا الفشل الذي انتهت به هذه الغزوة فقد احتلت مكانها في الحوليات الإسلامية باسم غزوة العسرة وتميزت، أكثر ما تميزت، بتخلف المتخلفين، أو المثَّاقلين والقاعدين حسب التعبير القرآني. ويكاد يكون البيان التقريعي، الذي يشغل ثلاثة أرباع آيات سورة التوبة المئة والتسع والعشرين، ضد أولئك «الخوالف»، أي المستنكفين من الصحابيين عن المشاركة في غزوة تبوك، هو الأعنف في نوعه في كل سور القرآن؛ ومما يزيده عنفاً ارتباطه، في سورة التوبة دوماً، بالأمر بقتل المشركين حيثما وُجدوا(15). ولا شك أن كتب التفسير تقدم تأويلات شتى، وساذجة في الغالب، لذلك الاستنكاف، باستثناء روايات نادرة ومكتومة في الغالب أيضاً، تربطه – أي الاستنكاف – بالتحول من حرب المشركين الباقين على أمِّيتهم إلى حرب الإخوان في الكتابية الذين كانهم الروم حتى الأمس القريب. وبديهي أن هذا التحول، أو بالأحرى هذا المنقلب الذي سيميِّز تمييزاً حاداً إسلام الفتوحات عن إسلام الرسالة، كان لا بد أن يبحث لنفسه عن مرتكزات إيديولوجية تعهَّد بتقديمها المؤوِّلون اللاحقون لآي القرآن، وعلى الأخص مسنِّنو السنَّة.
والواقع أننا لن نكون إلا مغالين إذا ما تحدثنا في هذا الصدد عن آي القرآن بصيغة الجمع. فجميع المؤوِّلين الذين أرادوا تحويل النبي «الأمِّي» إلى نبي «أممي»، أي نبي أمم الأرض كافة، وليس فقط نبي الأمِّيين العرب المرسل بلسانهم منهم وإليهم، ما استطاعوا أن يفوزوا في جميع آي القرآن الستة آلاف ونيف(16) إلا بآية واحدة هي الآية الثامنة والعشرون من سورة سبأ: وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ففي تأويلها يقول الطبري: يقول تعالى ذكره: وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصةً، ولكنَّا أرسلناك كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيراً مَنْ أطاعك ونذيراً من كذَّبك. «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» أن الله أرسلك كذلك إلى جميع البشر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذِكْر من قال ذلك: قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: «وما أرسلناك إلا كافة للناس» قال: أرسل الله محمداً إلى العرب والعجم، فأكرمهم على الله أطوعهم له»(17).
أما قتادة [= ابن دعامة السدوسي] هذا فليس من أهل التأويل، بل هو حصراً من أهل الحديث، وهو متهم أصلاً من قبل أهل الحديث بالتدليس في الحديث. وأما الطبري الذي ماشاه في تأويله هذا فقد أخلَّ بقاعدة أساسية من قواعد التأويل، وهي ألا يأتي تأويل آية بعينها، ولا سيما إذا كانت مفردة، مخالفاً لمضمون آيات أخرى، وعديدة، تعارضه. وأول بنود هذه القاعدة كما رأينا أن لكل «أمة رسولها». وثانيها أنه لا يُرْسَل «من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم». وثالثها أن الرسول ما أوحي إليه القرآن إلا «عربياً» لينذر «أم القرى ومن حولها». ورابعها أن العلاقة حصرية بين عروبة القرآن وعروبة الأمة أو القوم الذين أنزل برسمهم: «كتاب فُصِّلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون» (فصلت: 3)، و«إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون» (يوسف: 2)، وكذلك: «إنَّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون» (الزخرف: 3).
وغنيّ عن البيان أن الرابطة بين الخطاب – والقرآن كان خطاباً قبل أن يصير نصاً مُمَصْحَفاً – وبين المخاطَب هي بالضرورة المطلقة رابطة لغوية. فليس لمرسل الخطاب أن يطالب متلقي الخطاب بـ «العقل» عنه ما لم يخاطبه باللغة التي يستطيع أن يعقل بها(18). وهذه الرابطة اللغوية الحصرية تجد صياغتها الإبستمولوجية في القرآن نفسه وإن في سياق مختلف: ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياته أأعجمي وعربي» (فصلت: 44).
ثم إنّ الطبري، بتأويله كلمة الناس، بأنها تعني «الناس أجمعين، العرب منهم والعجم»، يخالف المعنى المعجمي لهذه الكلمة، كما يخالف معناها السياقي. فهذه الكلمة، التي ترد في القرآن 240 مرة، لا تعني البشرية قاطبة في زمن لم يكن فيه هذا المفهوم قد وجد بعد(19). والقرآن نفسه يستعمل كلمة «الناس» في العشرات من الآيات بمعنى «بعض الناس» كما في قوله: وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر (الحج: 27)، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً (النصر: 2)، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس (البقرة: 199)، ولا تصعّر خدك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحاً (لقمان: 18). ثم إن القرآن، إذا أراد نقل المعنى من التبعيض إلى الكثرة، استعمل تعبير «الناس جميعاً» (الرعد: 31) أو «الناس أجمعين» (آل عمران: 87). وغالباً ما يتطابق معنى «الناس» مع معنى «القوم» و«الأمة»: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة (الزخرف: 33). وإنما من منطلق هذا الترادف بين «الناس» و«الأمة»، المتحدِّدة في الغالب بلسانها وبلسان النبي المبعوث إليها، تتحدث بعض آيات القرآن عن «الناس» بصفتهم «الأمة» التي بعث إليها نبيَّها أو رسولها(20). وهكذا فإن لإبراهيم «ناسه»: وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات فأتمَّهنَّ قال إني جاعلك للناس إماماً (البقرة: 124)، ولموسى «ناسه»: قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي (الأعراف: 144)، ولزكريا «ناسه»: قال: ربِّ اجعل لي آية، قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً (مريم: 10)، ولعيسى «ناسه»: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلِّم الناس في المهد وكهلاً (المائدة: 110)، ولمحمد بطبيعة الحال ناسه: أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشَّر الذين آمنوا أن لهم قدم صِدْق عند ربهم (يونس: 2)(21).
والأوضح دلالة بعد أن الطبري بالتأويل الذي ذهب إليه يخالف قواعد العربية بالذات. فالآية الثامنة والعشرون من سورة سبأ لا تقول: «وما أرسلناك إلى الناس كافة»، بل تقدِّم هذه الكلمة الأخيرة إلى ما قبل «الناس» لتقول: وما أرسلناك إلا كافةً للناس . والفارق بين القولين كبير في الإعراب كما في المعنى. فـ «كافة» ليست عائدة في الآية إلى «الناس»، بل إلى كاف الخطاب في «أرسلناك». وقد اختلف النحاة في المصدر الذي اشتقت منه. فذهب الزجاج إلى أنها من كفّ بمعنى جمع. وفي هذه الحال يكون معنى الآية: « وما أرسلناك إلا جامعاً للناس بالإنذار والإبلاغ ،والكافة بمعنى الجامع». وذهب غيره إلى أنها مشتقة من «كفَّ» بمعنى نهى عن، فيكون «معناه كافَّاً للناس، تكفُّهم عما هم فيه من الكفر وتدعوهم إلى الإسلام، والتاء للمبالغة»(22).
وبالمقابل، ذهب الزمخشري إلى أن «كافة» هي نعت للمصدر المحذوف من فعل «أرسلناك»، أي إرسالة، ويكون المعنى بالتالي: «إلا كافةً للناس»: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا شملتهم فقد كفَّتهم أن يخرج منها أحد منهم»(23).
وقد جمع الإمام الفخر الرازي بين كلا التأويلين فقال: «وما أرسلناك إلا كافة: فيه وجهان أحدهما: كافة أي إرسالة كافة، أي عامة لجميع الناس، تمنعهم من الخروج عن الانقياد لها، والثاني: كافة أي أرسلناك كافة تكفُّ أنت من الكفر، والتاء للمبالغة على هذا الوجه»(24).
والواقع أنه في كتب الحديث وليس في القرآن، تمَّ تحويل النبي الأمِّي المرسل إلى قومه إلى نبي أممي مرسل إلى الأمم قاطبة. ففي رواية على لسان هُشيم بن بشير أن النبي محمد قال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس عامة»(25). ويستعيد صاحب ثاني الصحيحين الرواية نفسها عن الراوي نفسه ولكن مع تبديل في اللفظ الدال على البعد الأممي للرسالة: «كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود»(26).
والحال أنه، بصرف النظر عن هذا التغيير اللافت للنظر في اللفظ عن الرسول، يؤكد المأثور ” الرجالي ” المجمع عليه أن هشيماً، الذي انفرد برواية تينك الروايتين، لا يتمتع بسمعة حسنة لدى أهل صنعة الحديث. فهذا المولى لبني سليم كانت (27)آفته الكبرى في الحديث التدليس، إذ كان في الروايات التي يرويها مرفوعة إلى الرسول يبدِّل في أسماء سلسلة الإسناد فيضع بدل المجهولين أسماء أعلام مشهورين، وبدل المجروحين أسماء أعلام معدّلين. وقد كان من السباقين إلى اتهامه بالتدليس ابنُ سعد في طبقاته: «كان ثقة كثير الحديث يدلس كثيراً». وقال عنه أحمد بن حنبل: «هشيم ثقة إذا لم يدلس». وهذا ما ردده العجلي أيضاً: «هشيم ثقة ولكن يدلس». وزاد ابن السمعاني: «هشيم كثير التدليس». وأضاف ابن حجر: «ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي». وقال المقدسي: «هشيم متفق على توثيقه إلا أنه كان مشهوراً بالتدليس». بل إن هشيماً أقرَّ بأن «التدليس أشهى شيء إليه». كما حاول تبرير تدليسه بكون غيره من مشاهير المحدثين يدلسون. فقد قال ابن المبارك: «قلت لهشيم: لمَ تدلس وأنت كثير الحديث؟ فقال: كبيران قد دلسا: الأعمش وسفيان». ولاشتهار أمره بالتدليس وضعه زين الدين العراقي في ألفيته في رأس قائمة المدلسين في رجال الصحيحين فقال: «وفي الصحيح عدة كالأعمش وهشيم بعده وفتِّش»(28).
وهكذا، إن حديثاً لم يكن متداولاً ولا معروفاً، ولا حتى ذا وجود، وما رواه أحد قبل أن يرويه راويه المنفرد والمشهور بالتدليس في النصف الثاني من القرن الثاني (بالنظر إلى أن هشيم بن بشير توفي سنة 183هـ)، أمكن له أن «ينسخ»، أي أن يبطل حكم نحو من عشرين آية قرآنية تنص متضافرة على أن لكل أمة رسولها، وعلى أن كل رسول لا يُبعث إلا إلى قومه، وعلى أن الرسالة القرآنية التي بُعث بها الرسول محمد مشروطة لغوياً بعروبة حاملها وبعروبة الأمة المحمولة إليها، وجغرافياً بـ «أم القرى ومن حولها» من دون أن يكون أصلاً لهذه الرقعة من الأرض من حدّ آخر سوى عروبة لسان قاطنيها.
ولكن لئن حاز مثل هذا الانعكاس في إبرة البوصلة الإيديولوجية – والدين هو إيديولوجيا تلك الأزمنة – قبولاً شبه إجماعي، فليس مردُّ ذلك كما قد يتوهم متوهِّم إلى سذاجة الناس وسرعة تصديقهم في تلك الأزمنة عينها. فالإيديولوجيا، بما فيها الإيديولوجيا الدينية، لها على الدوام وظيفتان: واحدة ريادية تستبق الأحداث لتغيِّر الواقع وفق هوى حاملي لوائها، وأخرى ارتجاعية ترتدُّ بها نحو الواقع لتبرر أو لتكرِّس ما قد يكون تغيَّر منه وفق هوى التاريخ، أو بالأحرى وفق هوى مكر التاريخ على حد التعبير الهيغلي.
والحق أننا لا نكون قد أسقطنا على ما حدث في الإسلام تعبيراً من خارجه إذا تحدثنا بصدده، ومع تحوله من الرسالة إلى الفتوحات، عن مكر التاريخ. فالإسلام الذي خرج في طور أول إلى الفتوحات حاملاً الرسالة القرآنية ارتدَّ بعد الفتوحات، وفي طوره الثاني، نحو نفسه محمَّلاً بما سيتم تكريسه تحت اسم السنَّة النبوية. ففي الصدر الأول، وقبل أن تستقر الفتوحات بعض الاستقرار، لم يكن للإسلام من أهل آخرين سوى أهل القرآن. ولكن بعد أن آتت الفتوحات أكلها ظهر أهل السنَّة وانتزعوا الغلبة تدريجياً لأنفسهم ولمصطلحهم، حتى لم يعد تعبير أهل القرآن دارجاً في الاستعمال، ولا سيما بعد تكريس الهزيمة النهائية للمعتزلة، الممثلين الأخيرين لأهل القرآن، في القرن الخامس فصاعداً(29).
وبديهي أننا لا ننكر ما كان لشعوب البلدان المفتوحة من دور متألق في تطوير علوم القرآن وشروحه بدءاً بكبير المفسرين الذي كانه الطبري. ولكن لا ينبغي بالمقابل أن يغيب عنا أنهم ما فعلوا ذلك في غالب من الأحيان إلا بمرجعية سنِّية، وتحت شعار لا يزال معمولاً به إلى اليوم: السنَّة هي القاضية على القرآن، وليس القرآن هو القاضي على السنَّة(30).
من هذا المنظور حصراً ليس جزافاً أن نكون توقعنا عند توصيف ابن سعد في طبقاته لهشيم بن بشير بأنه كان «مولى لبني سليم». فالغالبية الساحقة من رواة السنَّة ومن مدوِّني السنَّة كانوا من الموالي، أي من أعاجم البلدان المفتوحة، بدءاً بمصنفي الصحيحين: البخاري ومسلم بن الحجاج. وليس هنا المتسع للدخول في تفصيل ذلك، إنما حسبنا أن نسوق الرواية الطويلة التالية:
«حدثني الوليد بن محمد الموقري قال: سمعت محمد بن مسلم بن شهاب الزُهْري يقول: قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال لي: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة، قال: فمن خلَّفت فيها يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فَمِن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: وبمَ سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية، قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: وبمَ سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: إنه لينبغي، فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل، قال: فمن يسود الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهوان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان، قلت: الضحاك بن مزاحم, قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: ويلك، فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري، فرَّجت عني، والله لتسودنَّ الموالي على العرب حتى يُخطب بها على المنابر والعرب تحتها، قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، من حفظه ساد، ومن ضيَّعه سقط(31).
وبديهي أننا لا نسوق هذه الحكاية حملاً منا إياها على محمل التصديق التام. فيد الصناعة فيها، وفي غيرها من شبيهاتها، ظاهرة. ولكنها إن لم تكن صادقة في الواقعة التي ترويها، فهي صادقة في الواقع الذي تحيل إليه. ذلك أنه ما كان لنار النزعة الإثنية(32) الفارسية أن تخمد تحت رماد الإسلام. فالإسلام الذي حُمل إلى أعاجم البلدان المفتوحة، وفي مقدمتهم الفرس، كان إسلامَ قرآنٍ لا يد لهم فيه، وما أُنْزل أصلاً برسمهم. وبالمقابل، إن الإسلام الذي أعادوا تصديره إلى فاتحهم كان إسلامَ سنَّةٍ كانت لهم اليد الطولى في إنتاجه، وهو الإنتاج الذي استطاعوا أن يؤسسوا أنفسهم من خلال إتقان صناعته- كما سيتضح لنا في الفصول التالية- في طبقة متفقّهة عاتية النفوذ حَبَتْ نفسها ، عن طريق التطوير المتضافر للمدونة الحديثية وللمدونة الفقهية ، وبالتالي للمؤسسة الإفتائية ، بسلطة تشريعية لم يقرّ بها القرآن للرسول نفسه. وعلى هذا النحو تكون تكون قد نصّبت نفسها وسيطة بين الله وبين المؤمنين في كل ما جلّ ودقّ من شؤون حياتهم الدينية والدنيوية معاً ، مع أن أهم ما ميّز الإسلام القرآني عن غيره من الديانات المؤسسة لنفسها في بنىً كهنوتية وتراتبيات كنسية هو إلغاؤه لهذه الوساطة وتأسيسه للعلاقة بين الله والمؤمن في تواصلية مباشرة ليس فيها بين الله كمخاطِب والمؤمن كمخاطَب سوى وسيط واحد هو الرسول بوصفه ، حصرا ، مبلِّغ الخطاب من مرسِله الإلهي إلى متلقِّيه البشري.
وبديهي أيضاً أننا إذ نقول هذا القول لا ننكر كل مساهمة على اليد العربية. فالحجازيون، ولا سيما منهم أهل المدينة، ممثلين بمن عمَّر منهم أو بمن أورثوه ذاكرتهم التاريخية من أبنائهم وأحفادهم، وبمن فيهم أيضاً أولئك الذين تفرقوا في الآفاق، وفي مقدمتهم الأوس والخزرج الذين قدمت الفتوحاتُ للمسلمين بزمام السلطة من المهاجرين الفرصةَ لتشتيتهم في الأمصار تحت لواء الجهاد، هؤلاء الحجازيون العرب كانوا موضوع طلب شديد من قبل الرحَّالة في طلب «العلم» من أبناء البلدان المفتوحة. وقد أسهموا، بما رووه أو بما رُوي أنهم رووه، بدور لا مماراة فيه في بناء عمارة السنَّة، وهي، كما سيتقدم البيان، عمارة متعددة الطوابق، كل طابق منها يعلو الذي تحته ويفوقه من حيث المساحة – أي من حيث عدد الأحاديث – ضعفاً وضعفين وثلاثة أو حتى أربعة أضعاف، وفقاً لمبدأ التراكم، أي هنا البناء فوق البناء(33).
وبديهي أيضاً، وأخيراً، أن سيرورة تأسيس السنَّة هذه، التي تطاولت في الزمن على مدى قرون ثلاثة على الأقل، لا تقبل انفصالاً عن سيرورة نشوء الفقه وتطوره فروعاً في بادئ الأمر، ثم أصولاً. فالفقه ناب في الحضارة الإسلامية كما هو معلوم مناب القانون في الحضارة الرومانية. وفي إمبراطورية مترامية الأطراف ومتعددة الأقوام والإثنيات، كإمبراطورية الفتوحات العربية الإسلامية، ما كان للذخيرة المحدودة العدد للغاية من الأحكام القرآنية أن تفي بكل متطلبات التشريع القانوني في مواجهة المستجدات من النوازل. ومن هنا كان من المحتم أن تتراكم، بل أن تتضخم المدونة الحديثة، وأن تُخلع على السنَّة أهليّة تشريعية تضاهي تلك التي للقرآن، هذا إن لم تقدم عليها تبعاً لصيغة الشاطبي الآنف بيانها والتي لم تكن من ابتكاره – وهو الشديد التأخر في الزمن – بقدر ما كانت تعبيراً عن تحصيل حاصل يمكن استقراؤه، كما سيأتي البيان، من اجتهادات أئمة المذاهب الفقهية الخمسة(34).
والحال أيضاً أن الموالي ، أي الأرقاء المعتوقين من الأعاجم وأحفادهم ، كانوا هم أيضاً وراء تطوير صناعة الفقه مثلما كانوا وراء تطوير صناعة الحديث.فاثنان من مؤسسي المذاهب الأربعة كانا في الأصل من الموالي ، وهما أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس(35) .كما أن هناك روايات تشير إلى أن إمام المذهب الخامس، أي ابن حزم ، كان من أصل فارسي .
وعلى أي حال ،إ ن الشهادة التي تركها لنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 ه) ،حفيد مولى عمر بن الخطاب ، ناطقة بما فيه الكفاية : “لما مات العبادلة ، عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر ، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه مكة عطاء بن أبي رباح ،وفقيه اليمن طاووس ، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير ، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم (= النخعي) ، وفقيه أهل الشام مكحول ،وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني ، إلا المدينة ، فإن الله خصّها بقرشي ، فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع ” (36).
ومن الممكن القول على سبيل الختام إن تسييد السنَّة قد تلاقت فيه مصالح الأوتوقراطية العربية الفاتحة ومصالح النخب والشرائح المثقفة من شعوب البلدان المفتوحة. فالأوتوقراطية ترقى إلى أعلى نصاب لها من المشروعية متى كانت في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه، ثيوقراطية. وهذه الحاكمية الإلهية تجد تتمتها الطبيعية في المحكومية الإلهية. فبالإحالة إلى مصدر إلهي للتشريع تنتفي الحدود، أو تكاد ، بين النخب الحاكمة والنخب المحكومة لتتحول العلاقة بين الطرفين إلى شراكة، إن لم يكن بالاسم فعلى صعيد الأمر الواقع(37). ومن هنا فرض نفسه تطويرُ سنَّة نبوية إلهية المصدر لا يكون فيها «فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى». فليس أرضى لكبرياء المحكومين – إن كان لا يزال لاسم المفعول هذا من معنى – من أن يكونوا محكومين بتشريع إلهي المصدر، ولا سيما إذا كانوا هم الشركاء الرئيسيين في تشريع هذا التشريع. وعلى هذا النحو فحسب نستطيع أن نفهم تلاقي المصالح بين نخب الفاتحين ونخب البلدان المفتوحة في تأميم الرسول العربي. فباستثناء الأقليات الدينية التي لم تتخلَّ عن دينها نظير سريان سوريا والعراق وأقباط مصر، فإن العلاقات داخل الإمبراطورية العربية الإسلامية لم تعد علاقات بين محتلٍّ ومحتلٍّ، كما الشأن في الإمبراطورية الرومانية مثلاً(38). فالإمبراطورية العربية الإسلامية ما عادت تحتاج إلى القوة العسكرية لتستمر في الوجود، بل صارت تتولد ذاتياً إن جاز التعبير إلى حدّ أن الاجتياح المغولي نفسه، على قوته التدميرية الهائلة، انتهى إلى الاندماج بها بدلاً من استئصالها. وذلك هو الفارق الكبير في المصير التاريخي بينها وبين الإمبراطورية الرومانية ذات التشريع الوضعي التي تلاشت من الوجود مع تلاشي قوتها العسكرية واجتياحها من قبل فرع آخر من فروع المغول: قبائل الهون.
ولكن ما ربحه الوجود العربي الإسلامي على صعيد الاستمرارية التاريخية – رغم الفاصل الطويل الذي مثلته الخلافة العثمانية – خسره على صعيد الانقطاعية الحضارية. فلئن يكون التشريع الإسلامي، الذي عزا إلى نفسه من خلال السنَّة المنسوبة إلى النبي مصدراً إلهياً قد صان ذلك الوجود وحفظه، فإنه بالمقابل قد شلّه عن التطور بقدر ما جمّده في وضعية ثابتة ومكرِّرة لنفسها وعابرة لشروط الزمان والمكان. فتشريع كهذا ما كان له إلا أن يكون حاكماً على التاريخ بدلاً من أن يكون – كما في مثال التشريع الوضعي – محكوماً به . والخروج من حكم التاريخ هو بمثابة خروج من التاريخ نفسه. وربما تكون تلك هي كبرى مفارقات إسلام التاريخ: نسبته نفسه على منوال إسلام الرسالة، إلى مصدر إلهي قد قضى عليه أن يكون إسلاماً لاتاريخياً. وهذه اللاتاريخية كانت ولا تزال هي النسخ المغذي للممانعة العربية، على صعيد العقليات والبنى الاجتماعية على الأقل، لآمر الحداثة
ملاحظة : النصّ هو الفصل الثاني من كتاب تحت الطبع بعنوان “الانقلاب السنّيّ : من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”، وقد خصّنا به أستاذنا جورج طرابيشي بطلب منّا..
الهوامش:
1- أي أن الأمِّيين الذين لم يؤتوا الكتاب لا سبيل لهم إلى إلزام من أوتوا الكتاب.
2- أورده الراغب الأصبهاني في مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق مصطفى عدنان داوودي، دار القلم، دمشق 1412هـ، ج1، ص37.
3- القرطبي، تفسير القرآن، تحقيق هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض 2003، ج18، ص91.
4- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جامعة بغداد، الطبعة الثانية 1993، ج3، ص993–1003. والجدير بالذكر أن المأثور المسيحي المكتوب باللاتينية اقتبس المفهوم نفسه عن المأثور العبري وأطلق على الوثنيين، أي على من ليس لهم كتاب مقدس، اسم «الأمم» Les gentils.
5- بل إن عروبة القرآن وعروبة لسان المكلف بتبليغه هي الدليل على إلهية مصدره بمقتضى منطوق الآية 103 من سورة النحل: لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين . ومعلوم بمقتضى الآية نفسها، أن عروبة الرسالة والرسول هذه موظفة كحجة مضادة لقول من «يقولون إنما يعلِّمه بشر».
6- نقتبس التعبير هنا من القرآن نفسه: فإنما يسَّرناه بلسانك لعلَّهم يتذكرون (الدخان: 58)، وكذلك: فإنما يسَّرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُدَّاً (مريم: 97).
7- علماً بأن الآية التالية مباشرة هي واحدة من جملة الآيات التي نصت على أن: ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة .
8- أوردها الشافعي في الأم، دار الفكر، الطبعة الثانية، بيروت 1983، ج4، ص193.
9- في تتمة الخبر الذي رواه الشافعي على لسان عمر أنه قال : «ما أنا بتاركهم حتى يسلموا أو أضرب أعناقهم» . والحال أن عمر لم يجبرهم على الإسلام ولا قاتلهم ، وإنما أمر بتهجيرهم. بل أكثر من ذلك: فقد قدّم لهم ، أو على الأقل لفرع كبير منهم متمثلاً ببني تغلب، تنازلاً كبيراً: إذ ارتضى، صوناً لعزّة أنفسهم كعرب، أن يأخذ منهم، لا الجزية «عن يد وهم صاغرون» ، بل الخراج مضاعفاً . وأياً ما يكن من أمر فإننا نشك شكاً كبيراً في صحّة ذلك القول الذي نسبه الشافعي إلى عمر: فلو لم يكن نصارى العرب بأهل كتاب ، فما معنى أن تنزل أكثر من عشرين آية قرآنية في مخاطبتهم -هم واليهود- على وجه التحديد من حيث أنهم حصراً «أهل الكتاب» ؟
10- أذرعات: من قرى حوران بالشام.
11- لنلاحظ هنا أيضاً أن «الأمِّيين» تقابل «أهل الكتاب» على سبيل العلاقة الطباقية، أي الضد في مقابل ضده.
12- الطبري، جامع البيان، مصدر آنف الذكر، ج20، ص69.
13- باستثناء ذلك الحاجز اللغوي الذي كان يمثله الغساسنة النصارى الذين كانوا يتولون مهمة حراسة الحدود عند تخوم بادية الشام.
14- الواقع أن هذا التحول لم يكن إلى حينه تاماً لأن المصادر التاريخية، ومنها تاريخ الطبري نفسه، تشير إلى أن عمر بن الخطاب أذِنَ حتى لبعض «أهل الردة» بأن يشاركوا في فتوحات بلاد الشام.
15- مما جاء في الخوالف في سورة التوبة التي تعرف أيضاً بسورة براءة – وهي السورة الوحيدة من سور القرآن التي لا تفتتح بعبارة «بسم الله الرحمن الرحيم»: يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون… يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف… كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحرّ، قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون . وقد كان في عداد «الخوالف» بعض كبار الصحابة، وفي مقدمتهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية وعبد الله بن أبيّ بن سلول. وقد كاد يكون في عدادهم أيضاً أبو ذر الغفاري. وستكون لنا عودة إلى سورة التوبة في معرض حديثنا عن دعوى التعديل الإلهي للصحابة.
16- طبقاً لإحصاء السيوطي نقلاً عن الداني: «أجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية، ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك، فمنهم من لم يزد، ومنهم من قال: مائتا آية وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة، وقيل: وتسع عشرة، وقيل: خمس وعشرون، وقيل، وست وثلاثون» (الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص67).
17- الطبري، جامع البيان، ج20، ص405.
18- معلوم أن المسيحية كانت واجهت الإشكال نفسه، ولكنها وجدت حلاً له عن طريق «المعجزة»: فقبل أن ينطلق الرسل لتبشير الأمم بالإنجيل حلَّ عليهم روح القدس فصار كل واحد ينطق بلغة الأمة المبعوث إليها.
19- وهو لن يوجد إلا مع إطلالة الحداثة واكتشاف تمامية الأرض مع اكتشاف القارتين الأميركية والأوقيانوسية.
20- جاء في لسان العرب: «كل قوم نسبوا إلى نبي فأضيفوا إليه فهم أمته».
21- سوَّدنا كلمة منهم للتوكيد على المعنى «القومي» لكلمة الناس التي لو كان المقصود بها البشرية جمعاء لما كان قال «منهم».
22- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق هاشم سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض 2003، ج14، ص300.
23- الزمخشري، الكشَّاف عن حقائق غوامض التأويل، دار الكتاب العربي، بيروت 1407هـ، ج3، ص583.
24- فخر الرازي، التفسير الكبير (المعروف بمفاتيح الغيب)، المطبعة البهية المصرية، ج25، ص258.
25- البخاري، الجامع المسند الصحيح، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الرياض 1422هـ، ج1، ص74.
26- مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، مصدر آنف الذكر، ج1، ص370. ولنلاحظ أن تعبير «إلى كل أحمر وأسود» لا يخلو من غموض، ولم تكن له على كل حال الدلالة الكوسموبوليتية التي قد يتوهمها القارئ المعاصر. والدليل أن ابن عباس فسَّرها بأن الرسول بُعث «إلى الإنس والجن». أضف إلى ذلك أن حديث البعثة إلى ” كل أحمر وأسود” ، ذا المنطوق الأممي المضمر، يدخل في مصادمة عنيفة مع حديث آخر ذي منطوق أمّي صريح رواه ابن سعد وابن حنبل وعبد الرزاق وابن منده والطبراني والدارقطني والنيسابوري وأبو نعيم والبغدادي والبيهقي والهيثمي مرفوعاً إلى عمر بن الخطاب ، ومفاده أن الرسول قال : ” أنتم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين “.
27- إن هذه المشروطية اللغوية والأمّية – أي القومية طبقاً لمعجمنا الحديث – للرسالة هي التي يمكن أن تسلط ضوءاً جديداً على مفهوم قرآني أحاط به غموض كبير وكان – ولا يزال إلى اليوم – موضع خلاف وتضاد بين المفسرين: ألا هو مفهوم “أم الكتاب ” . فالآيات الثلاث الأولى من سورة الزخرف : *حم ، والكتاب المبين ، إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ، وإنه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم * لا يمكن أن تضيء بحق دلالتها إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الجدلية التي يعقدها النص القرآني في العديد من آياته بين وحدة الرسالة وتعدد المرسلين . فلئن يكن كل نبي لا يُبعث إلا إلى قومه وبلسان قومه ، فإن الأنبياء جميعاً ، على اختلاف ألسنتهم وتعدد أقوامهم ، إنما هم مكلفون بتبليغ رسالة واحدة هي تلك المحفوظة في ” أم الكتاب ” . وعليه ، إن كل الكتب المنزلة بلغات الأقوام المبعوث إليهم بالأنبياء المكلفين بتبليغهم إياها ، إنما هي ” ترجمات ” لفحوى “أم الكتاب ” ، أي ذلك الكتاب الأصلي ، الأزلي السرمدي ، المتجوهر بالمعنى لا باللفظ ، والعابر لكل اللغات والقابل للترجمة إلى كل الألسنة قابلية الجوهر اللامتناهي للتجلي في أعراضه الكثيرة المتناهية ، وقابلة اللغة الكونية الأولى المجردة واللامنطوقة إلى الترجمة إلى الألسنة الحسّية المنطوقة والمتعددة بتعدد الأمم التي تنطق بها.
28- تجنباً للإثقال على القارئ لم نفصل في ذكر مصادر هذه الأقوال، وقد أحصاها كلها – وسواها – إسماعيل سعيد رضوان في أطروحته للدكتوراه: «هشيم بن بشير، تدليسه ومروياته في صحيح البخاري»، المنشورة في مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد 14، العدد 2، حزيران 2006. وهذا مع العلم بأن صاحب هذه الأطروحة حاول التخفيف من درجة تدليس هشيم، فوضعه في الطبقة الثالثة، لا الأولى، من المدلسين.
29- قد نستطيع أن نستثني من هذا الحكم المتصوفة الذين بقوا إلى حد ما قرآنيين، ولكن معزولين في حلقاتهم وزواياهم، وعديمي التأثير على السلطة من فوق وعلى الجمهور من تحت، فضلاً عن استبطانهم السنَّة بمقادير لا يستهان بها كما سنبيِّن ذلك عند كلامنا عن إحياء الغزالي.
30- قد يكون الإمام الأوزاعي، المتوفى سنة 157هـ، هو السبَّاق إلى هذا القول، وليس الإمام الشاطبي المتأخر زمانه إلى القرن الثامن الهجري كما يوحي بذلك محمد أبو زهرة لقارئه. انظر كتابه: أحمد بن حنبل، حياته وعصره، ص195.
31- أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، معرفة علوم الحديث وكمية أجناسه، تحقيق فارس السلوم، دار ابن حزم، بيروت 2003، ص549–550. وفي رواية للقاضي ابن خلاد الرامهرمزي في المحصل الفاصل بين الراوي والواعي أن عبد الملك قال: «ما رأيت كهذا الحي من الفرس، ملكوا من أول الدهر فلم يحتاجوا إلينا، وملكناهم فما استغنينا عنهم ساعة».
32- ولن نقول «الشعوبية» بالنظر إلى ما بات لهذه الكلمة من حمولة هجائية.
33- عندما نتحدث عن دور اليد العربية في تشييد عمارة السنّة “النبوية”، بالتضافر مع اليد الأعجمية المولوية ، ينبغي ألا يغيب عنا أن ذلك الدور ما كان محصوراً بالحجازيين السادة من سكان المدينة ومكة وغيرهما . فلا كل السادة العرب كانوا من الحجازيين ، ولا كل الموالي كانوا من الأعاجم . فإسلام الفتوحات – ومن قبله إسلام الغزوات – تأدى ، بما استتبعه من تضخّم في ظاهرة السبي ، إلى تكوين طبقة لا يستهان بشأنها من الموالي ذوي الأصول العربية ، فضلاً عن الموالي ذوي الأصول الأعجمية . ومثالنا على ذلك الموالي التغالبة والنمريون من نصارى عين التمر . فهذه البلدة ، الواقعة على الفرات الأوسط ، والتي فتحها خالد بن الوليد في السنة الثانية عشرة للهجرة ، كانت تؤوي ، على ما يبدو ، مدرسة لاهوتية للطلبة. فعندما اقتحم ابن الوليد حصنها وجد في كنيستها ” أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل ” ، فأخذهم أسرى وبعث بهم ، مع غيرهم من سبايا عين التمر ، إلى أبي بكر في المدينة . وكان من جملة أولئك المسبيِّين ” أبو عمرة مولى شبّان ” ، و” أبو عبيد مولى المعلى ” ، و” عبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطاب ” ، و” حمران مولى عثمان بن عفان” ، و” أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ” ، و” سيرين مولى أنس بن مالك ” ، و” يسار مولى قيس بن مخرمة ” ، و”نصير مولى بني لخم ” ، إلخ . والحال أنه ، باستثناء هذا الأخير ، صار جميع أبناء هؤلاء السبايا من رواة الحديث . فقد اعتدّوا من التابعين ، ووثّقهم مصنّفو كتب الرجال ، وفي مقدمتهم ابن سعد في طبقاته . وقد اشتهر منهم اثنان كان لهما دور كبير في تطوير الصناعة الحديثية : محمد بن إسحاق ، حفيد يسار – مولى ابن مخرمة القرشي – وكاتب أول سيرة نبوية ، ومحمد بن سيرين ابن مولى أنس بن مالك وأشهر فقهاء المدينة في النصف الثاني من القرن الأول( بالمناصفة مع الحسن البصري الذي كان هو الآخر ابناً لأب نصراني من سبي ميسان) . أما الابن الذي أنجبه نصير ، اللخمي بالولاء ، فقد انصرف بالمقابل عن فن الحديث إلى فن الحرب ، ليشتهر باسم موسى بن نصير فاتح قبرص والمغرب والأندلس (انظر تفاصيل وقعة عين التمر في أحداث السنتين 12 و13 لدى الطبري ، ومن بعده ابن الأثير في الكامل وابن كثير في البداية والنهاية) .
34- هم أربعة طبقاً لما هو شائع، ولكنهم خمسة بإضافة ابن حزم، إمام المذهب الظاهري، بل ستة بإضافة جعفر الصادق إمام المذهب الاثني عشري، وهذا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار المذاهب الأقلوية مثل الزيدية والإسماعيلية والإباضية.
35- من هنا نفهم ما اشتهر به مالك من شقرة في الشعر وزرقة في العينين.
36- ابن قيّم الجوزية ، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ، مكتبة الكليات الأزهرية ، القاهرة 1968 ،ج 1 ،ص 22-23 .ولنلاحظ أن هذا الاستثناء الأخير لم يكن في محله إلا حينياً فحسب . فيوم أدلى عبد الرحمن بن زيد بشهادته ما كان له أن يعلم أن إمامة أهل المدينة ستؤول بدورها إلى الموالي ممثلين بشخص مالك بن أنس .
37- بل حتى على صعيد الاسم بالذات بعد أن آلت مقاليد الخلافة ومقاديرها في طور لاحق من بني قريش إلى بني عثمان، وتحوَّل العرب أنفسهم من حاكمين إلى محكومين.
38- بل إن المفتوحين تحولوا في حالات بعينها هم أنفسهم إلى فاتحين ، كما في مثال بربر الشمال الإفريقي ، وهذا رغم انتفاضاتهم التي تكررت مثنى وثلاث ورباع في أول عهدهم بالإسلام احتجاجاً على إخضاعهم لنظام الجزية دون الخراج أسوة بغيرهم من الشعوب التي اعتنقت الإسلام.
موقع الآوان