صفحات مختارة

المعرفة ودورها في التغيير والإصلاح

عساف العساف
منتدى جمال الأتاسي
تمهيد لابد منه:
لاتهدف هذه الورقة اطلاقا الى تقديم حلول او وصفات سحرية تغني عن عناء البحث والتمحيص في مشاكلنا المزمنة منها والطارئة بقدر ما ترمي الى تسليط بعض الضوء على جوانب ظلت الى وقت قريب مهملة او مؤجلة تحت شعارات مختلفة وحجج تستقي مشروعيتها من واقعنا وظروفنا (غياب الشارع السياسي, مجتمع مدني في اقصى حدوده الدنيا ,قانون الطوارئ , بيروقراطية مستفحلة ومتهالكة, احتكار المعرفة من قبل اجهزة الدولة ومعوقات كثيرة تعرقل اي عمل يستهدف الشأن العام ) هذا الواقع وهذه الظروف هي بالذات من تفرض علينا ان نعيد النظر في مقاربتنا لواقعنا السوري والبحث عن طرق واساليب جديدة لدراسة  مشكلاته ووضعها على طريق الحل .
لماذا المعرفة وعن اي معرفة نتكلم:
غني عن القول ,ان المعرفة الان  باتت تشكل العصب الاساس لكل مناحي الحياة وجوانبها واصبحت حيازة المعرفة سلاحا فعالا يستخدمه حامله في مواجهة ما يعرقل اموره ويعيق تطبيقها وهذا امر لم يغب عن الحكومات والانظمة (خاصة في منطقتنا ) فاحتكرت لنفسها الى حد كبير هذه المعرفة ومصادرها ولذلك قلما نرى مراكز ابحاث او مكاتب احصائية مستقلة   وليس سهلا على اي جهة ان تقوم بانتاج معرفتها الخاصة (مسوحها ودراساتها الاجتماعية والاقتصادية ..الخ)خارج الاطار الرسمي الافيما ندر وعلى مستويات محدودة جدا.
لا شك ان اي معرفة مفيدة ولو ثبت العكس,,ولكن المعرفة التي نقصدها هنا  هي التي تفيدنا في مقاربة شأننا السوري  (شارعه السياسي,اوضاعه الاجتماعية والاقتصادية فيما تشمله من دخل وصحة وتعليم وبيئة وقوانين وحقوق وحريات وكل ما يتعلق بهذا الشأن) ,هذه المعرفة ليست بيانات وارقام واحصاءات فقط  انما وبالاضافة الى ما سبق تحليل وقراءة واستقراء وتنظيم ورقابة ومؤشرات وتقويم وتصحيح  .(المعرفة هي معلومات منظمة قابلة للاستخدام في حل مشكلة معينة او بشكل اخر هي  معلومات مفهومة محللة ومطبقة )اي انها بالمفهوم الحديث ادارة للمعرفة بحيث تستغل هذه المعرفة الى حدودها القصوى وبذلك تكون مردوديتها افضل ما يمكن ..
هل بامكان  المعرفة  ان تخلق شارعا سياسيا ؟
يستدعي هذا السؤال حقيقة مرة وهي افتقادنا لشارع سياسي او حامل اجتماعي لافكارنا فرغم الحراك الذي شهدته سوريا في العقد الماضي والذي تمثل في انتشار المنتديات وانطلاق حركات احياء وتفعيل المجتمع المدني وانتشار ما يسمى بالصحافة المستقلة (بين قوسين) الا ان هذا الحراك سرعان ما تراجع وانحسرلاسباب معروفة للجميع ولم نستطع ترسيخ قاعدة جماهيرية فاعلة خارج النخب السياسية والقلة من المشتغلين بالشأن العام وهذا يعود برايي (الذي يحتمل الخطأ والصواب) لاسباب متعددة اهمها( وايضا باعتقادي الشخصي) ان هذا الحراك استهلك اغلب مجهوداته وطاقاته في العمل السياسي بمعناه الضيق (احزاب ,منتديات,منظمات حقوق انسان ودفاع عن الحريات وهذا مطلوب ومشروع وضروري) بدون ان يلتفت بشكل جدي وفاعل تجاه جوانب اخرى تخص الشأن العام مثل التعليم والصحة والبيئة وحماية المستهلك وحقوق الطفل والمرأة وغيرها وبذلك لم يوفق بجسر الهوة التي تفصل بين هذه النخب وبين جمهورها المفترض.
وهنا اريد ان استدعي امثلة من واقعنا السوري تبين كيف بالامكان الاستفادة من المعرفة ومن الابحاث والاحصاءات لحل مشاكل معينة وتستهدف جمهورا كبيرا ومهما.
من خلال الاحصاءات الوطنية السورية(N H A) التي تهتم بمجال الصحة وتسجل كل ما يتعلق بالصحة من حيث نوعية الخدمة المقدمة (معاينة,عملية جراحية ,حمل وولادة وغيرها) ومن يقدمها (جهة حكومية او قطاع خاص )ومن يدفع التكاليف (الحكومة ,شركة تأمين او المريض نفسه) بينت هذه الاحصاءات وعلى مستوى محافظات القطر ان المواطن في حلب يدفع في حالات الحمل والولادة للقطاع الخاص الطبي ضعفين او ثلاثة اضعاف ما يدفعه باقي السوررين في المحافظات الاخرى وهذا المبلغ يشكل بين 20 – 25% من دخله وهذه مشكلة ترهق كاهل الاسرة اقتصاديا وتشكل عبئا ثقيلا عليها وتحتاج دراسة معمقة لمعرفة السبب الذي يدعو الناس في حلب للذهاب للقطاع الخاص اكثر بكثير من لجوئهم لمستشفيات القطاع العام او المراكز التخصصية ,وانطلاقا من هذه المعلومة  الناتجة عن تحليل هذه الاحصاءات من الممكن ان نفترض الاتي:
لو اتيح لجهة اهلية او منظمة مدنية تعنى بالشأن الصحي ان تقوم بحل هذه المشكلة من خلال افتتاح مراكز متخصصة وموزعة بشكل متناسب وتقدم خدمة ذات جودة وباسعار معقولة فبالتاكيد ستساهم بتحسين اوضاع الناس المعيشية من خلال توفير الجزء الذي كان يذهب لتغطية تكاليف هذه العملية وتحويله لحاجات اخرى  تساهم في رفع مستوى المعيشة وستساهم بترسيخ وجود هذه المنظمات الاهلية او المدنية وسط مجتمعها على الارض وبشكل قريب جدا من الناس وسيكون حينها للصوت المستقل صدى واسع وحقيقي ..
واذا استطردنا بمثال اخر يخص المشكلة التي تعاني منها منطقة الجزيرة السورية في السنوات الاخيرة نتيجة الجفاف واضطرار نسبة كبيرة من اهلها للنزوح من اراضيهم وقراهم الى محافظات اخرى  وبقاء نسبة مهمة ايضا على حافة الافقار ومهددة ايضا بأن يصيبها ما اصاب هؤلاء النازحين من ضرر اقتصادي كبير,ففي دراسة اجراها البرنامج الاوربي لتطوير القطاع الصحي في سوريا وشمل محافظات عديدة منها الرقة واللاذقية ودرعا عام 2006 بينت هذه الدراسة بخصوص محافظة الرقة وهي جزء من منطقة الجزيرة السورية هذه الارقام :
كل عائلة تدفع 3769 ل .س شهريا من اجل تغطية نفقاتها الصحية وحوالي 446 ل.س للفرد الواحد شهريا وهذا مبلغ كبير لأسركثيرة لا يتجاوز دخلها 10000 ل س شهريا وتبين ايضا ان 57% من الاسر وجدت صعوبة بالغة في تامين هذا المبلغ لتغطية هذه النفقات و24 % وجدته صعبا  فيما 19% فقط قالت بسهولته.
واوضحت الدراسة ان هذه الاسر مستعدة لان تدفع 3386 ل س سنويا لشركة تامين من اجل تغطية كاملة لكافة التكاليف الصحية .
من خلال هذه الارقام والتحليلات يمكن ان نستنتج  مايلي :
ان المصروفات الصحية كبيرة جدا وتستهلك جزءا هاما من دخل هذه الاسر وتجعلها مهددة باستمرار بالافقار نتيجة اضطرارها للاقتراض او بيع منزل او ارض لتغطية هذه التكاليف
ودخلها لا يسمح لها بان تدفع اكثر من 3386 ل س للتامين الطبي وهو مبلغ يقل عن المعدلات التي تطلبها شركات التامين لتغطية شاملة .
ومرة اخرى ,اذا توافرت جهة او منظمة اهلية تضع نصب عينيها تأسيس شركة تأمين صحي وتبحث ضمن المجتمع الاهلي المحلي والموجود فعلا عن مشاركة هذا المجتمع في سد العجز وتأمين هذه العائلات صحيا فستساهم بشكل كبير بوضع حد لهذه المشكلة ووقف نزيف النزوح والافقار المتحصل نتيجة عبء التكاليف الصحية (وفي الحقيقة ان الدراسة نفسها اوصت فورا بتأسيس الضمان الصحي لحماية هؤلاء الناس).
وهنا على ما اعتقد نكون حققنا اكثر من هدف مرة واحدة حماية اجتماعية لعدد كبير من الناس وايضا ترسيخ لدور المجتمع الاهلي والمدني بشكل حقيقي وفاعل..
وبالتاكيد هناك الكثير من الامثلة التي يمكن استخدام ما يسمى نظم دعم القرار او ادارة المعرفة لبناء رؤية واضحة لمشاكلنا وتمكننا من مقاربتها بشكل موضوعي وعقلاني .
توضيح ضروري:
ندرك تماما ان الامور لا تجري بهذه السهولة وستكون هناك الكثير من المعوقات والعقبات ولكن متى كان الاصلاح والتغيير سهلا وسلسا  وهل يوجد اهداف ومطامح اسمى  من الالتصاق بالناس والتفكير بتحسين احوالهم وهل امامنا خيارات وطنية متعددة سوى ان نتمسك بالعقلانية وبالمعرفة  في ظل التضييق على الحريات وعلى العمل بالشأن العام .
بالمقابل هناك حاجة ضرورية لتكريس  استخدام الادوات المعرفية في مقاربتنا لشؤوننا كافة وخاصة بمجالات النقد وكشف الخلل وتسليط الضوء على مكامن الخلل والضعف حتى يكون لهذا النقد مصداقية ومستند على ارضية سليمة وفي نفس الوقت يساهم في خلق مؤشرات نستند اليها في تقييم عملنا ومدى التحسن او التراجع في عملنا حتى لانقع مجددا في ما نقع فيه مرارا ونقصد النقد العام والذي لا يلامس جوهر المشكلة ويكتفي بالخطوط العريضة والذي يجعلنا نراوح في المكان دون تحقيق اي تقدم يذكر..
عساف محمد العساف
http://www.facebook.com/group.php?gid=396445105531&v=app_2373072738#!/topic.php?uid=396445105531&topic=13052

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى