بيدرو خوان غيتييريز: ليس هناك واقعية قذرة ولا نظيفة هناك واقع فقط
ليس وطنياً ولا مناضلاً فالبقاء في كوبا قرار شخصي
بالتأكيد، يعرف الجميع كوبا التي تظهر صورها على البطاقات البريدية، والبرامج السياحية، المليئة بالكليشيهات وما شابه. لكن أيضا، هناك كوبا أخرى: كوبا الجنس والكحول والرعب والكلمات. الكاتب الكوبي بيدرو خوان غيتييريز، يجهل كل شيء عن كوبا الأولى، أما الثانية، فيغرف منها لغاية الثمالة، ليعيد إحياءها على صفحات كتبه.
ولد غيتييريز عام 1950 في ماتانزا، وقد بدأت شهرته تتخطى حدود بلده (الذي كان يمنع نشر كتبه) بعد أن ترجمت روايته «ثلاثية هافانا القذرة» التي جعلت الجميع يقارنونه بهنري ميلر وبوكوفسكي.
«جحر الأفعى» هي روايته الصادرة مؤخراً في ترجمة فرنسية عن منشورات «ألبان ميشال» وتتحدث عن مراهقة شاب في كوبا، اعتبرها النقاد، مراهقة الكاتب عينه.
مجلة «ترانسفوج» أجرت مع الكاتب حواراً، حول ترجمة الكتاب، كما تطرقت إلى بعض مناخات الكاتب. هنا ترجمة لها، حيث تدخلنا إلى هذه العوالم التي لا نعرف عنها الكثير.
÷ غالباً ما تُستدعى، حين يتمّ الحديث عن كتبك، مقولة «الواقعية القذرة..»
} لا أفهم ذلك. هي يافطة استعملت كي تباع كتبي. حين نشر أول كتاب لي في اسبانيا، «ثلاثية هافانا القذرة»، سرعان ما تمّت مقارنتي بميلر (هنري) وبوكوفسكي. لم أكن أرغب في ذلك مطلقاً، بيد أنهم ألصقوا بي هذه اللافتة، وتوقف الأمر عند هذا الحد. أنا كاتب واقعي. وما من شيء قذر في كتبي. ليس هناك أدب واقعي نظيف وآخر قذر. ثمة واقع فقط.
÷ لا ترغب في أن تتم مقارنتك ببوكوفسكي، ومع ذلك نجد، كما في كتبه، الكثير من الجنس والكحول. كما تتصدر كتابك الأخير «جحر الأفعى»، جملة من كتابه «توابل السبعيني»…
} بوكوفسكي كاتب كثير الإحباط، متشائم. صحيح أننا نجد جنساً في كتبه، إلا أن شخصياته حزينة جداً، سكيرة، سوداء، متشائمة، بينما شخصياتي أكثر دينامية.
÷ ثمة تحذير لقرّاء الكّتاب تفيد بأن النص هو عمل تخييلي وبأن الشخصيات متخيّلة بشكل خالص، ومع ذلك يبدو الكتاب وكأنه سيرة ذاتية أدبية…
} إنها رواية… تعتمد على السيرة الذاتية بشكل عميق! لقد تمّ إعادة تركيب الأحداث ـ الواقعية ـ بشكل تؤلف معها رواية.
÷ تستدعي رواية «جُحر الأفعى» العديد من الكتاب ـ ترومان كابوت، همنغواي، دوس باسوس، فولكنر الخ… إلى أي حد أثروا على عملك؟
} قرأت كتاب «فطور عند تيفاني» وأنا في السادسة عشرة من عمري، وقلت يومها لنفسي، إن كان عليّ أن أكتب ذات يوم، فسأكتب بهذه الطريقة، طريقة ترومان كابوت. كنت أرغب في الكتابة بهذه الطريقة التي لا تبدو عليها إنها طريقة أدبية. على سبيل المثال، كتبت «ثلاثية هافانا القذرة» بشكل يثير التشوش عند القارئ: هل هي عمل متخيل أم عمل واقعي؟
÷ تقول بخصوص الكتابة: «على كل شيء أن يكون تلقائياً، ظاهرياً. علينا أن نبني عالماً خاصاً، ومن ثم علينا أن ننهمك في إخفاء عواميده». عملياً، كيف تنجح في ذلك؟
} عملــت صحافــياً لمدة ثلاثــين سنــة. كنــت أكتــب الحكايــات والروايــات، ووضعــت كــل شيء جانــباً. صرفت ثلاثين سنة كي أتعلــم الكتــابة بــهذه الطريقة: فتــرة طويــلة من الاستعداد، وفتــرة قصيرة من الكتابة ومــن ثــم إعادة الكــتابة. نظن أن ذلك يأتي بســهولة، تلقــائياً، لكنه في الواقع هو نتيــجة ثلاثــين ســنة من العـمل. الاستعداد للأمر هو العمل المهم بخاصة. إنه الاســتعداد للماراتــون لــكنك تشارك في سباق السرعة…
÷ هل على الأدب ـ والفن بشكل عام إذ أنك رسام وشاعر أيضا ـ ولكي ينوجد، أن يكون قلقاً، وقحاً؟
} يولد الأدب من الأزمات ومن التضاد، يولد على حدّ الشفرة. الأمر عينه نجده في الرسم، في الموسيقى. يبدو ذلك كله أمراً معقداً فنحن لا نستطيع ببساطة أن نذهب إلى كوبا كي نتعلم عزف الإيقاعات. يتطلب الأدب مواقف محددة. هناك أدب تأملي، تحليلي، فلسفي، وثمة أدب، كأدبي، أكثر ديناميكية، أكثر سينمائية. في كتبي، يقوم القارئ بتحليله الخاص. هناك القليل من الانتروبولوجيا، القليل من الجنس، إنه يشبه العمل التوثيقي. لا أقدم أبداً مفاتيح التأمل. على كل شخص أن يقوم بقراءته الخاصة.
÷ تتحدث عن التضاد، وثمة واحد يظهر بشكل لافت في «جحر الأفعى»، وهو ذلك الواقع بين الزهد الضروري للكاتب وبين حياة الإنسان المتفلتة…
} عرفت حياة مجنونة جداً، مكثفة كي أكتب، إنها مسألة سلوك، لا مسألة زهد أبداً. قرار الكتابة هو المهم في ذلك كله.
÷ مع زهد الراوي حين يدخل إلى الأدب، هل نصل إلى المتخيّل؟
} لدي الكثير من الخــيال (يضحك)! ليس الأدب سوى إعداد للحياة وإعادة تنظيمها من جديد.
÷ لست حنوناً مع النظام في كوبا. لِمَ اخترت أن تبقى هناك، على العكس من العديد من الفنانين والعديد من المثقفين؟
} لم يرحل الجميع من هناك. بقيت لأن عائلتي موجودة هنا في كوبا، لأن لديّ طفل. كتبي تنشر هنا، ببطء، ببطء كبير. ثمة تطلب أخلاقي، بالنسبة إليّ، في البقاء في كوبا. كنت صحافياً، لكنهم سرحوني، فقررت أن أبقى مع العلم أنني لم أكن قد نشرت شيئاً بعد. لست شخصاً وطنياً، لا أهتم بمسألة الوطن، لا أهتم بالسياسة، لست مناضلاً. لقد تجاوزت هذه المرحلة. بالنسبة إليّ، البقاء في كوبا، هو التزام شخصي حقاً.
÷ والكتابة؟ هل هي شكل من أشكال المقاومة؟
} أجل. إنها شكل من أشكال المقاومة. مقاومة صامتة.
÷ كيف استقبل مواطنوك أعمالك الأدبية؟
} لقد نشرت في عدد محدود من النسخ في كوبا. أعتقد في ألف نسخة. إنهم الأسبان الذين يقرأونني، فكتبي تنتقل من يدّ إلى يدّ. أعتقد أن الكوبيين يقدرون كتبي فعلاً، إذ يجدون أنفسهم داخلها، يتعرفون على بعضهم البعض.
÷ ما هي نظرتك التي تحملها اليوم تجاه بلدك وتجاه الطريقة التي ينظر بها الأوروبيون نحوها؟
} أعتقد أن للغرباء نظرة كثيرة التصنع، كثيرة الاستهتار تجاه كوبا: الشواطئ، الموسيقى، السالسا، ممارسة الجنس مع السود. ومن ثم هناك كوبا أخرى، أعمق، أكثر ألماًٍ، أرعب، أي تلك التي تظهر في كتبي. إنه واقع قاس وأكثر حدة. بيد أن هذا الواقع يجذب الكثير من الناس. تبدو رواية «ثلاثية هافانا القذرة» وكأنها دليل سياحي… دليل مضاد. هناك الكثير من الأوروبيين الذين يذهبون إلى كوبا، صامتين من جراء تحفظهم، لكن الأمر ينتهي بهم بأن يقعوا في حبها.
÷ ثمة تمييز على قدر كبير من الأهمية في كتبك ما بين السود والخلاسيين والبيض. نشعر بأن هناك ثلاثة مجتمعات، أساسية، تعيش بشكل متواز. هل هذا الأمر يظهر في الواقع بشكل واضح؟
} أجل، هناك عنصرية كبيرة هناك. ثمة ذكورية كبيرة أيضاً. كوبا بلد خلاسي جداً، من ناحية الدماء كما من ناحية الثقافة. ومع ذلك، من حيث الممارسة، هناك عنصرية مهمة تباعد فيما بين الكوبيين. وذلك عائد إلى واقع أن السود، كانوا لا يزالون، منذ أكثر من قرن بقليل، عبيداً في كوبا، وهذا أمر لا يزال يؤثر على الناس.
÷ من «ثلاثية هافانا القذرة» إلى «جحر الأفعى» نجد أن موضوعاتك ـ الجنس والكحول والأدب وكوبا اليومية الخ ـ لا تزال هي نفسها، مع العلم أن ثمة تطور ملحوظ. بيد أن كتابتك تبدو أكثر هدوءاً وأعمق…
} هل أصبحت أنا أكثر هدوءاً؟ لا أظن. خذوا الجملة الأخيرة من «جحر الأفعى» حيث نقرأ: «علينا الاستمرار في التقــدم، التقدم عبر الهيجان والرعب». أما الكــتابة؟ فربما أصبحت كذلك. إذ أنني كتبــت «ثلاثــية هافانا القذرة» وأنا طافح بالكحول، وأنا أدخن الماريجوانا! لقد كانت تلك الفترة، فترة قاسية بالنسبة إليّ من هنا أجد صعوبة في إعـادة قراءة هذا الكتاب اليوم.
ترجمة/ اسكندر حبش
السفير الثقافي