كردستان العراق ليس آمناً

علي سيريني
يعتبر الوضع في إقليم كُردستان، آمناً من التدهور والفوضى التي تجري في العراق ليل نهار. ويصاحب الوضع الآمن نموّ مطرد يلفت نظر المراقبين الخارجيين. والمشهد يبدو كذلك فعلاً، ما لم يتطرق المراقب لهذا الشأن إلى التفاصيل التي تعرّي كل صدقية عن الدعاوى التي تكيل المديح لإقليم كُردستان.
الوضع الآمن محدود في أطر مرسومة سلفاً لدى السلطات، الحريصة على الظهور بمظهر “ديموقراطي” و “مدني”. لكن المشهد الحقيقي ليس على هذا النحو بالنسبة للمواطن الكُردي، المحدود بين لقمة العيش وطغيان السلطة وإرهابها. نعم هناك نموّ وإعمار، إلاّ أنه ليس سوى الباب الخلفي، لابتلاع الجزء الأكبر من الميزانية التي تدر على الإقليم، حوالى عشرة مليارات دولار سنوياً. بالرغم من ذلك يبدو إيصال الإعمار إلى مواطني إقليم كُردستان، لا يتعدى الإستمتاع بمشاهدة المباني والأسواق الحديثة المطرزة بالديكورات الحديثة. فالأمر هنا هو مقاربة ما يحتويه هذا المشهد من تناقضات صارخة، وآلام واضحة، لم ينفع فيها الغطاء الإعلامي من تجميل القبح السياسي والفساد الإداري والإقتصادي.
قبل أيام تم إختطاف سردشت عثمان الشاب ذي الإثنين وعشرين عاماً، أمام بوابة جامعة صلاح الدين بمدينة أربيل، ثم وجد مقتولاً في ضاحية من ضواحي مدينة الموصل خارج سيطرة السلطة الكُردية. سردشت، الطالب في السنة الأخيرة في كلية الأدب الإنكليزي، كان قام بترجمة مقالات عدة إلى الكُردية، فضلاً عن نشره مقالات تنتقد بشدة سلطات الإقليم، نشرها موقع “كوردستان بوست” المعارض. يبدو أن سلطات الحزب الديموقراطي الكُردستاني بزعامة السيد مسعود بارزاني، إمتعضت جداً من تلك المقالات الصادرة من شاب يصول ويجول في ظل سيطرتهم “متجاوزاً الخطوط الحمراء”، التي تمس سيادة الحزب والعائلة الحاكمة.
ليست هناك أدلة قطعية تثبت تورط الحزب الديموقراطي الكُردستاني في جريمة قتل سردشت عثمان، لكن هناك إجماع شبه عام، على إتهام الحزب المذكور بتدبير الجريمة بعيداً عن “أمن” المدينة و “حقوق” المواطنين. ومرّد هذا الإجماع عائدٌ إلى إعتماد الناس على القرائن، في قراءة الواقع وأحداثه، في غياب كامل لفاعلية القضاء وإستقلاله عن سلطة الحكومة ومن ورائها العشيرة المتسترة برداء الحزب.
إثر ذلك، خرجت تظاهرات في أربيل والسليمانية فضلاً عن المدن الغربية، التي تحتضن جاليات كُردية. التظاهرات مثّلت في آن واحد، إنفجار الغضب الجماهيري المتراكم إزاء تضخم الفساد الحكومي، وتقييد الحريات وممارسة الضغوط على الحريات، وشد الخناق على حقوق الأفراد، فاجتمعت العلّة والسبب في وقت واحد، ليعبّر الشارع الكُردي عن رفضه للسلطات القائمة، بإستنكار واسع وشديد لجريمة قتل بشعة بكل المقاييس. على أن الإغتيال المذكور لشاب صغير السن، سبقته إغتيالات عديدة للكتاب والمثقفين الكُرد المعارضين لحزبي السيد جلال طالباني رئيس الجمهورية، والسيد مسعود بارزاني رئيس إقليم كُردستان، اللذين مازالا يتقاسمان سلطة الإقليم فضلاً عن المشاركة في حكومة بغداد، التي تمدهما بأموال باهظة جداً، لم يقدم البرلمان الكُردي أي تفصيل واضح عن كيفية صرفها، بالرغم من المحاولات الحثيثة للنواب المعارضين لكشف مصير الميزانية والأموال العامة.
وكمناورة مكشوفة، لجأت سلطات الإقليم، من طريق ما يُسمى “المراكز الثقافية” و”مؤسسات النشر” التي تدار من قبل مثقفي السلطة (ذوي الإمكانات المحدودة على الصعيد الثقافي) إلى إفتعال قضية الحرية الأدبية لإلهاء الرأي العام عن القضايا الأساسية الملحة وقبل كل شيء الميزانية المهدورة. فقبل حوالى شهر قامت مجلة “ويران: الدمار” الممولة من جانب الحزب الديموقراطي الكُردستاني بشن هجوم لاذع (باسم النقد الأدبي) على الأنبياء والأديان، مما ولّد ردة فعل عنيفة وغير عقلانية من قبل الإسلاميين، حتى تضخمت المسألة لتشكل أزمة سياسية، لكنها فارغة ومفتعلة. لكن المواقع المعارضة للسلطة الكُردية والتي تعمل في الخارج، وفي مقدمها موقع “كوردستان بوست”، ظلت تنشر الأخبار والمقالات التي تقض مضجع السلطة الكُردية بعنف بالغ، لم يلن من حدته التشهير المستمر بتلك المواقع. وبما أن سردشت كان قد نشر ثلاثة مقالات ساخرة، ولكن خطيرة بالنسبة للقيم العشائرية، تناول فيها رموز السلطة وعوائلها، يبدو أنها كلّفته حياته، في وضع حرج جداً بالنسبة لبارزاني وسلطته التي أحكمت سيطرة شديدة على الوضع الأمني الذي طالما كان مدعاة التباهي. وفعلاً هناك حوالى أحد عشر حاجز تفتيش بين مدينة أربيل ومدينة الموصل، فضلاً عن خنادق عميقة على طول الحدود بين المدينتين، يستحيل على السيارات تجاوزها، مما يثير الشكوك الكبيرة حول إمكان خطف إنسان وتهريبه خلال الحواجز المذكورة دون وجود سلطة قوية خلف الحادث.
لكن الذي فاجأ الحزب الديموقراطي هو ردة الفعل المستمرة حتى الآن، من قبل الشارع الكُردي، الذي خرج عن صمته لأول مرة بعد سلسلة إغتيالات، تربطها خيوط مشتركة في دوافع سياسية مشتركة أيضاً. لذلك فإن إغتيال سردشت، أبطل المناورات التي ذكرناها آنفاً، وأعاد الجهود الحزبية المبذولة للتغطية على الميزانية، وفتح القضايا الحساسة والخطيرة تحت قبة البرلمان، إلى مربع الصفر، مضيفاً إليها مسألتين جديدتين: الأولى، سؤال الشارع الكُردي الملح في الوقت الحاضر: مَنْ هي الجهة التي اغتالت سردشت عثمان، وكيف استطاعت أن تخترق أمن الإقليم القوي؟ والثانية، المرحلة الجديدة المفاجِئة حقاً، التي دفعت بالصوت الجماعي الكُردي الرافض للسلطة الكُردية لأول مرة إلى العلن.
في ما يخص الأولى مازالت الأوساط الكُردية تنتظر نتائج التحقيقات التي وعد بها رئيس الإقليم عبر لجنة شكّلها بنفسه للبحث في حيثيات الجريمة. وفي هذه، هناك اقتناع وإجماع عامان لدى الكُرد أن النتائج لن تفي بشيء صادق، فتتحد في ظنهم الثابت العلّة والنتيجة، (مما يعني أن “الحزب الديموقراطي الكُردستاني متورط في الجريمة لا محال”). أما الثانية وهي الأمرّ، فهي كيفية التعامل مع الوضع الجديد من الانفجار الجماهيري الذي كسر حاجز الخوف، ولم تعد موازين القوى كما كانت في السابق، حيث الوجود الدولي في كُردستان قوي، إذ ليس أقل من حوالى عشرين قنصلية أوروبية وعربية تتواجد في مدينة أربيل، ناهيك عن صعود معارضة جماهيرية قوية، بقيادة المنشق السابق عن الإتحاد الوطني الكُردستاني، نوشيروان أمين زعيم “حركة التغيير”.
إزاء هذه الأحداث المتصاعدة والمقلقة، أصدر المكتب السياسي للحزب الديموقراطي بياناً أثار شكوكاً عميقة لدى المتابعين للشأن الكُردي، عمّا إذا كان هناك تفكير سياسيّ محنّك واستراتيجي داخل قيادة هذا الحزب، في قراءة الأحداث والمستجدات؟
في كل ما حدث منذ السادس من الشهر الجاري، اي يوم اختطاف سردشت، وما عقبه من تظاهرات واستنكار وشجب واسع، قفز بيان المكتب السياسي لحزب رئيس الإقليم قفزة طويلة جداً، حيث ذكّر البيان من دون مناسبة بحادثة قتال وقعت في ثمانينات القرن الماضي، أوان الإقتتال الداخلي بين الأحزاب الكُردية، متهِماً بين سطور البيان، نوشيروان مصطفى (وضمناً حزب الرئيس جلال طالباني) بارتكاب جرائم قتل ضد اعضاء الحزب الديموقراطي، ليخلص إلى نتيجة غريبة هي أن قاتلي اعضاء الحزب الديموقراطي الكُردستاني في حادثة “بشتاشان” المشهورة في ثمانينات القرن الماضي، هم أنفسهم الذين يريدون تخريب الوضع في كُردستان، عبر إستغلال جريمة قتل بحق طالب جامعي، أدانها الديموقراطي تحت ضغط الجماهير المتعاظم حتى الآن!
(كاتب كردي)
النهار