طفرة المدونين… إعلام خارج السيطرة!
د. عمّار علي حسن
ما إن تدخل إلى شبكة الإنترنت باحثاً عن موضوعات حول التعذيب والسجال الديني والثقافي والحريات العامة وحتى التسلية وتزجية الوقت وقضاء الفراغ حتى تطل عليك مواقع خاصة، تتفاوت في قيمتها المعرفية وقامتها الفنية، وفي حجم المعلومات المحتشدة داخلها، وفي المشارب التي تنهل منها، والاتجاهات التي تحكمها. لكنها جميعاً تنزع إلى التحرر من القيود التي تفرضها السلطة على حرية الرأي والتعبير، وإلى تعويض المحرومين من الظهور في وسائل الإعلام الأخرى، أو الذين لا يمكن لوسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية والخاصة أن تنشر آراءهم أو تبثها في إطار ما هو مرسوم لوسائل الإعلام تلك من خط لا يمكنها أن تتعداه.
لكن السلطة في العالم العربي، التي اعتادت أن تتحكم في مصادر المعلومات، وتتوسل بالأمن فقط لحفظ استمرارها، تضيق ذرعاً بالمدونين، بعد أن أثبتوا قدرة فائقة على التأثير، إلى درجة أن العديد من الصحف المطبوعة استعارت مواد بثها مدونون على الإنترنت، وأعادت نشرها، فصنعت بها حملة إعلامية مشهودة، بل وصل الأمر إلى أن بعض الصحف تحولت إلى ما يشبه “المدونات الورقية”، حين فتحت الباب للمحررين فيها أن يكتبوا خواطرهم وآراءهم ويرصوها على الورق رصّاً فتصير في نهاية المطاف “جريدة” كاملة، يدفع بها إلى السوق، ويقبل عليها نوع معين من القراء.
ويبلغ تقدير التدوين والدفاع عن حريته مداه في حركة الاحتجاج ضد قرار السلطات في مصر بمحاكمة أحد المدونين، حيث تظاهر مصريون أمام عشر سفارات أجنبية في الخارج احتجاجاً على هذا القرار، خاصة بعد أن دأبت السلطة على سجن مدونين وملاحقتهم، والتعامل معهم وكأنهم ينتمون إلى جماعة سياسية محظورة تشكل تهديداً للأمن والاستقرار العام.
وعلى رغم أن وسائل الاتصال الإلكترونية أكثر تحصناً ضد تدخل السلطة، فإن الأخيرة لم تعدم الوسائل في سعيها الدؤوب لتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير، وفرض قيود على التواصل بين الناس وحقهم في الحصول على المعلومات. ومن بين هذه الوسائل التحكم بقدر الإمكان من المنبع في إنشاء المواقع الإلكترونية، والتدمير المنظم للمواقع غير المرغوب فيها لدى السلطات، وإلزام شركات الاتصال بالمسؤولية عما يبث من معلومات على المواقع التابعة لها، والحرص على أن يظل استخدام “الإنترنت” مرتفع التكلفة، حتى لا تتسع القاعدة الجماهيرية التي تتعامل وتتفاعل مع هذا النوع من الإعلام، وامتلاك أجهزة باهظة الثمن لمراقبة البريد الإلكتروني، وإلزام أصحاب “مقاهي الإنترنت” بضرورة الاطلاع وتسجيل هوية المترددين عليها، وتوجيههم لمنع زبائنهم من الدخول إلى مواقع معينة.
ولكن كل هذه القيود لم تفلح في منع المدونين من أن يستمروا في عملهم مستخدمين أعلى إمكانيات للاتصال وفرتها التكنولوجيا الحديثة، مثل الهواتف النقالة والكاميرات المثبتة في قلوبها، وأجهزة الحاسوب المحمولة، وكذلك الوسائل التقليدية لجمع المعلومات مثل إفادات شهود العيان والإخباريين، الملتصقين بالأحداث، الذين لا تصل إليهم وسائط الإعلام الأخرى، مثل التلفزيون والإذاعة والصحف.
كما يستغل المدونون خطوط الاتصال السريعة والمفتوحة للبريد الإلكتروني، فيتزودون بالمعلومات التي يمدهم بها الأصدقاء والزملاء والمعنيون بنشر بيانات معينة، ومواقف وآراء حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة.
ومن هنا ينتج المدونون إعلاماً قليل التكلفة، لا يفتقد إلى أساليب التشويق والإثارة، ويفتح الطريق أمام أعداد غفيرة لتصبح ناقلة للمعلومات والمعارف، من غير حاجة إلى مؤسسات إعلامية، تحتاج إلى المال والرجال، كي تؤدي واجبها، في تبصير الرأي العام بما يجري، وتوسيع المشاركة والمشورة حول قضايانا الجارية، في ظل تحايل واسع على القيود والتحكمات التي تفرضها السلطة ضد حرية التعبير، وإنهاء احتكار المعلومات، وتلبية حاجة قطاعات من الجمهور إلى مصادر أخرى لمتابعة الأحداث، خاصة مع انصراف الناس تدريجيّاً في بلدنا عن الإعلام الرسمي، الذي يفتقد إلى المصداقية، ويفتقر للشكل الجيد والمضمون الثري، نظراً لتراجع مستوى المهنية. وما يزيد الطين بلة أن إعلامنا لا يقدم كل ما هو مطلوب منه في سبيل تعزيز مبادئ المواطنة وشروطها، فهو في أغلب الأحيان منحاز لرؤى السلطة ومواقفها وتبريراتها للسلوكيات التي قد تنال من حقوق المواطنين، وذلك في ظل غياب واضح لسياسة إعلامية متحررة من القيود السياسية والبيروقراطية، تراعي التحولات التي يشهدها الناس محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً وتؤمن حرية في التعبير وتدفق المعلومات وانسياب الأفكار بعد زوال الكثير من العقبات والصعاب، وتطويع معطيات العلم لخدمة الإعلام الحر.
وما يتيح للمدونين أن يحتلوا كل هذا الحيز هو عدم انتصار الإعلام الرسمي لقضايا الحريات وحقوق المواطنة، وعدم تمكين المجتمع كله بمختلف طبقاته وفئاته وشرائحه وتوجهات أفراده ومشاربهم من الاشتراك، ولو عن بعد، في صياغة السياسة الإعلامية. فللإعلام بمختلف وسائله أهمية بالغة في تعزيز وحماية الهوية الوطنية. والإعلام ليس فقط أغنية أو مسرحية للوطن، بل هو معالجة فكرية أيضاً وحضور وتفاعل ومناقشة صريحة وجريئة لمشكلات البلاد، ومن بينها مشكلة المواطنة التي باتت في حاجة إلى حل ناجع وسريع، لمقاومة استراتيجيات ترمي إلى النيل من وحدة بلادنا، وتكاملها الوطني.
لكن ما تقدم لا يعني أن التدوين مبرأ من الخطأ والخطيئة، بل العكس من هذا إذ إنه لا ينجو من مشكلات، بدءاً باحتمال تكريسه للنضال الإلكتروني الفردي بديلا عن الكفاح الاجتماعي المباشر من أجل نيل الحقوق، وتحسين شروط الحياة عبر وسائل المقاومة المعروفة للاستبداد والفساد، وانتهاء بمعاناة التدوين من مشكلة التثبت من صحة وصدق المعلومات، ومدى إمكانية مراجعتها وتغييرها إن ثبت خطؤها، إلى جانب وقوع بعض المدونين في فخ انتهاك الحرمات الشخصية والحريات الاجتماعية، سواء كان هذا يتم عن عمد أو من دون قصد، وكذلك الانخراط الممقوت في السجال العقائدي، أو استغلال بعض المدونين للمساحات الإلكترونية في التشهير بالبعض أو مدح أعمال علمية وأدبية وفنية ضعيفة، وتعدى ذلك إلى السطو المنظم والمتبجح على أعمال الآخرين.
الاتحاد