أية صيغة توافقية نريد للبنان؟
فيوليت داغر
كمراقبة مهتمة بالأحداث في لبنان، على اعتبار أني واحدة من بناته وأبنائه الذين شردتهم حروبه والذين لم يفت رئيس لبنان الجديد ذكرهم في خطاب القسم، لا بد بعد التأمل في ما حدث من التوقف عند نقطتين تكثفان المعضلة اللبنانية، هما قضيتا الطائفية والمقاومة.
من الملاحظ أنه في ظروف الأزمات تطفو للسطح أشكال بدائية للتضامن الاجتماعي ترتكز على الطائفة والعشيرة والعائلة والحلقات الأضيق للانتماء البشري. وذلك على حساب الانتماء لوطن جامع أو لهوية عابرة للحدود تعتبر البشر شركاء في الإنسانية دون تمييز على أساس اللون أو العرق أو الدين أو ما شابه.
هذه الإشكالية لا تزال في لبنان، ورغم تعاقب الأجيال وعمادتها بالدم كل عدة سنوات، تفرض نفسها بقوة استنادا للصيغة التوافقية التي بني هذا البلد على أساسها والتي كانت في الأصل من صنع قوى خارجية.
إشكالية تعود اليوم من جديد لتقول كلمتها عبر الصيغة التي تم الاتفاق عليها في الدوحة يوم 21 مايو/ أيار الماضي. فهذا البلد التعددي لم يسمح أقطابه، خاصة بعد حرب مدمرة استمرت 15 سنة، حتى بمناقشة الأسس التي قام عليها ميثاق 1943.
ما أعدّ للاتفاق لم يتعد إعادة ترتيب البيت الداخلي وفقا لنفس الصيغة الموروثة، ولإرضاء الزعامات السياسية المتنازعة، ومنها خاصة المصابة بتضخم الأنا بفعل احتكار السلطة والثروة والزعامة المتوارثة على حساب الكفاءة والمعرفة.
لعبة تقاسم المقاعد الانتخابية والمحاصصة الطائفية هذه لم تأخذ بعين الاعتبار وجود رهط كبير من القوى المدنية والديمقراطية وأصحاب التجديد من مجموعات وشرائح ترفض على الأقل مجرد تصنيفها على أساس الطائفة التي وضعت على هويتها.
هؤلاء يعملون لكل الوطن ويبرزون بقوة في غياب الدولة التي تتراجع مع الأزمات السياسية. لكن عند الاتفاق وتقاسم المقاعد بين زعماء الطوائف والأحلاف السياسية يغيّبون من اللعبة وتهمّش أطروحاتهم من دائرة المصالح الضيقة. علما بأنهم أو في غالبهم يبزّون الكثيرين في مستواهم الأخلاقي والقيمي والثقافي والعلمي.
فالخطاب الطائفي موروث قديم في لبنان، اعتمد على إقحام الانتماء الاجتماعي الاعتقادي في السياسة، والاستناد لزعامات محلية ومؤسسات طائفية تعنى بشؤون أبناء الطائفة. هذه المؤسسات نشأت وتوطدت في البنية المجتمعية قبل بناء الدولة العصرية، كما حاربت وجود دولة قوية تقوم على أسس وطنية وديمقراطية.
واليوم مع تراجع المشروع الوحدوي أمام زحف المشروع الاستيطاني الصهيوأميركي، الذي استهدف إمكانية قيام الدولة الوطنية بتفكيك المجتمع وضرب لحمته على أساس الانتماء السياسي والمرجعية الفكرية وليس فقط الهوية الطائفية والمذهبية، هناك ما جعل شرائح اجتماعية متنورة تنكفئ إلى أشكال بدائية في التأكيد على هويتها وانتمائها.
أشكال تعززها العقلية المليشيوية وزعماء طوائف استمروا، في السلم كما في الحرب، يستأثرون بالسلطة وينفثون أحقادهم ورؤيتهم الضيقة، ويغلبون وعيهم الطائفي على الوعي الوطني وبناء الدولة الحديثة.
إذا كان الإنجاز الذي تم في الدوحة هو تجنب الانزلاق لحرب أهلية جديدة عبر الحفاظ على التوازنات ومراعاة الولاءات والتمسك بالزعامات التي كانت في أساس الحروب الأهلية الماضية، فستكون هناك لا محالة عودة لمحطات تاريخية سابقة في زمن قادم.
كان الهم الأول للقائمين على اتفاق الدوحة السلم الأهلي وإخراج لبنان من حالة الاستعصاء التي يعيشها منذ شهور طويلة، خاصة بخلو سدة الرئاسة من رئيس للبلاد منذ ستة أشهر.
لا سيما أن إسرائيل وبمساندة أميركية حاولت، بعد فشلها في العدوان الذي شنته على لبنان صيف 2006، شق الصف اللبناني وإثارة الأزمات باستمرار بين فريقي الموالاة والمعارضة.
وكانت هناك مراهنة على تفجر المشاعر الطائفية والمذهبية بإحداث صدام بين المعارضة والجيش الذي يحوّل سلاحه ضد المعارضة لوقف مقاومتها لإسرائيل دون اضطرار هذه الأخيرة للانسحاب من الأراضي اللبنانية المتبقية لديها.
ففي نهاية حقبة بوش، التي فاقمت من التناقضات والصراعات في المنطقة بشكل استثنائي، كان موضوع سلاح حزب الله يقابل بتشكيك وتحريض من طرف تجمعات المصالح والمخاوف.
ووظّفت عشرات الملايين للشحن الطائفي والمذهبي كنوع من الردّ على الملايين الأخرى التي أنفقت لتحديث سلاح المقاومة. وكان الاصطفاف في صفوف النخب والإعلام المنحاز لهذا الطرف أو ذاك عنيفا، بموازاة التسليح والتدريب الذي يجري على قدم وساق من كافة الأطراف، بما كان ينذر بصدام مسلح جديد ويبشّر بصيف ساخن.
ضمن هذا السياق، كان الحدث الذي جعل الكيل يطفح اتخاذ حكومة فؤاد السنيورة قرارا بمطالبة الجيش، ودون استشارة قيادته كما يفترض دستوريا، بإيقاف شبكة اتصالات المقاومة وإقالة رئيس أمن المطار.
علما بأن أمر شبكة الاتصالات هذه كان معروفا للدولة منذ 20 سنة خلت. لم تكن هذه المرة الأولى التي يحصل فيها هذا النوع من التصرف دون أي تنسيق مع الجيش أو إعلامه.
سبق ذلك ما تم مثلا مع جماعة “فتح الإسلام” التي ارتكبت مجزرة بحق الجيش بعد اعتقال قوى الأمن عددا من عناصرها وما جرى من أحداث في مخيم “نهر البارد“.
حاول التحشيد الإعلامي إظهار أن القضية صراع مذهبي بين شيعة وسنة، وغمز للتمدد الإيراني في لبنان. والهدف صرف الانتباه عن صلب الموضوع، أي الموقف السياسي من سلاح المقاومة. لكن هذه المرة عبر طلبات حكومية داخلية لم يستطع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف 2006 أن يحققها.
من المعروف أن الإدارة الأميركية الحالية قد جعلت ديدنها نزع سلاح حرب الله والمنظمات الفلسطينية من الحدود الشمالية لإسرائيل، وخنق، إن لم نقل التخلص من، حركة المقاومة الإسلامية في غزة.
لذا وضعت كل ثقلها لإصدار القرارات الدولية التي تمكنها من تطويق المقاومة اللبنانية وعزل حركة حماس. لكن ما دام الكيان الصهيوني يخترق الأجواء اللبنانية بشكل شبه يومي وأسطوله يخرق المياه الإقليمية، وما دامت هناك أرض لبنانية تحتلها إسرائيل وتبقي أسرى لبنانيين في معتقلاتها، فكيف يمكن مطالبة المقاومة بإلقاء سلاحها طالما لم توضع إستراتيجية وطنية لحماية لبنان؟
هناك من يربط انزلاق المجتمعات لحروب أهلية متتالية بعدم قدرة الأجهزة المناط بها حماية الأمن ممارسة دورها بفاعلية. فالدولة اللبنانية، حسب هذه القراءة، عجزت مع بداية الحرب الأهلية عن فرض سيادتها على أراضيها التي تحولت مرتعا لأجهزة المخابرات المختلفة.
وبعد وقف الحرب، لم تستعد قدرتها على بسط سلطتها على كامل تراب الوطن بسبب ضعف المؤسسة العسكرية التي فقدت احتكارها القانوني لاستخدام العنف.
لكننا نجد اليوم، وبعد ست سنوات من “الحرب على الإرهاب”، أن القراءة والحل الأمنيين لأية أزمة مجتمعية، وإن كان مصدرها الأول التنظيم الإرهابي، لا يمكن إلا أن تعتمد على تعزيز الفرد بصفته مواطنا حرا ومشاركا في تقرير مصيره.
وبالتالي، أية تعزيزات أمنية للدولة لا يمكن أن تشكل مخرجا من الأزمة لوحدها. والمفارقة أن من يلغي الفرد في لبنان هو ليس الدولة أو الجيش، وإنما التركيبات الطائفية المتعددة الوظيفة، الشمولية النهج (اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية، لكن بالتأكيد غير مدنية).
فهي تقزّم بأساليبها اللاأخلاقية أحيانا، التي تلعب على وتر الغرائزية والانفعالية أحيانا أخرى، من دور التنظيمات المدنية والأحزاب المواطنية.
السلم الأهلي لا يمكن أن يتحقق مع اتباع سياسة إقصاء طرف لطرف آخر في بلد يقوم على التوافق بين أركانه. سياسة الإقصاء، التي تجلت باتهامات متبادلة بالخيانة والعمالة لأطراف خارجية، أدت إلى جعل التنوع في المجتمع اللبناني مادة لانقسامات فئوية حادة تجر لاقتتال دموي.
لذا بات من الضروري تحديد التخوم بين الوطنية وبين الخيانة، ليس كما تطرحها قوى سياسية تقليدية لم تعد تناسب العصر والوضع، وإنما وفق نظرة متجددة للبنان جديد قادر على تجاوز الطائفية، من أجل تعزيز مناعته الذاتية في وجه التدخل الخارجي وإضعاف القوى العاجزة عن رؤية لبنان إلا من منظاري التبعية والماضي.
وهذا يفترض إيجاد تصورات وآليات تنفيذ لنزع الكراهية والتعصب من النصوص قبل النفوس، بتوفير مناخ ثقافي يعتبر حرية الرأي والضمير حقا أساسيا في بلد تتقلص فيه يوما بعد يوم الأقلام المستقلة القادرة على النظر لمستقبل الناس من خارج الصراع.
وبقبول فكرة التسامح الفكري والديني والسياسي الذي يعترف بالآخر ويتعايش معه دون أن يقصيه أو يهمّشه. فالتسامح حسب إعلان اليونسكو لنوفمبر/ تشرين الثاني 1995 ليس مجرد واجب أخلاقي أو تنازل أو مجاملة، وإنما مفتاح لحقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية ودولة القانون، هو ضرورة سياسية وقانونية وفضيلة تجعل السلام ممكنا عالميا.
هناك إصلاحات مطلوب إجراؤها بشكل تدريجي وحكمة كبيرة من دون تسويف. فقد آن أوان برمجتها وجدولتها من أجل أجيال الغد والشبيبة التي تحدث عنها رئيس الجمهورية ولتحقيق تنمية بشرية واقتصادية مستدامة، وبناء دولة القانون والمؤسسات والمواطنة الواحدة.
وإلا فسيبقى أبناء هذا البلد يعيشون بين الفينة والأخرى ما ينكأ جراحهم وما يدفعهم للدفاع عن أنفسهم ووجودهم بالانكفاء لما يحميهم من ابن البلد نفسه الذي يتخندق في الطرف الآخر، والاحتماء بالخارج.
خاصة أن الصراع الذي يجري صراع سياسي، تعتمد فيه الزعامات على الطائفية التي توظفها لخدمة مصالحها، كما تستند على الأحلاف الخارجية كلما أمكن لتقوية مواقعها والتأكيد على وزنها.
وهذه الأخرى تستفيد منها لفرض تدخلاتها وتحقيق مشاريعها في التجزئة وإعادة تركيبة المنطقة ضمن توجهاتها الجيوإستراتيجية وأطماعها الاقتصادية.
في النهاية، وبعيدا عن الشعارات المؤيدة أو المعادية للمقاومة، هناك ضرورة لمنظومة دفاعية لبنانية قائمة على تعاون بين الجيش والمقاومة، باعتبارها الرد الطبيعي على التسلح الفائق للجارة الجنوبية التي احتلت الأراضي الفلسطينية وحوّلت مسألة القوة العسكرية إلى محدد أساسي لمستقبل المنطقة في حقبة تراجع قوة القائلين بالفوضى الخلاقة دون تضاؤل احتمالات الفوضى المدمرة.
الأمر الذي يستلزم وعي الجيش والمقاومة بفكرة أن السلاح ليس عنصرا من عناصر الصراع السياسي الداخلي، وأن المقاومة المدنية تسمح لكل الأطراف بالتعبير السلمي عن آرائهم وبرامجهم والدفاع عنها. إلا إذا كان مطلوبا من لبنان أن يكون باستمرار البطن الرخو للمنطقة.
كذلك، من معضلات الطاعون الطائفي، الذي سبق المقاومة والحرب الأهلية اللبنانية كلاهما، أن ثمة من يحاول الربط بين المقاومة والطائفية، وذلك لغايات سياسية قصيرة النظر، على الرغم من أن ما حدث وما زال يحدث في لبنان ليس صراعا بين قانوني الأحوال الشخصية على الطريقة الجعفرية وعند أهل السنة، وإنما هو تصور سياسي للمنطقة والعالم.
فكما أن فكرة الابتعاد عن القوى الغربية تُطرح أكثر في معسكر محسوب على الطائفة الشيعية، نذكّر بأن هذه الفكرة نفسها كانت تقودها في حقبة الوحدة السورية المصرية أطراف محسوبة على الطائفة السنية. وفي الحالتين تجاوز الصراع والموقف الحدود الطائفية بحيث من الواضح أننا أمام خلاف في المواقف لا في الطوائف.
لبنان اليوم يقف أمام تحولات كبرى وخيارات جذرية تفترض نبذ الفكر الطائفي، علما بأن إلغاء الطائفية لا يعني إلغاء هذه الطائفة أو ذاك المذهب. كما تتطلب الاتفاق على حلول عقلانية ومدنية لمستقبله تتجاوز الموروث وتتلاءم مع طبيعة المرحلة الحالية وتحديات العولمة.
هناك أكثر من أي وقت مضى ضرورة لدولة ديمقراطية عصرية تساوي بين اللبنانيين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية، ضرورة في أن لا يبقى أكثر مما كان نظام هذا البلد نظاما طائفيا زبائنيا فئويا ومرتبطا بالخارج.
ــــــــــــ
كاتبة لبنانية