إنّه الخوف
خالد صاغيّة
لسنا وحدنا في هذا العالم. يمكن استخدام هذا الشعار للقول إنّنا لسنا وحدنا من يراقب الأفق المسدود الذي تدفعنا القوى السياسيّة إليه، قبل أن تعود مجتمعاتنا وتجدّد بألف طريقة وطريقة لهذه القوى نفسها. فقد أعاد الإيطاليّون سيلفيو برلسكوني إلى الحكم، وقد سبقهم الفرنسيّون باختيارهم نيكولا ساركوزي رئيساً، مصوّتين لقِيَم وسياسات سبق اختبارها. لقد استغلّ اليمين الأوروبي إخفاقات اليسار، لكنّه استغلّ أيضاً ــــ وفق ما رأى المحلّلون ــــ عامل الخوف: الخوف من العامل الغريب، الخوف من أبناء الضواحي، الخوف على المستوى المعيشي مع انهيار مكاسب عمرها عشرات السنين…
الخوف نفسه دفع اللبنانيين إلى التمترس وراء زعيم أوحد للطائفة، وإلى الهتاف باسمه، والتماهي معه، وإشاحة النظر عن أخطائه وخطاياه. إنّه خوف من الخارج، سوريّاً كان أو سعوديّاً أو أميركيّاً أو إسرائيليّاً. إنّه خوف من الطائفة الأخرى، في بلد لا يستطيع الصراع السياسي، مهما بلغت حدّته، أن ينفي وجهه الطائفي. وقد تعزّز هذا الخوف بعد الدعم الدولي الجارف الذي تلقّاه أحد الأطراف، وبعدما شنّ الطرف الآخر حملته العسكريّة الخاطفة داخل مدينة بيروت وبعض قرى الجبل. إنّه خوف على المكتسبات المعيشيّة بعد ارتفاع الأسعار الفاحش وضمور دور قنوات التوزيع عبر الحكومة شبه الغائبة.
كثيراً ما جرى الحديث في السنوات الثلاث السابقة عن ضعف التمترس لدى المسيحيّين وراء زعيمهم. والواقع أنّ شعبيّة العماد ميشال عون عرفت مدّاً وجزراً خلال تلك السنوات. لكنّ الوقائع أثبتت أنّ عون عرف، وقت الشدائد، كيف يشدّ العصب المسيحي، في ظلّ خوف هذه الطائفة المتزايد من التهميش والإبعاد عن المشاركة، من دون أن يعني ذلك احتكار عون للتمثيل المسيحي، كما حصل لدى الطوائف الأخرى. لقد انتصر في الشارع المسيحي هذا النوع من الخوف، في ظلّ غياب قوى رديفة تذهب بالسياسة نحو عوالم مختلفة. فقد اقتصرت محاولات القوى المسيحيّة المناوئة لعون على بثّ خوف… من أنواع أخرى.
بعد حوادث بيروت الأخيرة، ربّما أصبح من الأسهل كسر احتكار «المستقبل» للتمثيل السنّي. لكن، هذه المرّة أيضاً، سيكون الخوف سيّد الموقف. فقد ارتفعت أصوات داخل الطائفة السنّية تدين تيّار المستقبل لظهور «عجزه» عن حماية الطائفة!
سيظهر هنا دور لقوى عديدة تلعب لعبة المستقبل نفسها في توفير ما يمكن أن نسمّيه «شبكات أمان محليّة». فلم يكن «المستقبل» وحيداً في محاولة ملء الفراغ، بعدما تراجع دور الدولة في توفير حاجات المواطن الأساسيّة. تميّز دور المستقبل بأنّ سياساته أضعفت الدولة (فهو ينادي بدولة قوية في كلّ شيء، إلا في توفير التقديمات الاجتماعية)، أمّا سعيه إلى إنشاء الشبكات في الأحياء أو دعم شبكات كانت قائمة، فلا يختلف فيه عن قوى سياسية أخرى قامت بالأمر نفسه، وخصوصاً في مدينة طرابلس. لقد بات دور هذه الشبكات أساسياً في اختيار الزعماء. وهو خيار قائم على الخوف، هو الآخر.
المخيف في لبنان أنّ سياسة الخوف هذه لا تكاد تخيف أحداً. بالعكس تماماً، ينخرط الجميع فيها من دون تردّد، كلٌّ من زاويته…
في رواية سمجة للاستقطاب الحاد في لبنان، يصرّ البعض على إظهار نفسه كمدافع عن «ثقافة الحياة» في وجه «ثقافة الموت». الواقع أنّنا جميعاً أسرى ثقافة الخوف الذي يبتلع البلاد من أقصاها إلى أقصاها.
الأخبار
عدد الاثنين ٩ حزيران ٢٠٠٨