عمّار البيك: مع التكنولوجيا أشعر بحرية أكبر
الحدود بين الإخراج السينمائي والتصوير الضوئي عنده واهية
راشد عيسى
يعمل السينمائي الشاب عمّار البيك منذ سنوات بشكل مستقل. حقّق أفلاماً، وحصد جوائز في مهرجانات عالمية لم تُرشّحه لها «المؤسسة العامة للسينما». أفلامه قد تكون النموذج الأبرز لسينما مستقلّة في سوريا، حيث سينمائيون «مستقلّون» آخرون ليسوا سوى ظلّ للمؤسسة الرسمية. لكن نجاحه هناك لم يثنه عن متابعة مشروعه في التصوير الضوئي، هو الذي وُلد تقريبا في الاستوديو. اختبر كلّ آلات ومعدات وطرائق التصوير من «أجل أن يقبض على جماليات الغبش»، كما قال عنه الفنان يوسف عبدلكي. في السنوات الأخيرة، عمل الفنان الشاب على أرشيف الخمسينيات والستينيات المهمل. أرشيف حصل عليه من باعة الأنتيكة، ويقوم عبره بـ«سبر أغوار حقبة من تاريخ البلد، من خلال صُوَر مواطنيه»، كما قال في هذا الحوار. وهو يعرض الآن جزءاً منه في غاليري «كيو» في بيروت.
أية مكاسب يأخذها عملك من الجمع بين مهنتين، الإخراج السينمائي والتصوير الفوتوغرافي؟
^ التصوير بالنسبة إليّ العتبة الأساسية لصناعة الفيلم، والحدود بين الفوتوغراف والفيلم في غاية التماهي. فالثانية، بوصفها زمناً، تَوَالي عدد معين من اللقطات المُسجّلة على الشريط السينمائي أو الفيديوي. الانسجام كامل بين الفنين، وهذه الحدود الوهمية هي الفلسفة التي تقارب الثابت والمتحرّك إيهاماً بمرور الزمن، ناهيك عن حضور الإنسان كموضوع بحث غير متناهي الحدود، من حيث متعة الاكتشاف والتجريب في عوالم السمعي والبصري ضمن جغرافية ما في حدود ما وعوالم ما.
العلاقة وطيدة بين الفنين إلى درجة كبيرة للغاية. فيها مماحكة ذهنية عالية، بين الرفض والقبول لخيارت طباعة صورة على ورق، أو بثها على شاشة بيضاء، أو تركها كرقم على قرص صلب، أو الاحتفاظ بها كنيغاتيف مصنوع من ذرات الفضة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الفيلم. هو أيضاً لعبة تحليل وتركيب على المستوى الذهني، يحمل الكثير من الجهد والمتعة في آن واحد. أنا أؤمن أن هذين الفنين المستقلّين المنفصلين هما الهيكل الأساسي لفلسفة الصورة الثابتة والمتحركة.
معظم أعمالك الفوتوغرافية الأخيرة مكرّس لإعادة العمل على نيغاتيف متروك منذ سنوات طويلة. أين عثرت على هذا الأرشيف؟
^ جزء من أعمالي يعتمد بشكل كليّ على معالجة فنية لمجموعة كبيرة من النيغاتيف الأبيض والأسود، في مراحل زمنية متنوّعة، تجمع بين عقدين من الزمن، هما الخمسينيات والستينيات. حظوظي كانت كبيرة بالعثور على مجموعات مختلفة من هذا الأرشيف ضمن جولاتي في أسواق دمشق القديمة، وبالتحديد بعض المحال التجارية التي تُعنى ببيع المواد المستعملة القديمة (الأنتيكة)، وبعض الأسواق الشعبية المتطرّفة عن حدود مدينة دمشق. العمل على هذا الأرشيف، المجموع على مدار سنين بكل تأكيد، فيه ما فيه من متعة البحث والتقصي الفني الأنتروبولوجي، الذي يلخص ذهنيات مجتمعنا المتعددة والمتنوعة بالعلاقة مع الصورة كوثيقة، ومع الصورة كعمل فني.
وماذا تعني إعادة العمل على ذلك الأرشيف اليوم؟
^ إعادة العمل على هذه النيغاتيفات حاجة داخلية إلى بحث فني جديد، ومطلب فكري اجتماعي شخصي لسبر أغوار حقبة من تاريخ البلد، من خلال صُوَر مواطنيه، أشكالهم ولباسهم وتجمّعاتهم واستوديوهاتهم وكاميراتهم، وما إلى ذلك. حتى طريقة نظراتهم.
أي ضرورة تجدها اليوم للتصوير بالأبيض والأسود؟
^ الصورة الملوّنة والصورة بالأبيض والأسود قرار فني صرف، لا ضرورات ولا أحكام مسبقة. هي تنوّع في التعاطي مع الموضوع واللحظة والتجريب من كل بدّ، ففي الأيام التي سادت فيها الصورة بالأبيض والأسود، كان هناك بعض المصورين والفنانين الذين يقومون بتلوين الورق المطبوع بصورة، وبذلك يبتكرون أحياناً ألواناً غير حقيقية أو متطابقة مع الواقع. التصوير بالأبيض والأسود في زمننا هذا إيهام لا يتطابق والحقيقة، يعني تجريد الموضوع من اللون ابتداءً بصورة شخصية، مروراً بمنظر طبيعي، وانتهاءً بطبيعة صامتة.
هل تجد أن التطوّر الذي أتاحته الكاميرا الديجيتال أساء لفن التصوير الضوئي، أم أضرّ به؟
^ من دون أدنى شك، فإن التطوّر التكنولوجي، على صعيد بعض المعدات الفنية من آلات تصوير وتسجيل صوت وآلات اتصال ونسخ وطباعة، أتى على شكل متوالية هندسية غير منتهية الحدود، وفتح آفاقاً جديدة بالعلاقة مع الفنون. على صعيد شخصي، أشعر بحرية أكبر مع الفكرة الرقمية من خلال الكاميرا الديجيتال، وأهم الصُوَر التي ألتقطها اليوم أستعين بجهاز «الموبايل» لتسجيلها، وغالباً ما تكون لحظات فوتوغرافية مهمّة من حيث التكوين والضوء والموضوع واللون وما إلى هنالك. لكن، خلف هذا التطوّر التقني غير المسبوق على صعيد الصورة والكاميرات الرقمية، لا بديل من التحلّي بالموهبة، واتّساع الثقافة الفنية، وحضور المقولة.
كيف تنظر إلى وضع فن التصوير الضوئي في سوريا اليوم؟ أية معوقات؟ ومن يلفت نظرك من المصورين؟
^ هناك حراك فوتوغرافي فني مهم جداً في سوريا، وغالباً ما يكون على مستوى فردي. أهم المعوقات عدم وجود الدعم اللازم على المستوى الرسمي. بمعنى أدق، تصوّر أن كلية الفنون الجميلة الرسمية في سوريا، التي قدّمت فنانين مهمين كثيرين في المنطقة، لا تحتوي حتى الآن على قسم خاص يُدرِّس ويُخرِّج الطلاب في اختصاص التصوير الفوتوغرافي، كما في النحت والتصوير الزيتي. كأن الشكوك في ماهية الفوتوغراف كفن لا تزال موجودة حتى اللحظة. حتى الجامعات الخاصة في سوريا لا تملك حتى الآن قسماً خاصاً بالتصوير الفوتوغرافي الفني، الذي يأتي غالباً كتابع لأحد المواد التي تُدرَّس ضمن قسم التصميم الإعلاني. هذا مفهوم خاطئ للفوتوغراف كفن. وعلى الرغم من ذلك، ففي سوريا أسماء كثيرة في عالم التصوير الفوتوغرافي الفني، من أهمها محمد الرومي ونزيه بحبوح وأيهم ديب وجابر العظمة وماهر سلمى ونايري شاهنيان ومحمد حاج قاب ومحمود ديوب ونصوح زغلولة، وغيرهم كثيرون.
هل تؤمن حقاً بوجود سينما مستقلة في سوريا؟
^ بكل تأكيد، هناك سينما مستقلة في سوريا. هناك بعض المخرجين الشباب يطمحون إلى مشاريع سينمائية مستقلّة مادياً، والأهم من ذلك فكرياً. فالاستقلالية في صناعة الأفلام لا تعني بالضرورة الميزانيات المتواضعة. هناك أفلام ذات ميزانيات كبيرة، لكنها أفلام مستقلة فكرياً. لكن، للأسف، فإن الأفلام المستقلّة في سوريا غالباً ما تكون ذات إنتاجات متواضعة جداً، مع أنها مبشّرة بالاختلاف على صعيد المعالجة الفنية. يجب التنويه أن هذه الأفلام متواضعة العدد، نستثني بالطبع من هذا النوع السينمائي الفني بعض الريبورتاجات المصنوعة بطلب محطات تلفزيونية عربية وأوروبية، تأتي ضمن أجندات متفق عليها غالباً، وتعنى بالشأنين الاجتماعي والسياسي.
أنجزت مجموعة من الأفلام من دون الاعتماد على «المؤسسة العامة للسينما». كيف أمكنك ذلك من دونها؟ هل هو قرار بمقاطعتها؟
^ عندما أنتجت وأخرجت فيلمي القصير الأول «حصاد الضوء» عام 1996، لم يعنني الأمر في الحصول على المال من أحد لإنجازه. كانت متعتي في صناعته وحيداً لا توازيها متعة فنية على الإطلاق. إن تسمية «المؤسسة العامة للسينما» كانت بالنسبة إليّ جملة مكتوبة تظهر بشكل مرتجف ببداية تيترات الأفلام السورية القليلة جداً، التي أتيح عرضها في «سينما الكندي» منذ الثمانينيات والتسعينيات، بالإضافة إلى أنني لم أكن عضواً مسجلاً بهذه المؤسسة لأقاطعها، وليس هناك أي خلاف شخصي معها، لا من قريب ولا من بعيد، ولست معنياً بذلك إطلاقاً. على العكس تماماً، فالمؤسسة أعطتني الموافقة الإنتاجية لتصوير سيناريو فيلم بعنوان «يا جارة الوادي» عام 2005، ضمن مشروع مجموعة أفلام مع ستة مخرجين شباب، لكني رفضت العرض لأسباب لها علاقة بآليتي الخاصة بصناعة أفلامي. أنا من يقرّر اليوم الظرف الإنتاجي والفني وطاقم العمل ومدته، وأنا من يقرّر الفكرة وحتى المهرجان الذي أعرض أفلامي فيه. هذا مفهومي الشخصي عن صناعتي لأفلامي المستقلة، على الصعيدين المادي والفكري. لكن، يجب ألاّ ننسى أن «المؤسسة العامة للسينما» صنعت أهم الأفلام السورية كـ«الفهد» و«أحلام المدينة» و«صندوق الدنيا» و«اللجاة» و«الحياة اليومية في قرية سورية»، وأفلاماً أخرى كثيرة.
راشد عيسى
(دمشق)
السفير