صفحات العالم

الجحيم هو المكان الذي يتشابه فيه كلّ الناس!

بول شاوول
سُئلتُ يوماً في مقابلة صحافية “كيف تتصور الجحيم؟”، فقلت “الجحيم هو المكان الذي يتشابه فيه كل الناس”. ولا بد من تأكيد هذا الموقف أو الرأي، عبر التجارب التي مررنا بها على امتداد أربعة عقود وأكثر، أي على امتداد وصايات “متنوعة” حاولت أن تضعنا في تقسيمات أو جزر أو كانتونات متشابهة، من طائفية أو مذهبية، أو إيديولوجية أو عائلية. كما أننا خبرنا وعرفنا الأنظمة التوتاليتارية عندنا على امتداد أكثر من ستين عاماً تحت مسميات “الثورة” وعلى وقائع “الانقلابات”. ولا ننسى أن هذه الأنظمة (المسؤولة عن كل هزائمنا لا سيما أمام العدو وسواه)، إنما استوحت نموذجها من التوتاليتاريات التي دمغت القرن العشرين من الاتحاد السوفياتي، الى منظوماته الاشتراكية، وكذلك النازية وصولاً الى الصهيونية: التوتاليتاريات الثلاث، أي الشيوعية (الرسمية) والنازية والصهيونية، ولدت من أرحام الحداثة (نتذكر الثورة الفرنسية) ومن جوف التجارب الديموقراطية، الشعبية، والبرلمانية.. وكان لهذه البنى الشمولية أن تصنع حربين عالميتين، الأولى كلّفت البشرية 20 مليون ضحية، والثانية 50 مليوناً… وإذا كانت بعض التوتاليتاريات نشأت أو تبلورت بعد الحرب العالمية الأولى، فإن نشوءها قد تم كتداعيات لهذه الحرب (كالنازية والفاشية وحتى الصهيونية).
بذور التوتاليتاريات (على قدمها) إذاً من “تجليات” الحداثة، ومن الديموقراطية، وأخيراً من النيوليبرالية (العولمة، ما بعد الحداثة: أي الحداثة المستهلكة)، أي أن فصول “الجحيم” الشمولي، من “أزهار الديموقراطية” أيضاً. فهتلر “انبثق” من الديموقراطية الحداثية الألمانية، وموسوليني من الديموقراطية الإيطالية، والصهيونية من “الديموقراطيات” الغربية (لا سيما الأوروبية)، وصولاً الى ما يسمى العولمة بطبيعتها الأميركية التي “تفجرت” من الديموقراطية الليبرالية، تقاطعاً مع التجارب المماثلة في الأنظمة الاشتراكية المناهضة. واللافت، أنه إذا كانت هذه الشموليات هي “الإبنة” الشرعية لظواهر الحريات الفردية والجماعية، فإن أنظمة العالم الثالث، خصوصاً أنظمتنا العربية، تسلّلت بانقلاباتها الإيديولوجية لتكون انقضاضاً على “ليبراليات” الأنظمة العربية وتعدديتها وبرلماناتها المنتخبة في ثلاثينات وخمسينات القرن الماضي وصحفها ومجلاتها وصراعاتها الفكرية، ومؤسساتها النقابية والسياسية والحزبية والاجتماعية. كأن كل هذه المتون المتصلة بنوعية البنى في القرن العشرين وحتى آخره، صبّت في ما يسمى الأحاديات المعلبة، وهذه المرة في نهايات القرن العشرين وحتى الآن من باب الاقتصاد ووسائط الاتصال والميديا والتطور التكنولوجي والعلمي، حيث اتخذت سحن “الاستعمار” أقنعة جديدة، وازداد استغلال الشعوب، وتعمقت الهوة بين الشمال والجنوب، حتى أدت هذه السياسات الجشعة اللاإنسانية (في ظل حكم البنوك والمصارف والمضاربات، والعقارات) الى أكبر أزمة تواجهها الرأسمالية (الشمولية منها وغير الشمولية). فكأن “جحيم” الأنظمة الكلية انتقل الى البلدان التي تعتمد التعددية، والديموقراطية، والرفاهية، والاستقرار، و… الجشع! فهيمنة سياسات المصارف هي أيضاً برغم ادعاءاتها الليبرالية تشكل توتاليتارية مالية أو اقتصادية. فالبطر عندما يصيب أمة يسقطها! ومن باب الفوارق والمفارقات، أن العالم بات يعيش أزمات متماثلة ومتماهية، كأنها العدوى، أو كأنها الأمراض التي تنشأ عن “التواصل” والاحتكاك كالإيدز وأنفلونزا الطيور والخنازير والدجاج والماعز… عودة الى نظام المواشي باستمرار! بل كأن “نظام المواشي” المدموغة من زمن روبسبير الى ستالين (وقبله والده الروحي والمادي لينين) وبعض الأنظمة العربية… وصولاً الى “الشوملة” و”الكوننة”… انتصر نموذجه الموحد للعالم والشعوب. وكأن “نهاية التاريخ” الذي بُشرنا بها وصراع الحضارات، والجنازات الجماعية التي أعلنت تكراراً كموت الإنسان، وموت التاريخ، وموت الجغرافيا، وموت الماركسية، وموت المسرح، وموت الشعر، وموت السينما، وموت “الكون”… تصب في نهاية “تاريخ ما” وبداية “اللاتاريخ” أو التاريخ الذي من تهافته، وجنونه، أسرع من تثبيت أي ظاهرة أو إنجاز: فالتاريخ واللحظة، وكأنه يتم خارج “الإنسان” وخارج الزمن وخارج “العقلانية” بإسم العقلانية، وخارج الاقتصاد بإسم الاقتصاد، وخارج الدين بإسم الدين، وخارج القيم بإسم القيم، وخارج الحياة بإسم الحياة. فاللحظة كأنما يريد لها أن تتراكم من دون تواصل لتصنع الأقدار والتواريخ، على عكس ما كان يحكى منذ أيام هيراقليط وماركس وأنجلز والرفيق الأكبر ستالين، من أن التاريخ “سيرورة” وصيرورة: ذو منشأ واحد وذو مصب واحد وذو مسار واحد مستقيم(!) إنها الصيرورة “التاريخية” (الهيغلية بالمقلوب)، التي صارت اليوم “لحظوية” مبتورة. فالتاريخ اليوم “هشاشة” الأرقام، لا متانة الأمكنة والأفكار وحتى المشاعر. لذلك كأنما ينفي نفسه باستمرار أو الأرجح كأنه يتنكر لنفسه باستمرار، وكأنه دائماً على هاوية أو على شفير انتحار. ولا نعرف ما معنى هذا الهذيان في لعبة سباقات مجنونة، تحرق الأوقات، والجلود، والاستقرار. ولا نعرف ما معنى هذه الارتدادات التي تحول كل شيء هشيماً رقمياً، أو حطباً لمواقد حفنة صغيرة في العالم، ولا نعرف كيف تحول الإنسان، قافزاً فوق ثقافاته وإبداعاته، وقضاياه، وأزماته، وأفكاره، مجرد كائن آلي، خاضع، بلا دليل واضح، ولا مآل معروف، لهذه الآلة الجهنمية. بل كأنما يعيش الإنسان وقتاً بلا وقت. وأجوبة بلا أسئلة. وحاجة بلا ارواء. وضرورة ملتبسة. وخدعة برّاقة. ذلك أن تراجع الحركات “الفكرية” والسياسية، وتنوعاتها، وصراعاتها، أوقع العالم في نوع من إيديولوجية “الفائض”، أو إيديولوجية التفاصيل والفراغ… والخواء النفسي، والإنساني، إزاء “تخمة” متطلبات السوق، وتسليع الضرورة والتواريخ الخاصة والعمومية، لتتحول، وكأنها سوق “أممية” مفتوحة على الموروثات والمتعلقات والنظم والمقاييس لتجعل منها مجرد “حوائج” أو استهلاكات أو بورصات أو حتى فولكلوريات. التاريخ فولكلور. والأمكنة سيركات. والابتكارات التكنولوجية أعباء في بعض جوانبها، ووسائط الميديا سدود دون التواصل، وعزلات تراوح في عزلاتها، وحتى الهويات، التي كانت تحت سقوف الجدل والمناقشة، والمركّب، بُسِّطت لتكون اليوم على مرمى المقدسات، والأحاديات، والعنصرية، وصراع الاثنيات، وكهوف التقوقع، ومدارات الكراهية… وإلاّ كيف نفسّر أن العالم الذي يقال أنه تحوّل “قرية كونية”، أصيب بهذه الشرذمات التي ورثت من الإيديولوجيات “خصوصياتها المطلقة”، ومن التنوير ملامحه التنازعية، ومن الغيوب طحالبها السامة، وصولاً الى أصوليات مستأصلة، سواء عند بعض الظواهر الإسلامية والمسيحية، ولا سيما عند الصهيونية التي اختزلت بيهوديتها بعد فشلها التاريخي في “تحقيق” مجتمع اشتراكي ديموقراطي قائم طبعاً على قتل الغير: فلسطين والعرب… ليربط بينها عميقاً العنف، وثقافة الإبادة والموت والافتراقات، والحروب، والمجازر، والفقر، والتبعية أيضاً. بمعنى آخر، كأنما، حتى الذين شاركوا في صنع التنوير والنهضات، ورسخوا مداميك العقلانية، وقيم احترام حقوق الفرد والمجتمع، وقعوا في الشباك التي نصبوها لغيرهم عبر “إيديولوجيتهم” الاستعمارية. ويكفي أن نعاين اليوم السجالات القائمة في بلد كفرنسا، وارثة الثورة، وصانعة التنوير، لنرى أن ما يطغى عليها هو موضوع “الهوية” ليخفي شيئاً من “العنصرية” والفاشية في التعامل مع المهاجرين وذوي الأصول الإفريقية والإسلامية وسواهم. ويكفي أن نراجع ممارسات اليمين المسيحي في أميركا اليوم، لنرى الى أي مدى تحول هذا اليمين الى غيتو تديره النزعات العنصرية (وكأن المسيح كان عنصرياً ليقتدوا به!)، لمعاداة الحقوق الإنسانية، خصوصاً فلسطين، وللإنحياز الى إسرائيل التوراتية، التوسعية، الاستيطانية، كل هذا في مربعات “عنصرية” تنضح بالكراهية، والتعصّب، وتبرير ما لا يبرر، من القتل والاعتداء على الشعوب: إنه المقدس هبط عليهم، بحيث إن بوش الإبن (قبل الرئيس نجاد أدامه الله) ارتجل نفسه “رسولاً هابطاً من عند الله”، لينقذ العالم. كأنه “مسيح” جديد، مفتون بالجنون والعظمة والسيطرة والهيمنة والفرض، والنهي…
وإذا كانت كل هذه الهياكل السياسية المفرغة من كل محتوى (نقاشي)، فتحت الحداثيات المعلنة وغير المعلنة، على كهفية، أو على مجتمعات تتصادم ككتل مغلقة، فإن تبعياتها، ومسائلها، وإداراتها، جعلتها تُحَوِّل المتعدد الى أحادي، والمختلف الى متشابه، والمتميّز الى متساوق، والمبدع الى مستهلك، والناقد الى صدى (للمؤسسات)، والشاعر الى مُصنّف وراءه غبار الاكتفاء والسلامة وحب المال والنرجسية والسلطة، والاقتصاد الى مجرد بنوك ومصارف وصفقات، والمواجهة الى انخراط في الإيديولوجيات القامعة، والأحزاب الى “فولكلوريات”، والفلاسفة الى مجرد “حواضر” إعلامية، والمجموعات البشرية انساقاً متكررة الى ما لا نهاية، من القطعان المسوقة بحاجاتها.
كأن العالم المضغوط بتوتاليتاريات العولمة، والعنصرية، والظواهر الدينية الأصولية، والهويات المتكاملة، بات جحيماً مزيناً بمستحضرات الفرجة، والاستعراض، والكرنفالات.. وما يسمى الحصار الافتراضي لحرية العقول والأجساد والنفوس والتناقضات والصراعات سطحاً أفقياً بلا قرار. تطفو عليها الكائنات مفجوعة بغياباتها النباتية. إنه الجحيم الآخر؛ جحيم الزمن الآخر، الذي تُصنع فيه التماثلات والتماهيات، وتنعطب فيه الزوايا الحادة.
نحن في العالم العربي سبقنا بأشواط البلدان الى “اجتراح” هذا “الجحيم” التوتاليتاري، من خلال أنظمة انتزعت عصب النفوس. وصرخة الاحتجاج، وديموقراطية الاختلاف، وحرية التعبير، والتفكير، والقول، والحلم، والحراك، فصرنا نتململ في سجن كبير، والسجون عادة ما تكون متشابهة، ومستنسخة، ومستوردة، ومورّدة. وعندما صفّت هذه الأنظمة مخزون الأفكار الحية، المفتوحة، ومسارات السياسة، وأدوات المجتمع، وأحزابه، ومؤسساته المدنية، وحاصرته، وجوّفته من كل هاجس سوى هاجس “السلامة” و”الأمن” وأخضعته لبدع “البيعة”، والاستفتاءات و99,99 في المئة، أعدمت فيه إرادة الاختيار ولو في التفاصيل، ولو في الحدود الدنيا من الاعتراض أو الانتقاد، فدمغته بدمغات واحدة، تحت شعار “الوحدة الوطنية” والمشيئة الواحدة، والصوت الواحد، والرأي الواحد، والقائد الواحد، والجسم الواحد والعين الواحدة، والموت الواحد… أنظمة عروبية، وثورية واشتراكية، و”رسالة واحدة” ونظام طوارئ واحد، وقمع واحد، فيا لهذا التشابه الجميل بين هذه البنى التي دمرت مفهوم “الشعب”، والحرية، والحقوق الخصوصية والعمومية. فأنت لكي تضمن سلامتك، وحياتك، وعائلتك ووظفيتك، ولقمتك، عليك أن تكون النموذج الذي يحتذي ما تُفتيه الأنظمة، لتكون مع النماذج الأخرى المقولبة، نموذجاً واحداً، في أوطان بلا مواطنية، وأي شذوذ عن القاعدة، هو تآمر على “الأمن القومي”، و”تعامل مع الخارج”، وارتباط بالعدو: أي الخيانة. وأحياناً تصيب الخيانة أفراداً أو جماعات، فتُعدَم نفسياً أو جسدياً أو معنوياً. إذاً أنت في “جنة” هذا النظام العربي ذي مواصفات مشتركة. والجنات صُنِعتْ للصالحين. والصالحون هم الطيبون. والطيبون هم المطيعون بلا أسئلة، ولا أجوبة. ولا اختلاف. و”جِنان الأنظمة” هي جحيم الناس. الناس الذين ينكفئون الى مراراتهم وصمتهم وخجلهم ويأسهم وخوفهم وهزيمتهم. فالأنظمة التي لا تنتصر على “العدو”، حري بها أن تنتصر على شعوبها، والأنظمة التي تتخلى عن سيادتها الوطنية وأراضيها، حري بها أن تصادر حرية أهلها… وخيراتهم وحقوقهم وحرياتهم. ولكي تصل الى مثل هذه الأهداف النبيلة (وهي أصلاً نبيلة)، فإنها تعمق الهوة بينها وبين الناس لكي تُشعرهم بالفوارق “الطبيعية” والسلطوية، والمراتبية، وحتى الإقطاعية. ولكي تبلور أمامهم أكثر فأكثر أن “الجنان السماوية” و”الأرضية” هي فوق وعندَهم، والجحيم السادر تحت عند الناس، ولكي تملأ الفراغات التي حفرتها فيهم، فإنها، تعمد الى إثارة المخاوف بينهم، وإلى خلق صراعات جانبية، بحيث تضع فئات من الشعب مقابل فئات أخرى، إيديولوجية في السابق، وطائفية ومذهبية اليوم. وكلنا يعرف أن عالمنا العربي بفضل هذه الأنظمة التافهة يطفو على براكين من التناقضات المذهبية، وكأن التناقض الوحيد، انتقل في هذه الأنظمة، من أحادية شمولية (فكرية) الى أحادية دينية أو عائلية، أي الى توتاليتاريات مصغرة ومنكفئة، تنتظر أن تشعل الأنظمة أول عود ثقاب لتشتعل الفتن والحروب… وتتربع هي فوق هذه الحرائق كما تربّع نيرون فوق روما! ولهذا نقول إن بعض الأنظمة العربية، هي مشاريع “حروب أهلية” مؤجّلة… نتمنى أن تحرقها هذه المرّة لتتخلّص منها شعوبها. والغريب أن هذه الأنظمة الشمولية المصادرة، تلعب أيضاً، ولمزيد من كسر أي زاوية اختلاف أو نقد، أو وعي، أو تحرك، أو هاجس، تلعب لعبة إفقار شعوبها (فالفقراء شموليون في تشابههم!) والتجهيل (والجهلة شموليون في تشابههم)، والقمع (والمقموعون شموليون في عجزهم)، بحيث تزداد سيطرتها على خيرات البلد… بطريقة أنه كلما أثرت هذه الطبقات الحاكمة، ازداد فقر الناس (كالأوعية المتصلة).
إفقار، تجهيل، مصادرة، قمع، سجون، ترويع، واحدية القرار، والخضوع، مذهبية (وإن بشعارات علمانية، يا عين!)، كلها تقولب الأفكار والناس والمجموعات، وكأنهم أُنتجوا في مصنع واحد، وفي قياس واحد، ومن مادة واحدة، ومن رسم واحد، ونبرة واحدة… هي ما أرادته لهم الأنظمة، وهي ما يجب أن يقبلوها!
إنه الجحيم؟ نعم! ونعود ونكرر: نعيش في عالمنا العربي جحيماً موصولاً… يتشابه فيه كل الناس، وتتشابه فيه معظم الأنظمة!
من جنّات الأنظمة… الى جحيم الناس مسافة بين الأرض والسماء… في انتظار “جنات الخلد” لا في هذه الدار الفانية… بل في تلك الدار الباقية!
… والله على كل شيء قدير!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى