التفاوض السوري الإسرائيلي

المفاوضات السورية الإسرائيلية.. حيثياتها وأبعادها وميزاتها

null


ماجد كيالي

لم يشكل إعلان استئناف المفاوضات بين سوريا وإسرائيل مفاجأة كاملة، فقد كانت ثمة تسريبات تتحدث عن مفاوضات غير مباشرة، واختبار نوايا، عبر قنوات عدّة (روسية وسويسرية وإسبانية وتركية) لإيجاد مقاربات ملائمة للقضايا المستعصية المطروحة على جدول المفاوضات بينهما، فيما يتعلق بالحدود والترتيبات الأمنية والمائية وماهية السلام والجدول الزمني.

مع ذلك فإن الإعلان أثار تساؤلا في غاية الأهمية، فهل باتت الأوضاع الدولية والإقليمية على الصعيدين الإسرائيلي والسوري مهيأة لخطوة نوعية على مثل هذه الجدية والخطورة في فضاء الصراع على الشرق الأوسط؟

وبمعنى آخر، فهل انفتح عهد التسويات مجددا وانطفأ زمن الاضطرابات والحروب في منطقة الشرق الأوسط؟

أهمية هذا التساؤل ليست مجرد عملية إجرائية أو استكشافية، بل هي مسألة جوهرية مقرّرة، فالطرفان المعنيان يدركان أن المفاوضات بينهما لن تكون مجرد عملية سياسية، لا يعرف أحد نهايتها أو مآلاتها (مثل مفاوضات المسار الفلسطيني).

فإسرائيل تدرك أن ثمن السلام مع سوريا يتلخّص في انسحابها من كامل هضبة الجولان، وتدرك سوريا في المقابل أن إسرائيل تريد علاقات سلام كاملة معها، وعدم الممانعة في علاقات التطبيع والتعاون الشرق أوسطي.

أيضا لإسرائيل طموحات أبعد من ذلك، فهي تتوخى من سلامها مع سوريا إيجاد بيئة إقليمية أكثر أمنا، بمعنى أنها تأمل أن تؤدي نتائج التسوية مع سوريا، إلى تجفيف أو تخفيف علاقات سوريا مع كل من إيران وحزب الله في لبنان، وحركة حماس في فلسطين.

الإطار السياسي للصراع التفاوضي

لكن إذا كانت العملية التفاوضية بين سوريا وإسرائيل على هذه الدرجة من الوضوح، وحتى التوافق في معظم المسائل، فلم لم تأخذ طريقها إلى محطة التسوية؟ ويمكن إحالة هذا السؤال إلى البيئة السياسية المحيطة بالصراع على الشرق الأوسط، وإلى تطورات الأوضاع على الصعيدين الدولي والإقليمي.

في البداية، أي مع انطلاق عملية التسوية من مؤتمر مدريد 1991، استهلك المسار الفلسطيني الاهتمام الدولي والعربي لا سيما في عهد كلينتون.

وكان للتجاوب الفلسطيني مع الشروط الإسرائيلية، وعقد اتفاق أوسلو عام 1993 دور كبير في إيلاء المسار الفلسطيني كل الأهمية، على حساب المسار السوري، بدعوى أن إسرائيل لا يمكنها تحمّل مسارين في آن معا، وأن التسوية مع الفلسطينيين يمكن أن تضعف سوريا وتجعلها أكثر مرونة وقابلية للتعاطي مع الإملاءات التفاوضية الإسرائيلية بشأن الجولان.

في مرحلة ثانية، ومع مجيء إدارة بوش بدا أن الأوضاع تغيرت، فالبيئة الدولية والعربية وبيئة الصراع في الشرق الأوسط باتت مختلفة، إذ اندلعت الانتفاضة إثر فشل مفاوضات كامب ديفد، وبعدها اتجهت الأمور نحو التصعيد في عمليات المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، وقيام إسرائيل بالانقلاب على اتفاق أوسلو، ووقف مسار التسوية نهائيا، ومعاودة احتلال مناطق السلطة، وصولا إلى الانسحاب الأحادي من قطاع غزة 2005.

في هذه المرحلة اندلعت الحرب الدولية ضد الإرهاب، على خلفية التداعيات الناجمة عن الهجوم على واشنطن ونيويورك في سبتمبر/أيلول 2001، وشنت الولايات المتحدة حربين نتج عنهما احتلال أفغانستان والعراق 2002-2003.

ثم طرحت الولايات المتحدة مشاريع تغيير النظم السياسية في الشرق الأوسط، بدعوى نشر الديمقراطية وإصلاح النظم السياسية ومكافحة الإرهاب، وصولا إلى قيام “الشرق الأوسط الكبير“.

وفي تلك الفترة بات لبنان عرضة للاضطراب على خلفية تناقضاته الداخلية، والمداخلات الدولية والإقليمية، مما اضطر سوريا للخروج منه.

وفي العراق فشلت الولايات المتحدة في مشروع السيطرة عليه، وجعله نموذجا للتغيير في المنطقة، إذ بات مصدرا للتوتر، والاضطراب والانقسامات المذهبية والطائفية والإثنية، وصار من أهم دواعي التشكك في السياسة الأميركية، وإثبات فشل دواعيها وسياساتها.

فوق ذلك برزت إيران لاعبا إقليميا على غاية في الأهمية في الفضاء الشرق أوسطي، لا سيما بنفوذها القوي في العراق، وبامتداداتها في إطار قوى المقاومة، وبعلاقاتها الإستراتيجية مع سوريا.

وفي هذه الأجواء المضطربة من حول السياسة الأميركية حدثت حرب يوليو/تموز في لبنان 2006 التي فشلت فشلا ذريعا، وقوضت أسطورة الجيش الإسرائيلي “الذي لا يقهر” وبينت هشاشة قوة إسرائيل، في حال توفرت إرادة مقاومتها.

وما فاقم الوضع بالنسبة للولايات المتحدة هو أن الانتخابات الفلسطينية جلبت حماس إلى السلطة، وأضعفت فتح والقيادة الرسمية، وكان من تداعيات ذلك محاصرة الكيان الفلسطيني، ثم قيام حماس بالسيطرة على قطاع غزة 2007.

من هذا العرض يمكن الاستنتاج بأن المرحلة الماضية كانت مرحلة جد ساخنة، ولم تكن مرحلة تسويات، حيث اتخذت الإدارة الأميركية سياسة العداء ضد سوريا على طول الخط، بحكم النهج الذي تبنته في التعاطي مع ملفات الشرق الأوسط، لظنها بأن وسائل القوة والتهديد والابتزاز يمكنها أن تخضع المنطقة، أو يمكنها أن تفرض عليها إملاءاتها.

أما الآن فقد باتت هذه المعطيات مختلفة، لأن إدارة بوش تودع، والسياسة الأميركية الشرق أوسطية آلت إلى فشل في عدد من القضايا، وإسرائيل تبدو مهددة أكثر من ذي قبل بحروب غير تقليدية.

مفاوضات سوريا في الأجندة الإسرائيلية

هكذا يمكن الاستنتاج بأن إسرائيل هي التي تملّصت من عملية السلام مع سوريا بنكوصها عن “وديعة رابين” 1994، وتجميدها التفاوض في عهد باراك 1999-2001 بدعوى استغراقها في المسار الفلسطيني، ثم بدعوى انسحابها من جنوبي لبنان 2000.

أما في عهد شارون 2001-2005 فقد قطعت إسرائيل عملية التسوية برمتها، بسبب المواجهات مع الفلسطينيين، وتداعيات الحرب على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، وتغير البيئة السياسية والأمنية الدولية والإقليمية، إثر الاحتلال الأميركي للعراق 2003، وظهور مشاريع التغيير الأميركية التي عولت عليها لإيجاد أوضاع سياسية وأمنية أكثر ملاءمة لها من الناحيتين الإستراتيجية والمستقبلية.

وكما قدمنا فإن تعثر الترتيبات الأميركية في العراق، وفي عموم الشرق الأوسط، وظهور معادلات جديدة، على خلفية صعود نفوذ إيران الإقليمي، وتنامي تيارات الإسلام السياسي المقاوم (حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين) وفشل الهجمة العسكرية الإسرائيلية على لبنان في يوليو/تموز 2006، وتعزز أوراق سوريا الإقليمية، دفع إسرائيل إلى تغيير أجندتها في التعاطي مع سوريا.

وفي هذا الإطار يمكن ملاحظة أن إسرائيل اشتغلت على خطين الأول، التذرع بممانعة إدارة بوش لأي مفاوضات مع سوريا، خشية أن يفسّر ذلك بمحاولة فك العزلة التي تحاول هذه الإدارة فرضها عليها، والثاني، يتمثل في توجيه رسائل ذات مغزى لسوريا باتجاهين متناقضين.

أولهما يفيد بأن إسرائيل متنبهة لسوريا وأنها تستطيع كبح جماحها، وهو ما تم التعبير عنه بتوجيه ضربة لمنشأة في شمال شرق سوريا، واغتيال عماد مغنية، القيادي في حزب الله، في دمشق، وثانيهما، إرسال إشارات إلى سوريا مفادها أن إسرائيل معنية باستئناف التفاوض معها، والوصول إلى حل بشأن القضايا الخلافية.

وقد توج ذلك باستئناف المفاوضات عبر القناة التركية، على أساس أن إسرائيل تعرف ما تريده دمشق، وأن دمشق تعرف ما تريده إسرائيل، على حد تعبير رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت.

ويبدو أن الطرفين كانا بحاجة إلى مثل هذا التحول، لأسباب ذاتية وإقليمية، وللخروج من حال الاستعصاء السياسي الحاصلة، ووضع حد لسياسة مناخات الحرب، التي تعم المنطقة.

مع ذلك فإن إسرائيل كانت أحوج ما تكون إلى مثل هذه الخطوة، للأسباب التالية: أولا، كون أولمرت يواجه مصاعب في حكومته وفي حزبه كاديما، على خلفية إخفاق حرب لبنان، وشبهات الفساد المحيطة به، ومتطلبات التسوية النهائية، الصعبة والمقعدة، على المسار الفلسطيني.

ثانيا، اعتبار أن سوريا تمتلك مفاتيح السلام، وورقة تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، فحتى مصر التي تقيم معاهدة سلام مع إسرائيل، ترفض استئناف المفاوضات المتعددة الأطراف، ومؤتمرات التعاون الإقليمي “الشرق أوسطي” قبل حلحلة الجمود الحاصل على مسار المفاوضات مع سوريا ولبنان، وإيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية.

ثالثا، إن إنجاز تقدم ما على المسار السوري يمكن أن يصرف الأنظار عن استعصاء المسار الفلسطيني، فالمسار الأول أسهل بكثير من الثاني، كما أن المضي في المسار الثاني يصعّب الوضع على الفلسطينيين، خصوصا بعد التآكل الحاصل في مكانة القضية الفلسطينية عربيا ودوليا، ولا سيما على خلفية الخلافات الفلسطينية. رابعا، المراهنة على العوائد الاقتصادية المتأتية من عملية التسوية في إطارها الإقليمي.

خامسا، تراهن إسرائيل على أن التسوية مع سوريا ربما تتيح إيجاد بيئة سياسية وأمنية أكثر استقرارا واطمئنانا، وإن بشكل غير مباشر، لكونها ستؤدي إلى تغيير محتوى ومستوى علاقات سوريا مع إيران ومنظمات المقاومة في لبنان وفلسطين.

سادسا، إن التغير في التفاعلات الإقليمية يمكن أن يسهل على الإدارة الأميركية، ويحسن صورتها في المنطقة، ويساعد على تمرير ترتيباتها في العراق.

ميزات الصراع التفاوضي السوري الإسرائيلي

من ناحية أخرى فإن مختلف المؤشرات والتلميحات تفيد بأن عملية التسوية السورية الإسرائيلية ستكون صعبة، ولكنها برغم ذلك ليس من المتوقع أن تكون معقدة أو طويلة، إذا سارت الأمور بشكل هادئ في المنطقة، خصوصا وأن المفاوضات التي جرت بين هذين الجانبين في عهد باراك عام 1999 تم فيها الاتفاق على 80% من المواضيع.

وتتميز العملية التفاوضية بين الجانبين السوري والإسرائيلي، بأنها تنطلق من نقطة النهاية، أي أنها حددت مسبقا، الهدف (وهو الانسحاب الإسرائيلي الكامل من هضبة الجولان) وتركت التفاصيل للمفاوضات.

والميزة الثانية، أنها تتم على رزمة قضايا فإما اتفاق كامل أو لا اتفاق. أما الميزة الثالثة فهي أن النزاع هنا لا يتم على الأراضي كما حدث مع الفلسطينيين، وإنما على ترتيبات العلاقات الثنائية والتعاون الإقليمي وضمانات الأمن والجدول الزمني.

الميزة الرابعة هي أن الطرفين يعرفان مسبقا ما يجب عليهما عمله لإنهاء حال الحرب، والشروع في تأسيس علاقات عادية بينهما، بمعنى أن كلا منهما يعرف مسبقا الثمن الذي يجب عليه دفعه.

في زمن مضى كانت التسوية مع الفلسطينيين جد مهمة وضرورية لإسرائيل، بالنسبة لوضعها الداخلي ولتحسين صورتها الخارجية، ولفتح أبواب العالم العربي، لكن ثبت أن ذلك لم يكن كافيا، فالتسوية الإقليمية لا يمكن أن تتم من دون سوريا، أو موافقتها، بحكم وضعها الإستراتيجي الجغرافي، ومكانتها على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، فضلا عن أن التسوية مع الطرف الفلسطيني وصلت إلى سقفها بالنسبة للإسرائيليين، على ما يبدو.

وعلى الأرجح، وبناء على مآل المفاوضات السورية الإسرائيلية، فإن علاقات إسرائيل مع العالم العربي، ربما ستشهد أبعادا جديدة، من بينها انتهاء مرحلة الصراع العنيف التي شهدتها المنطقة، على خلفية الصراع العربي الإسرائيلي، وتراجع مكانة البعد الفلسطيني في تحديد العلاقات الإسرائيلية العربية.

لكن مع ذلك فمن المبكر الاستنتاج بأن عهد الاضطراب والحروب الصغيرة أو الكبيرة انتهى في الشرق الأوسط، لأن ما تفعله أو لا تفعله إسرائيل ومعها الولايات المتحدة يتوقف عليه الكثير.

__________________

كاتب فلسطيني
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى