مزالق الاستشراق
قراءة في كتاب مقالة في الإسلام “المبكّر”، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجا”
عدنان المنصر
كتاب الأستاذة آمنة الجبلاوي الموسوم بـ”الاستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، مقالة في الإسلام “المبكّر”، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجا”، هو في الأصل بحث جامعي ناقشته المؤلفة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في الحضارة العربية الإسلامية بالجامعة التونسية.يقع الكتاب في 232 صفحة من الحجم المتوسط (1) وقد ضمّ بالإضافة إلى المتن بعض الملاحق التي تساعد القارئ على الولوج إلى بعض المفاهيم المتناولة في المؤلف وكذلك عددا من المراسلات التي تمّت بين الأستاذة الجبلاوي ومايكل كوك، أحد المستشرقيْن الذين اشتغلت المؤلفة على كتاباتهما حول الإسلام المبكر.
في حوار مطول مع مجلة حقائق التونسية يعود إلى جويلية 1995 عدد المؤرخ هشام جعيط مكامن الخور في المنهج الاستشراقي الجديد الذي تمثله باتريسيا كرون بدرجة أولى، وخلص إلى التخوف من تأثيرها على أجيال الباحثين الشبان وهو تأثير يستند بالأساس إلى الإعجاب بطابع الاستفزاز الذي تعتمده عن طريق التشكيك في كل شيء يخص الإسلام والقرن الأول من تاريخه، أكثر من استناده إلى أي تناول علمي حقيقي. غير أن هشام جعيط وإن اعتبر أن إسقاط أبحاث كرون في الماء ليس بالأمر الصعب فإنه اعتبر الجهد البسيط المطلوب لذلك مضيعة كبيرة للوقت لا تضاهي القيمة الحقيقية لكرون وغيرها من ممثلي التيار الذي تنتمي إليه. في هذا السياق يبدو عمل آمنة الجبلاوي استجابة لحاجة معرفية في أوساط التاريخ والحضارة الإسلاميين، وهو حتما ليس مضيعة للوقت كما قال هشام جعيط، فالباحثة تتصدى بهذا الجهد لمهمة شديدة الخطورة تستحق أن يبذل كل جهد من أجل إنجازها. في مثل هذه الأعمال من الأفضل أن يتم الأمر بالطرق العلمية وبإتباع منهج بحث سليم، وهو ما تقوم به آمنة الجبلاوي.
قسمت المؤلفة عملها إلى بابين تناولت في الأول “مشاغل الباحثين” بما يعني المواضيع الأساسية التي اشتغل عليها كلّ من كوك وكرون، وهي أساسا أطروحتهما حول تشكّل الإسلام، أو ما يسمّيانه “بالهاجرية”، و”مسألة السياسة المبكّرة أو طبيعة النفوذ الدينيّ في القرن الأوّل للهجرة”، وقضية الاقتصاد المكّي وعلاقته بنشوء الإسلام. أمّا الباب الثاني فقد خصّصته المؤلّفة لتتبّع منهج الباحثين من جهة طبيعة نظرتهما لمصادر دراسة تاريخ الإسلام المبكّر وموقفهما من المصادر العربية، مع نقد مكثّف من طرف المؤلّفة لهذا المنحى تولّت خلاله فضح الهنات المنهجية وتبيان محدودية الاستفادة، موضوعيا، من المصادر التي اعتبر المستشرقان أنّها كافية لوحدها لدراسة إسلام القرن الأوّل.
يمثل كل من مايكل كوك Michael Cook وباتريسا كرون Patricia Crone اتجاها متمايزا عن الاستشراق التقليدي بالفعل، فقد اشتغلا، إمّا فرديا أو بصفة مشتركة، على مسائل وإشكالات مركزية في نشأة الإسلام بنظرة مختلفة عن الاتجاه التقليدي الذي يمثله لامنس Lamensأو وات Watأو لويس Lewisوغيرهم. يقوم إنتاج المستشرقين الأكاديمي على عنصر أساسي وهو إعادة التفكير في كثير من الإشكاليات بالاستغناء عن المصادر العربية، على أساس أنها لا تنقل صورة واقعية عن إسلام الجذور، بل وجهة نظر أطراف معيّنة أخضعت المصادر لانتظاراتها السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، وأنّ الحلّ الجذريّ يكمن في التعويل على مصادر “محايدة” أو “خارجية” كما يقول الباحثان مثل المؤرّخ البيزنطي بروكوبيوس وبعض البرديات والموادّ الأثرية والقصائد والأخبار اليونانية واللاتينية والعبرية والسريانية والقبطية والآرامية.
تتوقّف آمنة الجبلاوي عند هذه النقطة الأساسية في منهج المستشرقين كرون وكوك، لتؤكّد استحالة اعتبار هذه المصادر بريئة تماما أو على الأقلّ أكثر تجرّدا من المصادر الإسلامية، فهي “نابعة من شهادات من هم في موقع المنخرط في الصراعات الدينية والعسكرية والسياسية مع الحضارة الإسلامية، مما ينقص من براءة وموثوقية هذه النصوص ويدعونا إلى التريّث قبل الإسراع في التعامل معها بثقة لامحدودة” (ص150). يتناغم ذلك مع نقد الكثير من المؤرخين لمنهج المستشرقين المذكورين، حيث تقوم المسألة على منطق واضح لخّصه دانييل نورمانD.Nordman بالسؤال البسيط التالي : هل يمكن لدارس المسيحية أن يستغني بتاتا عن المصادر المسيحية على أساس أنها غير محايدة ويعتمد فحسب على المصادر “الخارجية” الأخرى؟
في الأصل، لا ينبغي أن يتعلّق الأمر هنا سوى بالمنهج العلمي، ولأنه ليس بإمكان المؤرخ أن يخترع منهجا جديدا في كلّ مرّة، فإن الانتقائية المنهجية تبدو أخطر أنواع الانتقائية العلمية على الإطلاق، إذ أنها تسقط الباحث في وحل الخصومات الإيديولوجية المتخمة بسوء الفهم المتعمد، وتنزل بالحوار العلمي إلى حضيض الجدل الديني والاستعلاء الثقافي. لا يمكن لمؤرخ يحترم اختصاصه ومنهجه أن يصف المسلمين، عندما يكونون موضوع دراسة علمية بأنهم “وكر لصوص” أو أن يقول إنّ زعيمهم، محمّدا، قد “رفع لديهم روح القتال والجشع القبلي إلى مرتبة الفضائل الدينية العليا”، إلى غير ذلك من الانزلاقات غير المبرّرة في عمل يدعي العلمية والتجرد. لا غرابة إذا أن يذهب فيكتور سحاب إلى القول بأن الأمر لا يتجاوز “تنفيس كرون عن مشاعرها حيال الإسلام ويظهر قوّة تأثير عواطفها الشخصية في إفساد تحليلها التاريخي إفسادا تامّا ينزع عنه أية قيمة مرجعية” (ص 172).
عندما يدعو الباحثان إلى اعتماد الأركيولوجيا في فهم تاريخ الإسلام الأول يفوت كليهما التأكيد على هزال المادة الأركيولوجية التي يعتمدانها، حيث يكاد الأمر يقتصر على بعض قطع العملة القديمة وبعض الحروف على عدد قليل من المعالم. لا تبدو التجريبية هنا ذات فائدة كبيرة، كما لم يصرّح مؤرّخون قبلهما بوجوب التطابق الكامل بين المواد الأدبية والأركيولوجية كشرط لتأكيد صحّة حادثة أو أثر. من الغريب أنّ المستشرقين يضربان صفحا كلّيا على المصادر العربية بدعوى تأخّرها عن ظهور الإسلام (الحديث خاصة وكذلك كتب الإخباريين) أو عدم إمكان اعتماد القرآن مصدرا لتاريخ الدعوة، في حين أن المنهج التجريبي يفترض، هنا، إخضاع هذه المصادر للنقد والتمحيص وليس الإلقاء بها كليا وبصورة باتة. يتعارض ذلك مع منهج المستشرقين السابقين الذين تميز عدد منهم بحسن الإطلاع على المصادر العربية وإتقان لغة العرب، وبغض النظر عما توصلوا إليه من نتائج فإنه لا يمكن اتهامهم بالجهل بالمصادر العربية. حتما ليس كل جديد ضمانا للجودة، بل إنه في هذا المجال بالذات، وباعتماد هذا المنهج الأعرج، يصبح سقوطا للعلم وللمنهج التجريبي الذي يدعى احترامه.
توجّه آمنة الجبلاوي نقدا شديدا لمنهج كوك وكرون وتؤكّد التنافر الكبير بين ما يقع ادّعاؤه من علمية وبين حقيقة الاختيارات المتبعة من قبلهما. وأوّل مزالق المستشرقين في هذا الخصوص هو “محاولة تطويع المادة التاريخية بحيث تتناسب والنتائج التي يريدانها”، على نمط سرير بروكوست الشهير. هل قلة الثقة في سلامة المادة المصدرية العربية هي ما يدفع المستشرقين حقا لعدم إيلائها العناية اللازمة؟ ذلك ما يصرح به كلاهما على الأقل لكنهما لا يحترمان مبدأ القرب الزمني دائما، فيستعملان مثلا مادة مسيحية تعود إلى القرن العاشر، بل لا يعدمان أحيانا العودة إلى المصادر العربية (التي وقع إقصاؤها بصفة مطلقة) إذا ما صادف أن وافقت افتراضاتهما. من الخطأ اعتبار المصادر “الخارجية” محايدة دائما، ففي هذا المثال بالذات أنتجت المصادر المسيحية في ظرفية من الصراع مع العالم الإسلامي، مما يدعو المؤرخ إلى مزيد الحذر منها باعتبار الأعداء مشغولين دائما بتشويه صورة بعضهم البعض. لا يمكن لمؤرخ يعتد بمنهجه أن ينكر هذا الميل الطبيعي للمصادر للانسياق في الصراعات، وأن يتجاهل ذلك في مجهوده لبناء تعامل نقدي مع المادة التي يشتغل عليها. بالموازاة مع ذلك تهوي بحوث المستشرقين المذكورين أحيانا عديدة في الإسقاط، تلك الخطيئة المنهجية الكبرى التي لا يجب على مؤرخ أن يقع في حبائلها، فلا يضيرهما القفز من قرن إلى آخر، ومن فضاء إلى آخر، والمساواة بين مصدر يتعلق بحضارة قديمة وبين مقال صحفي صادر بالسودان في عهد جعفر نميري…إلخ. (ص 183-186).
تذكر المؤلفة اعتراضات المستشرقين على أعمال باتريسيا كرون ومايكل كوك، وهي اعتراضات عديدة تطال المنهج كما النتائج التي توصّل إليها الباحثان، مما يجعل من كتاباتهما أعمالا تفتقر إلى مصداقية علمية كبيرة. المشكل أن كرون وكوك ينتقدان اعتماد المستشرقين الكلاسيكيين على المصادر العربية رغم النقد الذي كانوا قد وجهوه لهذه المصادر، بل إنهما في سعيهما المتسارع لتحطيم ما أتى به السابقون لا يهتمان بإنجاز بناء جديد، حيث لا تبدو المعرفة بالتاريخ الإسلامي لديهما نتاج عملية تراكمية بل تهديما متواصلا، وبعض بناء أحيانا ولكن على فراغ.
في مؤلفهما الأساسي المشترك، هاجاريزم Hagarism (أنظر تفكيك المؤلفة لهذا المفهوم في القسم الثاني من عملها خاصة) يمضي المستشرقان إلى اعتبار الإسلام نتاجا للجمع بين قيم يهودية وقوة بدوية همجية. في هذا الكتاب تتراكم نتائج كل الأخطاء المنهجية التي ارتكبها المؤلفان من إسقاط وتجاهل للمصادر العربية وتعويل في غير محله على أركيولوجيا فقيرة ونصوص “خارجية” بعيدة عن الزمن التأسيسي للإسلام زمنيا وجغرافيا. على العكس من المنهج العلمي المعتمد في الدراسات التاريخية الجادة، يعمد الباحثان إلى طرح جملة من الخلاصات حول تاريخ الإسلام والقرن الأول ثم يقومان بكل المحاولات الممكنة وغير الممكنة لإثباتها، ليستخلصا في النهاية أن الإسلام لا يعدو أن يكون “ثقافة شبه لقيطة لأنها أخذت من كل حضارة شيئا ما” (ص 47). تعتقد المؤلفة أن الأمر نتيجة طبيعية لخواء المنهج وانتقائيته، وتعبير واضح عن سيطرة الأفكار الخاطئة المسبقة على عمل الباحثين. في خضم الكتابة “العلمية” تلك، لا يتورع كل من كوك وكرون عن إلصاق التقييمات السلبية والذاتية بالمسلمين وبالثقافة العربية التي نشأ الإسلام في فضائها، فيرميان كل التعبيرات الثقافية العربية بالسطحية وانعدام المضمون. لا يجد المؤلفان في التراث الإسلامي الوجداني أدنى درجة من الرومانسية، ماعدا زغاريد النساء (هكذا)، لذلك فإن الإسلام لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة اليهودية أو المسيحية اللتين كانتا قابلتين للتطور (ص 56). كما يؤكد المستشرقان عجز الإسلام عن استيعاب التراث اليوناني بانتقاء الأمثلة والمرور السريع من الانطباع إلى التأكيد، كل ذلك مع حرية نظرية كبيرة يقدمان فيها أمثلة متباعدة في الزمان والمكان في تجاهل تام لوجوه الالتقاء بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى. يبدو الإسلام إذا تراكما لجملة من التأثيرات وسعيا عبثيا للتمايز عن اليهودية وبعض مذاهبها بالذات، ديانة “خشنة” محكومة بمحددات تطور ثقافية جينية تجعله عاجزا، بوصفه التعبير الأمثل عن الهمجية، عن أن يقدم شيئا ذا بال للثقافة الإنسانية.
تتناول الباحثة بالنقد والتحليل أيضا دراسة باتريسيا كرون حول الاقتصاد المكي وعلاقته بظهور الإسلام والذي حاولت فيه نقض النظرية الاقتصادية التي تقوم على اعتبار الإسلام نتاجا لوضعية اقتصادية مرتبطة بثراء النشاط التجاري المكي وكذلك بأزماته، وهي النظرية التي قامت عليها تحليلات وات، وخاصة لامنس. لا يبدو أن كرون معنية بتنسيب الأحكام السابقة أو بتعويض المعطى الاقتصادي بمعطى آخر أكثر صمودا أمام النقد، وإنما بنقض مكة واقتصادها من الأساس، حيث تعتبر اعتماد الدراسات الاستشراقية السابقة على المصادر العربية نقيصة تسمح بتجاوزها تماما، لتصل في النهاية إلى أن التجارة المكية أكذوبة كبرى، وأن مكة لم تكن مفترق طرق التجارة، وأن البضائع المتبادلة بين المكّيين وغيرهم لا تبرر الحديث عن نشاط تجاري حثيث، بل إنّ مكة التي يتحدث عنها المسلمون، وكذلك المستشرقون، ليست هي مكة المعروفة اليوم، وإنما قد تكون القدس الحالية، فكل ما وصلنا عن مكة لا يعدو أن يكون في نظرها سوى نتاج للخلط مع أماكن أخرى، وتضخيم متعمّد مصدره الشوفينية العربية. في خضم ذلك تحطم كرون، في تجاهل تام لدراسات بالغة الجدية حول المسألتين، فكرة الحرم وكذلك معنى الإيلاف، وقد ذهبت الدراسات السابقة إلى اعتبارهما من أهمّ عوامل الأمن الميسّر للنشاط التجاري في مكة ولريادة دورها الاقتصادي في الجزيرة العربية. تتعجّب آمنة الجبلاوي من انطلاق كرون هنا، وفي كل المواضع الأخرى، من “أطروحات ثابتة ونتائج محدّدة” وتحاملها على هذه الفترة باتباع سلوك انطباعي وتبني “عدائية محيرة” تجاه موضوع بحثها (ص 118-119).
يبدو من العسير، في هذا المجال المحدود، تتبع كل النقاط التي تثيرها المؤلفة في سياق تفكيكها للخطاب الاستشراقي كما يبدو من خلال كتابات كوك وكرون، غير أن ما نرمي التأكيد عليه هو بالأساس الخواء المنهجي الذي وسم أعمال المستشرقين المذكورين والذي جعلت منه آمنة الجبلاوي نقطة الارتكاز الرئيسية في دراستها. الكتاب متخم بالأمثلة عن المزالق المنهجية لهذا التيار الاستشراقي الجديد، وهو من هذه الناحية يمكن اعتباره رصدا علميا لظاهرة الخلط والإسقاط التي تسم أبحاث بعض المتصدين لدراسة القرن الأول من تاريخ الإسلام. من الهام التأكيد هنا على الإضافة الثابتة التي قدمها الاستشراق الأوروبي في فهم جوانب من تاريخ الإسلام كظاهرة تاريخية وتعبير ثقافي وسياسي عن هوية في طور التشكل في القرن الأول، وبغض النظر عن كون الخلاصات التي انتهت إليها الدراسات الاستشراقية الجدية قد صدمت في أحيان عديدة معتقدات المسلمين في تاريخ طهوري نقي ومستقر، فإنها قدمت منهجا علميا يعتد بمعظمه في الأوساط الأكاديمية. غير أن القضية تكمن، في أحد جوانبها، في ميل الاستشراق الأنجلوسكسوني الجديد، في النموذج الذي يقدمه كل من كوك وكرون علي الأقل، إلى نقض الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والأطروحات التي تضمنتها بضربة مكنسة وحيدة، لمجرد اعتمادها كجزء من مصادر البحث، على الآثار الكتابية العربية. هل يعوض ذلك الإقصاء تجريح النصوص ووضعها تحت مجهر النقد العلمي بالنسبة لمؤرخ يفترض أن يكون له نوع من البرود الأدنى تجاه موضوعات بحثه؟
تشير المؤلفة إلى تشابه بين التمشي الذي يتبعه الاستشراق الجديد، ممثلا هنا بكوك وكرون، وبين ذلك الذي ينتهجه الخطاب السلفي حول الإسلام الأوّل، فالخطاب السلفي يعتبر نفسه الحامي الوحيد للحضارة الإسلامية من زيف “التحريف” المنطلق من “نوايا خبيثة”. بالموازاة مع ذلك يعتبر الخطاب الاستشراقي الجديد “وصيّا” على الحقيقة التاريخية ومحتكرا لها (ص 164). في الحالة الأولى يمثّل الإيمان الدافع الأساسيّ لسلوك يتعارض في أحيان عديدة مع الموضوعية التاريخية، أما في الحالة الثانية فإنّ ادّعاء العلمية الأخرق يغطي على فراغ المنهج وعدم استناده إلى مقاييس تناول أكاديمي رصين. وبالفعل فإنّ التمجيد من منطلق إيماني، مثل التحطيم من منطلق استعلائي، لا ينتجان إلا حالة متشابهة من التنكر للموضوعية التاريخية العلمية.
إنّ المعارضة الكلية والتامّة لنتائج البحث الاستشراقي في تاريخ الإسلام يبدو نتاج سلوك وثوقيّ غير علمي يستقي شرعيته من الرغبة في الاحتفاظ بصورة معيّنة عن تاريخ الإسلام، بغضّ النظر عن واقعيتها بالمقارنة مع ما يفترض أن يكون حقائق علمية تثبتها البحوث. غير أنّ اعتبار كلّ العمل الاستشراقي إضافة يعتدّ بها في فهم تاريخنا لمجرّد أنها تزعزع معتقداتنا لا ينبع هو الآخر من سلوك أقل مرضية وخواء. في السياق ذاته فإن تمجيد الماضي، وهنا القرن الأول، لاعتبارات إيديولوجية مرتبطة بتوازنات معينة حكمت توزيع السلطة بين الفرقاء التاريخيين وتفاعل الديني مع السياسي على أرضية قبلية، ليس أقل مجلبة للاتهام بانعدام العلمية والموضوعية من تحطيم التاريخ الإسلامي كله بمسح القرن التأسيسي من التاريخ والإلقاء به في مرتبة الخرافة المفتعلة، لاعتبارات تفضح نفسها بالإسقاط والتحامل والموقف الثقافي الاستعلائي. تقول آمنة الجبلاوي في خاتمة دراستها أن كلا من كوك وكرون، بكثرة انتقائهما الأمثلة من حاضر الإسلام والقفز عبر القرون دون منطق علمي إنما كانا “يكتبان تاريخ القرن السابع بهواجس القرن العشرين ويجيبان عن أسئلة الماضي بما يوافق حاجات الحاضر” (ص 196)، وهي خلاصة تؤكّد من خلالها المؤلفة ما ذهب إليه إدوارد سعيد من ارتباط جزء من البحث الاستشراقي بحاجيات إستراتيجية معيّنة لدى قوى مثل الولايات المتحدة. “هل هناك من يقين في ما يؤمن به المسلمون اليوم؟” (ص 147) لا يبدو في هذا السؤال الذي يطرحه المستشرقان أيّ استفزاز من الناحية الموضوعية، ولكنه يفضح منهجا ويعرّي الاعتبارات الثقافية والإستراتيجية والسياسية التي يبدو أنها تتحكم في جانب معتبر من إنتاجهما الأكاديمي حول تاريخ القرن الأول. هذا القرن “سرق من تاريخنا” وحل محله “الفراغ” كما تقول آمنة الجبلاوي، غدا كأنه لم يكن، وكأنه “كخرافة عديمة الجدوى” (ص 188).
هذا الكتاب هام لأنه تفكيكيّ لا يتناول الخطاب الاستشراقي من منطلق العداء أو الإعجاب، بل يخضعه إلى المنهج العلمي الصارم، لذلك فهو من الكتب التي يجب أن تقرأ بعناية كبيرة. ورغم أن درجة التكثيف فيه كبيرة، وهذا متوقّع باعتبار طابعه الأكاديمي، فإنّه متاح أمام المنشغل بالإشكالات التي تثار حول تاريخ الإسلام والصراعات التي تندلع من حين إلى آخر بمناسبة أو دون مناسبة كلما تعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، بل وبالثقافة العربية الإسلامية في بيئتها الثقافية والجيوستراتيجية الراهنة. هذا الكتاب ينبغي أن يقرأ، لأنه كان ينبغي أن يكتب، وقد كتب.
هامش:
1- وذلك في طبعته الأولى الصادرة عن دار المعرفة للنشر بتونس (2006)، وفي 248 صفحة في طبعته الثانية الصادرة عن دار الجمل (2008)، ونشير هنا إلى أننا سنعتمد في ذكر الإحالات على الطبعة الأولى