الثابت والمتحوّل ” في المفاوضات الإسرائيلية السورية
رنده حيدر
عودة المفاوضات غير المباشرة بين سوريا واسرائيل بعد توقف استمر اكثرمن ثمانية أعوام طرح على الإسرائيليين أكثر من علامة استفهام حول مغزى توقيت هذا الإعلان على الصعيدين الداخلي والإقليمي، وما الجديد الذي يمكن ان تسفر عنه المفاوضات الدائرة حالياً.
بالنسبة الى الداخل الإسرائيلي كان من الصعب عدم الربط بين الضغوطات التي يتعرض لها رئيس الحكومة ايهود أولمرت نتيجة التحقيقات التي يخضع لها بتهمة حصوله على أموال كبيرة من أحد الأثرياء اليهود من أجل تمويل حملته الإنتخابية وعودة الحياة الى المسار السوري. ورأى خصوم أولمرت بصورة خاصة في اليمين في هذه الخطوة محاولة لتحويل الأنظار والإنتباه عن مسار التحقيق الجنائي الدائر مع أولمرت ليستنتجوا من ذلك أن شخصاً متهماً بالفساد لا يحق له اتخاذ قرار مهم بالمضي في عملية تاريخية تمس كل الشعب الاسرائيلي مثل التسوية السلمية مع سوريا.
واشتد الجدل بين المؤيدين لهذا الموقف ومن يرى العكس ويعتبر خضوع أولمرت للتحقيق لا يتعارض مع المصلحة الاسرائيلية البعيدة الأمد في التوصل الى تسوية مع سوريا تستطيع أن تلجم النفوذ الإيراني في المنطقة وتضعف تأثيرها وتحجم مساعداتها الضخمة لكل من “حماس” في غزة و “حزب الله” في لبنان. ويرى هؤلاء أن الاتهامات الموجهة الى أولمرت لا تمس جوهر المصالح المشار اليها. والثابت أن من يستخدم حجة عدم صلاحية أولمرت للدخول في التفاوض مع سوريا لا يناقش الدوافع السياسية والأمنية ولا الإستراتيجية التي دفعت باسرائيل الآن الى الإعلان عن عودة المسار السوري مما يضعف كثيراً من حجتهم. كما يبدو أن هذا الفريق يؤجل حملته على المفاوضات مع سوريا حتى تكتمل الاستعدادات التي يقوم بها حالياً المعارضون للإنسحاب من الجولان والتخلي عن الهضبة واعادتها الى سوريا. وفي الواقع فإن عودة المفاوضات لم تأتِ بصورة مفاجئة وانما هي حصيلة جولات من الاتصالات السرية وعملية جس النبض بين الجانبين بدأت منذ حرب تموز عام 2006 عبر شخصيات غير حكومية الى جانب وساطة تركية نشطة بين الجانبين، كما أن الإعلان عن عودة التفاوض أتى بعد فترة شهدت الكثير من التوتر بين البلدين بصورة خاصة بعد إقدام اسرائيل على قصف منشأة سورية نووية في أيلول الماضي تزايد خلالها الكلام على مواجهة عسكرية صاروخية بين البلدين كانت ستكلفهما ثمنا باهظاً وستكون نتيجتها الحتمية عودة التفاوض بينهما.
النقطة الثانية الأساسية التي تشغل بال الاسرائيليين هي مدى صدق نيات الرئيس السوري بشار الأسد في التوصل الى سلام مع اسرائيل والى أي حد يمكن العملية السلمية والتفاوضية أن تجعله يتنكر للحلف العسكري الذي يجمعه بإيران من جهة ويتخلى عن تأييده المطلق للتنظيمات المعادية لإسرائيل وعلى رأسها “حماس” و”حزب الله”. وهم يتساءلون ما اذا كانت العودة الى المفاوضات تهدف الى فك العزلة الدولية والعربية المفروضة على سوريا و التخفيف من الضغوطات الدولية ومن الإتهامات التي تلاحق النظام السوري بالتورط في إغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري.
ولكن ما لا يجري الكلام عنه اليوم بوضوح في اسرائيل هو مدى احتمال قبول الإسرائيليين بالتنازل عن الجولان رغم كل الكلام الذي يُنقل عن المفاوضين من الطرفين أن معظم المسائل الخلافية جرى التوصل الى حل لها ، وأن التسوية السلمية مع سوريا أقرب من التسوية مع الفلسطينيين.
والراهن اليوم أن هناك اقتناعاً اسرائيلياً أثبتته الوقائع والأحداث وهو أن تجاهل المسار السوري خلال الأعوام الماضية لمصلحة الاهتمام بالتسوية مع الفلسطينيين لم يثمر عن شيء لا على الصعيد الفلسطيني ولا على الصعيد الإقليمي، لا بل على العكس فتح الباب واسعاً أمام دخول ايران الى المنطقة، وأدى استخدام سوريا نفوذها على المنظمات مثل “حماس” وسائر التنظيمات الفلسطينية الى إضعاف السلطة الفلسطينية وارباكها وصولاً الى طردها من القطاع وتهديد سلطتها حتى على الضفة الغربية.
كما ان الانسحاب الأحادي الذي نفذته اسرائيل من جنوب لبنان في أيار عام 2000 لم ينجح في تثبيت الهدوء على الحدود الشمالية لإسرائيل ولا في وضع حد لنشاط “حزب الله” اللبناني بل على العكس أدى الدعم اللامحدود من سوريا وايران للحزب الى تعزيز قواه العسكرية و ترسانته الصاروخية، وأتت حرب تموز عام 2006 لتكشف مرة أخرى مدى تعاظم نفوذ ايران العسكري في المنطقة في وقت اعتبرت اسرائيل أنها في معارك الصيف المذكور كانت في مواجهة عسكرية غير مباشرة مع ايران خرجت منها مهزومة.
تحمل المفاوضات بين سوريا واسرائيل هذه المرة بعض الملامح الثابتة التي طغت على المفاوضات السابقة التي جرت بين الطرفين أيام الرئيس السابق حافظ الأسد وهي التي تعود الى كل ما يتعلق بحدود الإنسحاب وبالجدول الزمني وبطبيعة العلاقات بين البلدين والترتيبات الأمنية ومصير المستوطنات؛ وهذه كلها موضوعات جرى الإتفاق على العديد من تفاصيلها في الجولات التفاوضية السابقة أيام الأسد الأب والسرية أيام الأسد الإبن. ولكن الجديد ربما في المفاوضات الدائرة حالياً دخول إيران بقوة كلاعب أساسي ومقرر في العديد من المشكلات التي تعانيها اسرائيل وبصورة خاصة سلاح”حزب الله” في لبنان والدعم الإيراني اللامحدود لحركة “حماس” في غزة. فلم تعد سوريا وحدها تقدم الغطاء لهذه التنظيمات وإنما لإيران دور محوري ولا يمكن عزل هذا كله عن مشكلة السلاح النووي الإيراني الذي يشكل التهديد الأكبر على أمن اسرائيل، ويأتي في أعلى سلم اولوياتها الأمنية.
إن التوصل الى اتفاق سلام بين اسرائيل وسوريا ليس أمراً سهلاً وسريعاً حتى لو كان ممكناً. فثمة قيود كبيرة تكبل كل حكومة اسرائيلية قد تقدم على اتفاق سلام مع السوريين مثل ضرورة اخضاع هذا الإتفاق الى استفتاء عام من جانب الرأي العام الإسرائيلي، أو الدعوة الى انتخابات مبكرة. هذا ناهيك بالجبهة العريضة للإحتجاج على الانسحاب من الهضبة التي يجري التحضير لها من جانب اللوبي المؤيد للبقاء في الجولان. وتدل تجربة الماضي أنه كثيراً ما كاد الاسرائيليون والسوريون يتوصلون الى اتفاق لكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح نتيجة خوف المسؤولين الاسرائيليين على مواقعهم السياسية وتلكؤهم عن مواجهة الضغوط التي قد يمارسها المعارضون للإنسحاب عليهم وعلى مستقبلهم السياسي كما كانت حال ايهود باراك عام 2000 عندما تراجع عن التزامه بالإنسحاب الكامل من الجولان خوفاً من فقدان إئتلافه الحكومي.
أكثر من عقدة ستظهر على طريق المفاوضات السورية – الاسرائيلية ، ومما لا شك فيه أن حلها يتطلب وقتاً وجهداً. ولكن ذلك لم يمنع ملاحظة المعلقين الإسرائيليين لمجموعة من الأمور التي جرت في الأسابيع الأخيرة ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض مثل أن يسبق الإعلان عن اتفاق الدوحة بين الأفرقاء اللبنانيين مقدار ساعة عن الإعلان عن معاودة المفاوضات غير المباشرة بين سوريا واسرائيل، واستمرار المساعي المصرية للتوصل الى تهدئة بين اسرائيل وحركة “حماس”. وهم يتابعون باهتمام كبير ردود الفعل الإيرانية على نبأ عودة التفاوض والكيفية التي ستتصرف بها ايران مع سوريا في المرحلة المقبلة كي يقوّموا حجم الجدية السورية في التفاوض معهم.
النهار