تــركــيـــا وادارة الأزمـــة: كــفـــاءة مشهــــودة
بقلم مصطفى اللباد
شكلت أزمة “اسطول الحرية” قبالة سواحل غزة نقطة مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط عموماً وتاريخ العلاقات التركية – الإسرائيلية خصوصاً، ومرد ذلك أن الأبعاد الأعمق لهذه الحادثة تتجاوز بكثير الرقعة الجغرافية المحدودة التي وقعت فيها، وبحيث لن يعود الشرق الأوسط إلى التوازنات التي كان عليها قبل الأزمة. صحيح أن المنطقة اعتادت على إرهاب الدولة الإسرائيلي في مرات تستعصي على الحصر، وصحيح أيضاً –للأسف- أن عمليات الإرهاب والقرصنة الإسرائيلية مرت دوماً مرور الكرام؛ ولكن يوم القرصنة على “أسطول الحرية” الموافق 31 ايار 2010 سيظل على العكس من كل وقائع القرصنة السابقة يوماً مشهوداً في تاريخ المنطقة.
لم تنتهِ الأزمة بعد، ولا يتوقع أن تنتهي في أسابيع قليلة حتى، بالنظر إلى الأهداف العميقة التأثير التي تسعى تركيا لتحقيقها. أظهرت تركيا كفاءة مشهودة في إدارتها لأزمة “أسطول الحرية” حتى الآن، ونجح رموز الدولة التركية الكبار: رئيس الدولة عبد الله غول، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو في رص الصفوف التركية الداخلية وتثبيت الحضور الإقليمي لدى أوسع الشرائح والقطاعات العربية وهي أهداف تحققت إلى حد كبير بالفعل. أما الأثمان التي تسعى الديبلوماسية العامة التركية إلى تحصيلها في مواجهة دولة الإحتلال الإسرائيلي فمازالت على طريق التحقق وأهمها: تشديد الحصار الدولي على دولة الاحتلال الإسرائيلي ونزع أوراق قوتها التقليدية: دعم الرأي العام الدولي وتأييد واشنطن.
تغيرت البيئة الإقليمية وتوازناتها في الشرق الأوسط مرات كثيرة على مدار تاريخ المنطقة الطويل، ولكن قدرة الأطراف على قراءة التغير بشكل عميق، ومن ثم رسم سياسات تستثمر هذا التغير، قد تباينت دوماً. وإذ دفعت تركيا بالدم ثمن عودتها إلى المنطقة، فإن التوازنات الإقليمية لا تتغير مع ذلك بالدم وحده، ولكن بإدراك الأهداف وإمكانية تحقيقها عبر استثمار عناصر القوة وتحييد أوراق الخصم وفق رؤية مركبة تلحظ التغيرات في مكونات المشهد الإقليمي وتغير بوصلة التحالفات الدولية، وهو ما تفعله تركيا باقتدار في إدارتها للأزمة.
لم تكن العلاقات التركية – الإسرائيلية منذ عام 1949 ثابتاً استاتيكياً بقدر ما كانت تعبيراً عن اصطفاف إقليمي-دولي في مواجهة اصطفاف دولي أوسع، فقد اعترفت تركيا كأول دولة إسلامية بإسرائيل باعتبار ذلك من موجبات التحالف التركي-الأميركي، الذي استهدف أساساً مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق والذي شكلت جغرافيته تهديداً تاريخياً للأناضول على مدار عقود مضت. ومع انضواء تل أبيب تحت المظلة الأميركية أثناء الحرب الباردة، فقد ترسخت العلاقات التركية – الإسرائيلية في مواجهة تحالف دولي وبالاصطفاف في معسكر تحالف آخر. ولكن مع سقوط الاتحاد السوفياتي السابق فقد تغيرت الديناميات التي تربط تركيا بإسرائيل لتصبح معادلة العلاقات متمثلة في قوتين واقعتين في شرق المتوسط تتشاركان في خاصتين محددتين هما: السقف الدولي الواحد، ومجاورة كلتيهما لنفس الدول العربية المعادية (سوريا والعراق). لذلك فقد استمرت العلاقات التركية-الإسرائيلية على وتيرة عالية، ولكن ليس باعتبارهما جزءاً من تحالف دولي في مواجهة تحالف آخر. ومع احتلال العراق عام 2003 بدعم وتأييد اللوبي الصهيوني في واشنطن، تغيرت التوازنات في المنطقة مرة أخرى، حيث خرجت تركيا والدول العربية خاسرة جراء ذلك الاحتلال، في حين حيدت تل أبيب الرقم العراقي في ميزان القوة العربية الشاملة؛ بعد أن جعل ذلك الاحتلال الجبهة السورية محرومة من عمقها البشري والجغرافي والعسكري. ومع تبدل الموازين أكثر في المنطقة وصعود النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة وانفتاح سوريا على تركيا، لم تعد تركيا محاطة بدول معادية مثلما كانت في السابق، وبالتالي انهار ركن أساسي في القواسم المشتركة لكل من تل أبيب وأنقرة.
كبحت المنطلقات الأساسية حزب “العدالة والتنمية” من تطوير العلاقات التركية – الإسرائيلية وترافق ذلك مع التغير في الديناميات التي تتحكم بهذه العلاقات، بحيث أصبح الابتعاد التركي عن إسرائيل ملبياً للمصالح التركية العليا وليس لمصالح حزب “العدالة والتنمية” فقط، كما تدعي أبواق الدعاية الصهيونية. ورتب ذلك خطاً واضحاً لإدارة الأزمة مع تل أبيب، فالصورة التي روجتها دولة الاحتلال الصهيوني لأزمة “أسطول الحرية” مفادها أن هؤلاء “الناشطين الإسلاميين يسعون لدعم منظمة إرهابية بتأييد من الحزب الحاكم في تركيا”. وإذ ضمت القافلة ناشطين أتراكا وعرباً وأوروبيين ينتمون لكل الأديان ومن مشارب أيديولوجية متنوعة، فقد وفر ذلك أرضية مناسبة لتركيا كي تحيّد الدعاية الإسرائيلية. لذلك كانت كلمة رئيس الوزراء التركي في البرلمان ناجحة بكل المقاييس، حيث وضعت إسرائيل على مقعد الاتهام وكالت لها أوصاف تستحقها ولكنها وفي كل الأحوال فصلت بين العمل الإرهابي الذي حدث من جانب الحكومة الحالية وبين “معاداة السامية”، حيث ذكّر أردوغان بمواقف تركيا الواضحة في إدانتها. وصب في السياق ذاته تصريح إسحاق هاليفي كبير حاخامات تركيا المؤيد للخطوات التي اتخذتها حكومة بلاده، وهو ما أكد عليه أردوغان من أن “اليهود الأتراك هم جزء من شعبنا يرفض ما تعرض له إخوانه على يد القرصنة الإسرائيلية”.
وإذ طالب أردوغان الشعب الإسرائيلي بأن ينتفض على حكومته، فقد سدد ضربة موجعة لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة بحيث حرمها من حشد الرأي العام الداخلي وراءها. ومع نزع أوراق التشهير من يد الدعاية الصهيونية فقد كان مشتركاً بين كلمة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو في مجلس الأمن وكلمة أردوغان في البرلمان تنويع مروحة المطالب التركية بين مطالب تكتيكية مثل الإفراج عن المعتقلين ونقل الجرحى وتعيين لجنة تحقيق دولية في الحادثة، ومطلب يحمل طابعاً استراتيجياً وهو رفع الحصار عن قطاع غزة. وتسمح هذه المروحة لتركيا بأن تعقّد مهمة الخصم، بحيث يبقى على أهبة الاستعداد لتلبية المطالب التكتيكية ويكون محاصراً في الوقت ذاته بهدف فك الحصار، وهو ما سيكون انتصاراً مدوياً لتركيا وهزيمة كبيرة لتل أبيب. ويقدم التنويع في المطالب مزية إضافية لتركيا، بحيث تصبح الاستجابة لمطالبها التكتيكية تحصيلاً لأثمان سريعة، وهو ما يدعم الموقف التركي أكثر فأكثر في الحصول على أوسع تأييد دولي ممكن.
تبقى العقدة الاساسية أمام تركيا للوصول إلى هدفها الإستراتيجي الكبير (عزل تل أبيب وتحييدها) متمثلة في واشنطن، لأن تركيا حيدت بمهارة ودقة الرأي العام الدولي الذي تعرف إسرائيل كيفية التلاعب به، أما ورقة واشنطن فهي أعمق تأثيراً وأقل تأثراً بالرأي العام، وأكثر أثراً على المصالح الأميركية في المنطقة. هنا بالتحديد تبدو الحسابات التركية صائبة تماماً في التأثير على خيارات واشنطن. صحيح أن أميركا عرقلت، عبر مندوبها في مجلس الأمن، خروج الأخير بقرار يدين إسرائيل بوضوح. وصحيح أن واشنطن لم تؤيد تماماً تركيا في مطالبها في مواجهة إسرائيل، ولكن الصحيح أيضاً أن الإدارة الأميركية أصبحت أكثر استعداداً لتقبل فكرة رفع الحصار عن غزة وهو تطور لافت. والأكثر صحة أن واشنطن أصبحت تدرك حاجتها إلى تركيا أكثر بكثير عما قبل. تحتاج واشنطن إلى تركيا لتأمين انسحابها من العراق، وتعتاز اميركا أنقرة في الملف النووي الإيراني، مثلما تريد دورا تركياً في تحسين صورة أميركا في المنطقة، وكلها أمور فائقة الأهمية لإدارة أوباما ولا تستطيع إسرائيل أن تفعل فيها أي شئ في الواقع. في هذا السياق يمكن فهم التقويم الأخير لمدير الموساد الإسرائيلي مائير داجان أمام لجنة الكنيست: “انحدرت القيمة الاستراتيجية لإسرائيل في العيون الأميركية وتحولت من شريك استراتيجي لواشنطن إلى خصم من قدراتها”.
سمح تزعزع القدرات العربية في مواجهة إسرائيل، للأخيرة بهامش مناورة أكبر في علاقاتها مع واشنطن، فأخذت تضغط عليها في الملف النووي الإيراني، وعندما لم تستجب واشنطن لتل أبيب في توجيه ضربات عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، راحت تل أبيب توسع المستوطنات في القدس الشرقية كوسيلة لابتزاز واشنطن الساعية إلى خلق “عملية سلام” تخدم صورتها في المنطقة، أكثر من سعيها إلى سلام حقيقي قابل للاستمرار لأنه سيتطلب الاصطدام أكثر بتل أبيب. كل ذلك لم يكن ليحصل لو كان هناك توازن عربي-إسرائيلي في الحد الأدنى.
تأسيساً على ذلك أصبحت مهمة واشنطن صعبة في التأثير على حليفيها، لأن هامش المناورة التي يمتلكها الطرفان التركي والإسرائيلي أصبح أكبر مما كان عليه من قبل، وبالتالي مهمة واشنطن أصبحت أصعب كثيراً في كبح جماح أي منهما. لذلك حاولت إدارة أوباما استهلاك الوقت وإمساك العصا من المنتصف في النزاع التركي – الإسرائيلي الأخير، ولكنها ستضطر إلى الاختيار إن عاجلاً أم أجلاً، والخيار يبدو واضحاً من الآن: تركيا!. هنا بالتحديد المغزى الجيوبوليتيكي الأعمق لحادثة “أسطول الحرية”، وهنا بالتحديد الخسارة الحقيقية لإسرائيل أمام تركيا لأن تل ابيب لم يعد لديها مروحة من الاختيارات مثلما كان وضعها منذ عام 1948 وحتى 31 ايار 2010، بل خياراتها محدودة جداً في الواقع. توقف أردوغان في خطابه التاريخي أمام البرلمان التركي قبل نقطة قطع العلاقات بين تركيا وإسرائيل مباشرة، لأن قطع العلاقات سيحرر تل أبيب من ضغوط تركية أكثر في هذه المرحلة، لذلك ستستمر العلاقات التركية-الإسرائيلية على الأرجح، ولكن تركيا لم تعد شريكاً إستراتيجياً لإسرائيل، ناهيك عن أن اسرائيل لم تعد الشريك الأول لواشنطن في المنطقة. ستستمر الأحداث في التوالي على مدار الاسابيع المقبلة، ولكن الإطار الأوسع لمتابعتها سيظل واحداً: المزيد من عزلة إسرائيل إقليمياً ودولياً بالترافق مع صعود تركي متواصل.
( مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة)
النهار