الباشا العثماني!
أمجد ناصر
حتى وقت قريب لم أكن أعرف تركيا أكثر مما يعرفها قارىء الصحف العربية. وقارىء الصحف العربية لا يعرف الكثير عن تركيا مذ خرجت من عباءة الشرق. ربما يعرف العرب، كتاباً وقراء، أزمنة ‘الباب العالي’ وخلفاءه أكثر مما يعرفون زمن أتاتورك الذي يخيم على تركيا منذ نحو قرن. فقد أصبحت تركيا عدواً منذ زمن بعيد. القوميون والتقدميون العرب هم الذين شكلوا صورة تركيا ـ العدو، فيما حاول الاسلاميون، بشيء من لي عنق التاريخ، رسم صورة أخرى لتركيا الخلافة. أما تركيا المعاصرة، تركيا أتاتورك، فيكرهها الاسلاميون والقوميون والتقدميون والليبراليون العرب سواء بسواء. يكرهها الاسلاميون لأنها ‘علمانية’، ويكرهها القوميون لأنها ما زالت تحتل لواء اسكندرون، ويكرهها التقدميون لانها وقفت الى جانب البندقية الامريكية في كل حروبها في المنطقة وقمعت حق شعوبها في تقرير مصيرها (الأكراد تحديداً)، ويكرهها الليبراليون لأن العسكر يسيطرون على مقاليدها من وراء ستار.
لكن هذه تركيا ‘القديمة’.
نحن اليوم أمام تركيا ‘جديدة’.
كيف حصل ذلك؟
كيف انتقلت تركيا من خانة ‘الاعداء’ إلى خانة ‘الأشقاء’؟
وهل ستستمر هذه التركيا على النحو الذي نراه اليوم؟
‘ ‘ ‘
واضح أن تركيا ‘الجديدة’ ليست وليدة لحظة غضب استبدت بطيب رجب أردوغان في مؤتمر ‘دافوس’، ولا هي بوجود رفيقه عبد الله غول على رأس الجمهورية، ناهيك عن أن تكون ثمرة المسلسلات المدبلجة التي تكاد تقضي على الدراما التلفزيونية العربية (السورية خصوصاً). فهذه، كلها، تجليات لتغيرات على أرض الواقع.. ذلك الواقع الذي لم نكن نعرفه جيداً ولا بذلنا جهداً في سبيل معرفته، فقد ظللنا أسرى صورة ‘نمطية’ راسخة رسمناها لتركيا. بعض ملامح هذه الصورة حقيقي وبعضه من صنع الايديولوجيا.
تركيا أردوغان بدأت قبل أردوغان. علينا أن نتذكر نجم الدين أربكان وحزبي ‘الفضيلة’ و’الرفاه’. فمع مجيء أربكان الى السلطة، في انتخابات ديمقراطية، بدأت تظهر على السطح مظاهر ‘التغير’ في الشارع التركي. أعني حقيقته الفعلية. فلم يكتشف الأتراك الاسلام وواقعهم ‘الشرقي’ مع أربكان ولكن مجيء ‘أبو الاسلاميين’ الأتراك الى السلطة رفع الغطاء عما كان يمور تحت النظرة الصارمة لصورة أتاتورك التي ‘نمَّطت’ تركيا وجعلتها تبدو في عيون كثيرين مجتمعا منبت الجذور، مرتمياً، بالكامل، في حضن الغرب البارد. فصراعات الهوية والانتماء، الشرق والغرب، الماضي والحاضر، لم تتوقف في تركيا، على ما يبدو، مذ اتخذ قرار ‘غربنتها’ على يد أتاتورك ونخبته التي حكمت البلاد على مدار نصف قرن أو أكثر. فقد كانت هناك تركيتان، على الأغلب: تركيا الدولة (العلمانية المنخرطة في ‘الناتو’ والحرب الباردة) وتركيا الناس الذين لم نكن نسمع صوتهم ولا نعرف الكثير عما يفكرون به ويصبون إليه. ما حصل، بعد ارتخاء القبضة الأمنية وتراجع التهديد ‘الشيوعي’، أننا صرنا نسمع أصداء متقطعة لما يجري في الشارع التركي، إلى أن رأينا تعبيراته السياسية ‘المفاجئة’ ممثلة في أربكان أولاً، ثم الخارجين من عباءته كطيب رجب أردوغان وعبد الله غول وغيرهما من زعامات ‘حزب العدالة والتنمية’.
لكن كل ذلك لم يغير كثيراً في نظرتنا إلى تركيا التي حكمها تاريخ مشترك مالت كفته الى ‘الباب العالي’ وليس الى الشعوب العربية التي بسط عليها ظله الطويل المتراخي.. كان ينبغي أن يحدث تماس ساخن بيننا وبين الأتراك في خصوص قضيتنا العربية الأولى: فلسطين، وأن يتكرر هذا التماس مرة وأخرى.
‘ ‘ ‘
لم يكن سهلاً علينا تجاوز التاريخ وتراكماته. فمن قرأ أدبيات الثورة العربية الكبرى على مقاعد الدرس صعب أن ينسى ما فعله جمال باشا السفاح. صعب، كذلك، على الباحث عن أسباب التخلف العربي أن لا يرى خمسة قرون من الحكم العثماني الذي لم يترك وراءه سوى نفر قليل من الذين يقرأون ويكتبون في المشرق العربي، كما لم يكن سهلاً على من يرى القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية أن ينسى العلاقات التركية الاسرائيلية التي وصلت الى درجة التحالف العسكري الاستراتيجي.
تلك أسباب صنعت كراهية تركيا عندنا ورمت حجاباً عازلاً بيننا وبينها.
ولكن ذلك الاستسلام الى درس التاريخ ومكر الواقع لم يكن من مصلحتنا.
كان يتوجب علينا أن نعرف تركيا وأن نعمل على تغيير علاقتنا بها. فهي قوة أساسية في مصائر المنطقة ولم يكن طبيعياً أن تظل مجهولة من لدننا، وغير معنية بقضايانا. إن لم يكن ذلك لكسب ودها فعلى الأقل لتجنب ‘شرورها’. لا يد لنا، والحال، في ‘تغير’ تركيا. لم نفعل ذلك ببترولنا وبحسن دبلوماسيتنا. تركيا هي التي فعلت. وهي التي رأت أن مصلحتها تكمن في توطيد علاقتها بمحيطها بعد طول مماطلة من الاتحاد الاوروبي. وها هي الوقائع المتتالية تقول إن تركيا تغيرت على نحو يصعب رده الى الوراء.
حدث هذا قبل جريمة ‘اسطول الحرية’، وقبل موقفها الحازم من حصار غزة، وقبل الصفعة التي وجهها أردوغان الى شمعون بيريس في مؤتمر ‘دافوس’ (بحضور أمين عام جامعة الدول العربية الذي صفق له ولكنه لم يغادر كرسيه!). هناك سلسلة من التغيرات في السياسة التركية هي، كما أشرت، انعكاس لتغيرات في الواقع التركي نفسه. بمعنى أن التغير التركي في الموقف من قضايا العالم العربي لم يحدث في المواقف السياسية لحزب أو زعيم سياسي (رغم أهمية مواقف الأشخاص) بل حدث في الواقع، وربما في أولويات هذا الواقع وخياراته، فبدل التطلع، كلياً، إلى جهة اوروبا التي لا تزال تصدها، صارت هناك مصلحة تركية فعلية في إعادة الاعتبار للجغرافيا والتاريخ. وأي اعادة اعتبار للجغرافيا والتاريخ تعني المزيد من الانفتاح على المحيط.
‘ ‘ ‘
يبدو أن تركيا كمال أتاتورك تضمر وتتراجع رغم النظرة المحدقة لـ ‘الذئب الأغبر’ التي تُطل من صوره ‘الخالدة’ في كل المناسبات، حتى لتشبه صور آباء الماركسية في العالم الاشتراكي الآفل. هناك تركيا أخرى اليوم. تركيا التي تتحسس موقعها في الشرق، رغم عدم انقطاعها عن مغازلة الغرب، تركيا التي تحاول أن تنأى عن التحالف مع اسرائيل الذي بدا كأنه مصمم لإغاظــــة العرب الذين وقفوا ضدها في الحرب العالمية الأولى، تركــــيا التي لم يستطـــع قرن، أو أقل قليلا، من الأتاتوركية الشرسة أن يخرجها من جلدها تماماً.
أخيراً.. لايضاح أهمية تركيا في المصائر العربية (غير قضايانا السياسية) أريد التذكير ببداهة منسية: هناك بلدان عربيان كبيران هما سورية والعراق يمكن لهما أن يموتا عطشاً إن أغلقت تركيا، أو حوّلت، أو قننت، المياه التي يشربانها ويرويان بها أرضيهما. فمن نكد الدنيا على العالم العربي أن شرايين المياه الرئيسية التي تديم حياته تنبع من خارج أرضه!
القدس العربي