تركيا لا تحرّكها إلا تركيا
امين قمورية
منذ ان حولت انقرة “رياح السماء” الاسرائيلية التي هبت على السفينة التركية “مرمرة”، رياحا لدفع اشرعة سفنها السياسية المتقدمة في الشرق الاوسط، وتحول رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان “فارسا عربيا” جديدا، كثرت الاسئلة عن الدور التركي المستقبلي وعما وراء الاندفاعة التركية القوية في المنطقة، وما اذا كانت لمصلحة القضية الفلسطينية ام ان الدور التركي بعد الدور الايراني سيكون على حساب الدور العربي.
وايران التي ابتعد ملفها النووي عن الواجهة السياسية اثناء الازمة الجديدة، حضرت بقوة في النقاشات العربية الدائرة وشكلت محور الاسئلة ومحركها : هل يكون الدور التركي الجديد عامل توازن مع الدور الايراني الذي يسبب وجع رأس لبعض العرب، ام يكون عامل لجم له يمكن ان يريح المنزعجين؟ وهل تتحول فلسطين والعراق ودول اخرى ساحات صراع بين الايرانيين والاتراك ام ان الجانبين سيملآن الفراغ العربي ويتقاسما النفوذ في الارض الخلاء؟
في الاساس، لم تتوجه الانظار التركية جنوبا لردع النفوذ الايراني الذي توسع بزخم شرقا حتى بلغ غزة وبيروت. فانقرة لا تحركها الحسابات الايرانية بقدر ما تحركها حساباتها. فبين خياري هنتغتون ان تكون تركيا زعيما في الشرق الاوسط او ان تكون شحاذا على الابواب الاوروبية، حتما فضلت الخيار الاول بعدما اغلقت في وجهها الابواب الاوروبية. ثم ان انسحابها التدريجي من تحالفها العسكري مع اسرائيل الذي فرضته ظروف الحرب الباردة والحسابات الباردة للضباط الكبار، املته عليها رغبة شعبية عارمة لدى غالبية من الاتراك لايزال يحركها الوجدان والتدين والارتباط العاطفي، او حتى الديني بالقدس.
عامل آخر فرض على تركيا الا تغيب انظارها عما يحدث جنوب حدودها وشرقها، فتركيا جزء من هذا النسيج الشرق الاوسطي المتنوع، مايصيبه يصيبها وامراضه امراضها، فان تفشت لاتردعها حدود ولا مضادات حيوية. وفي ظل اختلال المعادلات والتحولات الكبرى التي اعقبت احتلال العراق وتسعير الجدل الطائفي وتفشي النزعات الانفصالية، لايمكن انقرة ان يهدأ بالها بعزل نفسها عما يجري حولها، وتاليا يتعين عليها المبادرة الى اخذ زمام الامور والتفتيش عن حلول مبكرة حتى لاترتد انعكاسات سلبية عليها. وهكذا كان لابد من مبادراتها في العراق وكردستان ولبنان والمشاركة في “اليونيفيل” والوساطة بين سوريا واسرائيل وبين ايران والمجتمع الدولي، والاهم في فلسطين التي تبقى مفتاح كل المشكلات.
بعد ذلك تأتي حسابات المصالح الداخلية المحضة الاقتصادية والانتخابية. ولمَ لا؟ فشعبية اردوغان بعد الهجوم على سفينة “مرمرة” لم ترتفع فقط في الشارع العربي، بل ارتفعت اولا في الشارع التركي استنادا الى الارتباط العاطفي بفلسطين ليس الا.
وأخيرا تأتي حسابات العامل الايراني وانفلاشه في الشرق الاوسط.
بين تركيا وايران قواسم مشتركة بمقدار ما هناك من خلافات واختلافات. لكن الضرورات تفرض في كثير من الاحيان التناغم بدلا من التصادم واعطاء الاولوية للمشترك على حساب المختلف عليه من دون ان تلغيه. فالدولتان تلتقيان في كثير من المواقف وتتنافسان في كثير من المواقع مثلما يحدث بين اي دولتين صديقتين. فايران وسوريا ايضا تلتقيان على الكثير وتختلفان على الكثير، وكذلك مصر والسعودية.
والنهج التركي الذي يغلب الحوار والانفتاح على التصادم والانغلاق الحزبوي والطائفي، يعقلن الاندفاعة الايرانية التي “تزعج” البعض وربما يحد من جموحها، لابل قد يشجع على خيارات سياسية جديدة ولا سيما في ما يتعلق بقضية فلسطين والسلام في الشرق الاوسط. فبعدما كان الخيار بين نهجين فقط: المهادنة الكاملة لاسرائيل او الممانعة المعزولة والمحاصرة، اعادت “اساطيل الحرية لغزة ” الاعتبار الى النضال السلمي، واخرجت “انتفاضة حماس” من العسكرة والعزلة الى افق ارحب.
اما غياب الدور العربي فمسألة اخرى يسأل عنها العرب أنفسهم وليس تركيا.
النهار