نظرة متعاطفة إلى مأزق تركي راهن
ياسين الحاج صالح
ما كان لتركيا أن تغدو قوة إقليمية فاعلة في السنوات الأخيرة إلا لأنها حققت قفزات كبيرة على مستوى النمو الاقتصادي والديموقراطية وحكم القانون في السنوات الخمس عشرة الأخيرة. وما كان لهذه القفزات ذاتها أن تتحقق لولا أن تركيا كانت في صف الرابحين في الحرب الباردة وعضواً في التحالف الغربي. وهذا أيضا يعود إلى خيارات فكرية وسياسية حاسمة كانت انحازت لها نخب تركية، يرمز لها مصطفى كمال أتاتورك، في السنوات اللاحقة للحرب العالمية الأولى. وهي خيارات تمخضت عن بناء دولة قومية حديثة نسبياً، تقوم أساساً على العنصر التركي المسلم السني، وإن دون مراعاة لمضامينه المعيارية.
وبعد قيامها بعام واحد أقامت تركيا علاقات لم تنقطع مع إسرائيل، ما رسخ روابطها الغربية وأوهن علاقاتها مع عالم عربي مضطرب، بعد وهن سابق يعود إلى ملابسات الانفصال العربي التركي بمحصلة الحرب العالمية الأولى.
في المحصلة، لدينا دولة قومية حديثة، عتبة تماهيها بالغرب السياسي والحضاري منخفضة، تمكنت من توسيع فضائها السياسي الداخلي بفاعلية، ومن رفع حجم اقتصادها (السادس عشر عالمياً) ومتوسط دخل الفرد فيها. وبنيتها الحديثة هذه أتاحت لحزب ذي هوى إسلامي أن يحكمها منذ نحو 8 سنوات، ليس دون أن يهدد بنيانها القومي العلماني فقط، وإنما أن يرسخه ويظهر اتساع طاقته الاستيعابية، فضلا عن إسهامه في تعزيز حكم القانون ودفع النمو الاقتصادي إلى الأمام.
وفي الوقت نفسه طورت تركيا دوراً نشطاً في محيطها، توسلت فيه «القوة الناعمة»، مستهدية برؤية تقضي بتصفير المشكلات مع دول الجوار.
وطوال السنوات الثماني الأخيرة كان الدور التركي بالغ الإيجابية في العالم العربي. أولاً كمثال ثقافي لبلد مسلم كبير، يحقق بثبات تقدماً متكاملاً. وثانياً كقطب إقليمي يضمن وجوده بحد ذاته موازنة للثقل الإسرائيلي في المنطقة، وكذلك تخفيفاً للاستقطاب الإسرائيلي الإيراني، وأيضاً للاستقطاب بين محوري «الممانعة» و «الاعتدال» العربيين. هذان الدوران البنيويان يسبقان في الأهمية دوراً ثالثاً، سياسياً، تمثل في مواقف تركية منفتحة على قضية فلسطين وأكثر مخاصمة لإسرائيل واعتراضاً على استثنائيتها وعنفها الدائم.
بلغ هذا الدور الأخير ذروة أولى في مؤتمر دافوس مطلع العام الماضي حين أغلظ رئيس الوزراء التركي القول للرئيس الإسرائيلي ثم انسحب من المؤتمر، وتسنّم ذروة أعلى بكثير في سلسلة المواقف المعلنة التركية بعد جريمة الاعتداء الإسرائيلي على «أسطول الحرية» في اليوم الأخير من الشهر الماضي.
لكن سرعان ما أخذ يبدو أن تركيا في مأزق، متولد عن تعارض أفعالها السياسية الجسورة مع وضعها التاريخي البنيوي، المتمثل في توجه ثقافي وسياسي وغربي (عضوية في حلف الأطلسي، تطلع إلى الانضمام للاتحاد الاوروبي، تشكُّل وفق نموذج الدولة الأمة الغربية…). تضعها أفعالها في خصومة بلغت اخيراً حد العداوة مع إسرائيل، محبوبة الغرب المدللة، بينما هي بنيوياً غربية الوجهة، والوجه.
ترى في أي اتجاه يحتمل أن يحل هذا التعارض؟ إذا كان سليماً ما قلناه، فوقُ، من أن شرط تنامي النفوذ والدور التركي في المنطقة هو البنية القومية الحديثة للدولة التركية غير المنفصلة عن روابطها الغربية العريقة، فإن على تركيا أن تكيّف أفعالها السياسة مع مقتضيات هذا الوضع التاريخي البنيوي، المحدد بموقعها الجغرافي أيضاً. وهو ما يقتضي أن تعمد إلى تهدئة نزاعها الحالي مع إسرائيل، وإن دون تفريط بكرامتها كدولة قومية فخورة. هذه معادلة ليست صعبة جداً. وربما عليها يتوقف مصير حزب العدالة والتنمية الذي يمكن أن تنقلب حظوظه بحدة، داخلياً ودولياً، بفعل بلوغ انخراط تركيا تحت قيادته في صراعات المنطقة عتبة المساس بوضعها الأساسي (التاريخي البنيوي). وقد يتبدى أن الرؤية الخاصة بصفر من المشكلات في محيط تركيا، وبخاصة الخزان الشرق أوسطي الذي يعج بأجيال من مشكلات متراكبة، مشكلة هي ذاتها. شرط إمكان رؤية أحمد داود أوغلو هذه هو أن يكون لدى تركيا رصيد كاف من «القوة الخشنة» ومن الوزن الاقتصادي. والحال، إن تركيا قوية فعلا على الصعيدين العسكري والاقتصادي، لكن ليس إلى درجة مراجعة جذرية لوضعها الأساسي. هذا فضلا عن أن قوة تركيا لا تنفعها في مواجهة إسرائيل، نظراً إلى أن جذر القوة التركية هو الروابط الغربية للبلد، وفي هذا تتفوق عليها إسرائيل كثيراً. وهنا أساس مأزق الحكومة التركية الحالي. فإما يقتضي تصفير المشكلات حياداً إقليمياً من قبل أنقرة، وإلا عليها أن تتخلى عن التصفير، مع بقائها ملتزمة بوضعها الأساسي. وفي ما خص الصراع العربي الإسرائيلي بالذات، يُلزمها هذا الوضع بحد ذاته بأن تكون أقرب إلى الحياد.
تبدو رؤية داود أوغلو أكثر رومانسية من أن تكون مناسبة في بيئة قاسية مثل الشرق الأوسط. فإما تتخلى تركيا عن تلك الرؤية أو تتخلى عن الشكل الراهن لدورها في هذا الإقليم.
أما تغيير وضع تركيا التاريخي البنيوي أو الأساسي، أي بنيانها القومي الحديث وروابطها الغربية، فلا يمكن تصوره نظراً لتشكل تركيا طوال نحو قرن حوله، ورسوخه الثقافي والمؤسسي فيها. ولا يبدو على كل حال أن أحداً في تركيا اليوم يفكر في هذا الخيار جدياً أو يرغب فيه. الحمد لله.
ولعلها لذلك مضطرة إلى تراجع هادئ، وربما مراجعة مجمل سياستها الشرق أوسطية بعد أن تهدأ الأعصاب.
ولا ينبغي أن يكون مستغرباً أن ننحاز إلى هذا الخيار، الذي يتضمن أيضاً محافظة تركيا على علاقاتها الإسرائيلية. قبل كل شيء لأن تركيا دخلت في نزاع مع قوى حقود وقادرة جداً على الإيذاء. ليس إيذاء حزبها الحاكم فقط، وإنما إيذاءها كبلد وربما إرجاعها سنوات طويلة إلى الوراء. ثم لأن انخراط تركيا الإقليمي الراهن يتجاوز قوتها الفعلية التي يشكل الانتساب إلى حلف الأطلسي حسماً منها في السياق الشرق الأوسطي وليس سنداً لها. هذا فوق أننا نجد في تركيا التي تتقدم وتحل مشكلاتها الداخلية وتوسع داخلها الوطني، وتكون قوة استقرار في محيطها، رصيداً محتملا لتقدمنا على المدى الأبعد. هذا التقدير الأخير مبني على افتراض أرضية ثقافية متقاربة بيننا، العرب والأتراك. فلم لم نستند إليها لتزكية سياسات تركية أكثر تباعداً عن الغرب ومواجهة مع إسرائيل، واستندنا بدلا منها إلى فكرة ملتبسة عن وضع أساسي، تاريخي وبنيوي، لتركيا، يجمعها بالغرب؟ هذا تساؤل يحتاج إلى تناول مستقل.
خاص – صفحات سورية-
تعليق واحد