الوطن الأم… الوطن الجديد
زين الشامي
عندما يتسنى للمواطن العربي فرصة السفر إلى دولة أجنبية، أو العيش لأعوام طويلة في دولة غربية نظامها ديموقراطي، بسبب العمل أو التحصيل العلمي، فإنه وحالما يرجع إلى بلده فسرعان ما سيبدأ في عقد مقارنات بين ظروف العيش بين ذلك البلد الأجنبي أو الغربي وما بين وطنه الأم، مع كل أسف غالباً ما تكون النتائج مخيبة لأن بلداننا العربية تسير من سيئ إلى أسوأ. لا بل ان بعضهم يسعى بكل صبر وبكل ما أوتي من صبر وجلد وحيلة للحصول على جنسية تلك الدولة الأجنبية، كأن يتزوج من أجنبية، أو يبقى لأعوام معينة حيث تتطلب منه القوانين ذلك، وحين وصوله إلى تلك اللحظة، يشعر كما لو أنه خلق من جديد!
روى لي صديق عربي يحمل الجنسية الأميركية أنه حين يزور بلده يفكر في العودة بسرعة وبعد أيام قليلة إلى الولايات المتحدة لأن: «الأوضاع لا تطاق وكل شيء يمشي بالخطأ، لا يوجد قوانين، هناك فساد في كل مكان، هناك ازدحام في الطرقات، تلوث، عشوائيات كثيرة، وأوضاع الناس في الويل، أنا لا أعرف كيف اتدبر اموري البسيطة التي استطيع تدبيرها في الولايات المتحدة في دقائق معدودة، فأنا لا أستطيع دفع فاتورة هاتف أو كهرباء طول اليوم، ولا أستطيع أن اقود سيارة، الناس كلها تشكي… لذلك لا أصدق متى أرجع إلى وطني الولايات المتحدة. واعذرني لأني أقول ان الولايات المتحدة وطني وليس بلدي».
لا يختلف ما قاله صديقي العربي الأميركي عما قاله الكثيرون من العرب ممن التقيهم وكان لهم فرصة السفر أو العيش في دولة غربية. أحدهم أخبرني عن تفاصيل حياته اليومية في احدى الدول العربية قبل أن يسافر ويقرر عدم العودة أبداً إلى وطنه الأم. روى لي أشياء وصفها بالتفاصيل العادية واليومية ولم يكتشف أنها هي من شوهت شخصيته وذهبت بأجمل أيام عمره إلا حين تسنى له العيش في دولة أوروبية، بعد ان تسنى له الزواج من بلجيكية، وهو يعيش معها إلى اليوم في سعادة وحب ووئام.
يقول صديقي: «تخرجت في الجامعة بمعدل جيد، كان والدي يضع كل أماله علي لأني أكبر اخوتي، لذلك اصررت على التحصيل العلمي لأنني من أسرة فقيرة لا خيار ولا فرصة لأبنائها سوى العلم، لكني وما أن تخرجت من الجامعة حتى توفي والدي، وبعد أيام قليلة وصلني بلاغ من شعبة التجنيد العامة لالتحق بالجيش والقوات المسلحة، يعني أن اترك أسرتي التي تنتظرني دون معيل، فكان علي أن اقرر، ومن الطبيعي أن أقرر ألا أذهب إلى الجيش وابقى لمدة عامين دون دخل وأترك أسرتي، كان من حسن حظي أني تعرفت خلال أعوام دراستي الجامعية على (ايفا) التي هي زوجتي الآن، كانت في بلدنا تتعلم اللغة العربية، وخلال فترة وجودها هناك نمت بيننا مشاعر إنسانية وعاطفية، ذات يوم التقيتها ووجهي كان مكفهراً وحزيناً، سألتني عن السبب فقلت لها كل شيء وشرحت لها ماذا يعني أن أذهب إلى الجيش وأترك اسرتي دون معيل، فما كان منها إلا أن سألتني إذا كان بمقدوري السفر معها الى بلجيكا والاستقرار والعمل هناك، ثم مساعدة أهلي بما يتيسر لي بعد أن أحصل على فرصة عمل».
ثم يشرح لي صديقي كيف أنه تحايل على القوانين حتى يتم تأجيله من الخدمة العسكرية ويحصل على جواز سفر، وكيف أن «ايفا» عرفته، حين وصلا، على أهلها الذين يقيمون في ضاحية قرب بروكسل، وكيف استقبلوه وعاملوه كواحد من ابنائهم.
يقول صديقي: «هناك عرفت ماذا يعني أن تعيش في بلد حر وديموقراطي، هناك شعرت أني انسان ذو كرامة، هناك توقف خوفي، نعم توقفت عن الخوف، فأنا قبل سفري، كنت أخاف من كل شيء، من الشرطي في المخفر، من عناصر الأمن التي أشعر بوجودها حولي في كل مكان، خصوصا حين كنت في الجامعة، كنت أخاف أيضاً من هاتفي النقال لأن العديد من الطلاب من أصدقائي تم استدعاؤهم إلى فروع الأمن، أو تم سجنهم بسبب مكالمات هاتفية، ومنهم بسبب تصفحهم الانترنت. حتى أني وقبل سفري قررت ألا أتكلم مع أحد أو ألتقي مع أحد، استسلمت (لايفا) وكل ما تقوله، ولم أصدق أني سأغادر معها وأنجو من الخدمة العسكرية لأعيش في بلد اوروبي».
ثم يتذكر صديقي طفولته في الدولة العربية التي نشأ فيها: «كان المعلم في المدرسة الابتدائية يملك عصا غليظة وكان يضربنا بها لأتفه سبب، وحين أعود إلى البيت كان أبي يصفعني لأتفه سبب، كان هناك الكثير من الواجبات المدرسية، وكان علينا أن نحفظ عن ظهر غيب الكثير من قصائد الشعراء في العصر الجاهلي عن ظهر قلب رغم أننا لا نفهم شيئاً مما يقال، كذلك النصوص الدينية، وأقوال الزعيم الخالد والمنطلقات النظرية للحزب، وما حصل في المؤتمرات القطرية والقومية… والويل للمقصر. لكني أنظر اليوم الى التعليم هنا في بلجيكا، فأرى الأطفال يعاملون بمنتهى الرقة والاحترام، توجد ألعاب ووسائل ترفيه في المدارس، والمعلمون لا يفرضون عليهم عشرات الفروض المدرسية اليومية، وترى التلميذ هنا يفكر ويناقش ويجادل ويقول رأيه، أما انا فلا أذكر أني قلت رأيي ولو مرة واحدة طول فترة شبابي ودراستي في بلدي، هل تعرف لماذا، لأنه لا أحد سألني عن رأيي في شيء».
ويختم صديقي: «قبل أن أسافر بيومين ودعت أمي واخوتي وكانت الدموع تنهمر من عيني مثل الأطفال، لأني كنت أعرف أني لن أرجع أبداً، واليوم ورغم شوقي لهم جميعاً، فإني لا أتخيل أبداً كيف اني عشت في بلدي كل تلك الأعوام، اليوم أشعر أن بلجيكا هي بلدي ويهمني كل شيء فيها وأنا معني بكل شيء، لا بل أحب كل شيء فيها، وللأسف لا يوجد ما أحبه في بلدي سوى أهلي وأصدقائي».
كاتب سوري
الراي