طيب تيزيني: الاستبداد الرباعي يحاصر العرب
حاوره وحيد تاجا
المصدر: اسلام اون لاين
يعتبر الدكتور “طيب تيزيني” أحد أهم المفكرين والفلاسفة ليس على صعيد الساحة السورية فحسب وإنما على صعيد الساحة العربية والعالمية، وقد كان أول مفكر سوري يتم تكريمه في مصر بصفته من أهم الفلاسفة العرب الذين يحملون مشروعا فكريا، كما انتخبته ألمانيا كأفضل فيلسوف عربي عام 1998. وقد أصدر ما يزيد عن عشرين كتابا.
“إسلام أون لاين” التقت المفكر الكبير “طيب تيزيني” وحاورته حول أهم المواضيع الثقافية والفكرية الراهنة، خاصة حالة الهجرة والاغتراب التي يعاني منها المواطن العربي، ومشكلة الاستبداد الرباعي الذي يلخص مشهد المعاناة، حيث احتكار السلطة والثروة والإعلام والحقيقة، وما استتبعه ذلك من يأس كبير جعل مرتكزات النهضة البشرية ليس لها من سبيل إلا أن تهجر الواقع المعيش.
وتحدث تيزيني في حواره عن قضية صدام الحضارات، وكيف أن هذه النظريات خضعت لتوظيف سياسي ومصلحي أجَّج المشكلات بين الشرق والغرب، كما أكد أن الغرب ليس غربا واحدا ولكنه يحمل قدرا من التنوع الكبير.
الهجرة إلى السماء
* هل يمكن بداية رسم صورة للواقع العربي اليوم؟
– في سؤالك هذا مدخلٌ إلى كل شيء، فما أشتغل عليه الآن يدخل في نطاق مقولة أصبحت جزءًا من عملي الراهن وهي: (الحطام العربي) عمقًا وأفقًا.. فهو حطام شامل نال كل قطاعات المجتمع إضافة إلى أنه أوصل هذه القطاعات إلى نقاط معقدة.
* وكيف نستطيع تجاوز هذا الحطام القائم؟
– أستطيع القول إننا إذا لم نجب على سؤالك هذا في مرحلتنا الراهنة فإننا لن نستطيع أن نجيب عنه أبدًا، نحن الآن في مرحلة انعطافية قد تقودنا إلى البقاء أو الخروج من التاريخ نهائيًا؛ فالزمن التاريخي في مرحلتنا الراهنة بدأ يتقلص على نحو مذهل؛ فما كان ينجز خلال خطة تنموية تمتد لخمس سنوات مثلا ينبغي الآن أن ينجز في خلال ثلاثة أشهر، بمعنى أن المهمات التاريخية أمام العالم العربي لم يعد إنجازها محتملا إلا لزمن قياسي، وإلا فإنَّ هذا الوطن سوف يُقْتَلَعُ، بل أستطيع القول إنَّ عملية الاقتلاع قد بدأت فعلا مع سقوط بغداد قبل خمس سنوات؛ إذ في اليوم التالي على سقوط بغداد وقف كولن باول محذرًا سوريا وإيران أن تتقنا الدرس البغدادي، ولكن يبدو أنَّ دمشق وغيرها من العواصم العربية لم يتقنوا بعد هذا الدرس، ولكن ومن موقع نظري شديد الحساسية أقول إن عملية الاقتلاع بدأت فعلا لأنها لم تثر ردود فعل كان عليها أن تكتسب سمتين اثنتين كبريين هما، أولا: رد الفعل الوطني والقومي (الإجماع العربي)، وثانيًا: التهيئة للرد.. والمقصود تهيئة عملية مؤسسة على مجتمع سياسي، وعلى تكنولوجيا متقدمة وعلى مراكز أبحاث، لكن لا هذا تم ولا ذاك؛ وما زالت عملية التحذير ق
ائمة.. لكن مع ذلك أقول لم يغلق التاريخ العربي وفي ظني لن يغلق أبدًا ما دام هناك إنسان واحد يقول: لا.
*وما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع برأيك؟
– قد نعود في سبيل ذلك بعض الزمن إلى الوراء خصوصًا إلى مرحلة الاستقلال، هذه المرحلة كانت حاسمة بالنسبة إلى سوريا، وهنا آخذ سوريا نموذجًا للمسألة، ففي هذه المرحلة الاستقلالية ظهرت استحقاقات أخرى أمام القوى السياسية، التي حققت بقدر أو بآخر استقلالها الوطني، ولكن الذي حدث أن هذا الاستقلال لم يحم البلاد كما يجب؛ إذ إنَّ الاستعمار الفرنسي والقوى الأجنبية الأخرى استطاعت في مرحلة قريبة وسريعة أن تعود ثانية إلى سوريا وتحكم القبضة شيئًا فشيئًا على الاقتصاد وعلى حقول متعددة منها: الثقافة والتعليم العالي إضافة إلى المؤسسات العلمية، وهذا بدوره أوجد حالتين:
الأولى: تمثلت بتشجيع القوى العسكرية (الجيش الوطني) أن يدخل الساحة الاجتماعية والسياسية لاعتقاده أن هذه الساحة فارغة من القوى القادرة على إنجاز المهمات، ولذلك نلاحظ أنه بعد فترة وجيزة من تحقيق الاستقلال بدأ الجيش يتحول باتجاه الحياة المدنية معتقدًا أنه سيكون قادرًا على تحقيق ما لم تنجزه قوى سياسية غائبة في الأساس، وشيئًا فشيئًا تبين أن هذا الجيش أخفق في مهماته الجديدة، بل وتحول إلى عبء على الحياة الوطنية والاجتماعية حيث سمي بالجيش الأيديولوجي أو الجيش العقائدي، وبهذا المعنى لم يعد جيشًا قادرًا على إنجاز مهماته.
ثانيًا: بدأت الانقلابات التي انتهت بالدعوة إلى الوحدة مع مصر وكان الشرط الأساسي الخطير لذلك أن تنتهي الحياة الحزبية في سوريا لتدخل الحياة الوحدوية، ولكن تم استبقاء الاتحاد الاشتراكي، الشيء الطريف والمعقد أن حزب البعث في حينها وافق على ذلك ووقع على الوحدة بحيث تحولت سوريا شيئًا فشيئًا إلى بلد خالٍ من الحياة السياسية والثقافية.
لم يستمر الوضع طويلا مع مصر، فقد كان متوقعا أن مجتمعًا دون حراك سياسي أو ثقافي سوف ينتهي بطريقة أو بأخرى.. وقد انتهى فعلا بطريقة الانقلاب مرة أخرى.
يأتي السبب الثالث، وهو بمثابة قطف ثمار السببين السابقين، فقد خلق هذا الوضع أرضية خصبة لتأسيس دولة من نمط جديد هي (الدولة الأمنية).
* هل يمكن إيضاح هذه النقطة بشكل أكبر؟
– من يريد أن يفهم ما يحدث في العالم العربي والإسلامي لابد أن يميز بين مصطلحين: الأول هو البنية الاجتماعية الخفية والبنية المعلنة.
العقود السابقة التي ساد فيها ما أسميه «الاستبداد الرباعي» وهو استبداد يتأسس على الاستئثار بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالحقيقة.
وعبر هذه العقود التي ساد فيها هذا الاستبداد الرباعي ساد أيضًا نمط من الصمت والرعب ونشأت أنماط عديدة من الثقافة لم تكن معروفة في بعض الدول العربية، في مقدمتها ثقافة «الوما» بمعنى أن نتحدث بلغة ملتبسة لأن الخطاب الواضح واللغة الواضحة أصبحت من المحرمات، هذا هو الذي أسس لبنية خفية هي بنية الشعب الذي بدأ يحاصر في كل موقع من مواقعه لصالح بنية اعتبرت هي المهيمنة، البنية الظاهرة، وقد أفاد النظام العربي عمومًا من هذه العملية، وتبين أنه من السهل أن يقول إذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نرفع أيدينا استسلامًا أمام ما لم نعد قادرين على مواجهته (التدفق العولمي الصهيوني)، ولهذا راحوا يراهنون على أننا أصبحنا مضطرين للذهاب إلى مدريد وأوسلو وإلى غيرها.
البنية الخفية (الشعب) أبعدت، دمرت، قسم كبير منها دخل السجون.. وقسم آخر هاجر.. قسم ثالث هاجر إلى السماء، وهنا نتحدث عن نمطين من الهجرة: هجرة إلى السماء، وهجرة أمام السفارات الأجنبية.
هجرة السماء التي أفضت إلى الأصولية المتشددة في الخطاب الإسلامي وهي هجرة أساسها أولئك المضطهدون المظلومون والمهمشون الذين افتقدوا كل شيء إلا ما اعتقدوا أنه ما زال مفتوحًا.. فصعدوا إلى السماء، هي هجرة عمودية دون قدرة على فهم ما يحدث، الشيء الطريف في ذلك أن النظام السياسي شجع ذلك، كما أنَّ الولايات المتحدة اكتشفت هي أيضًا هذه الهجرة إلى السماء وشجعتها وبررتها في حينها.
أما الهجرة الأخرى فهي للسفارات الأجنبية، فإن عشرات بل المئات من الألوف من خيرة الشباب العرب والشباب المسلمين بدؤوا يبحثون عن مناطق اعتقدوا أنهم يجدون فيها الكرامة والكفاية المادية، وهذا أمر كان حاسمًا جدا في إذلال هذه البنية الخفية.. لم نعد نملك شيئًا إلا أن نقف صاغرين أمام قوة طاغية.. إنها قوة النظام العالمي الصهيوني.
عملية جديدة بدأت تفرض نفسها على الواقع العربي برمَّته وتفرض عليه أنماطًا جديدة من التفكير؛ حيث بدأنا نعيش حالة من الأزمة المتصلة بالهوية.. أزمة الهوية العربية والإسلامية، هذا التدفق العولمي الصهيوني الجديد أتى مع غياب البنية الخفية (الشعب) أو تغييبها وإقصائها وإبعادها وظهور البنية العلنية بوصفها التي ستهيئ للمصالحة التاريخية مع العدو الصهيوني ومع المشروع الأمريكي.
أولويات المفكر
النهضوي الرائد محمد عبده
* قبل أن ندخل في سمات الخطاب الإسلامي الذي تطرقت إليه، ما هي أولويات المفكر العربي الإسلامي في هذه المرحلة؟
– أولويات المفكر العربي هنا تتحدد بالأساس بوصفها أولويات مشروع جديد، أدعو إليه مع جموع كبيرة من المثقفين السياسيين العرب والإسلاميين، وهو مشروع نهضوي تنويري عربي، قد يمثل امتدادًا لمشاريع النهضة السابقة التي أخفقت، هذا المشروع يجد الآن نفسه أمام استحقاقات تكاد أن تكون جديدة تمامًا بالقياس إلى ما سبقها.
فإذا أخذنا مثلا أسئلة الثقافة العربية والإسلامية قبل هذا المشروع نجدها تختص بعملية التقدم التاريخي الاقتصادي والاجتماعي والعلمي، أي كيف نستطيع أن ننجز ما أنجزه الغرب؟! ولماذا نحن متخلفون والآخر متقدم؟!
هذا السؤال مر عليه النهضويون ومنهم محمد عبده وقبله الطهطاوي والكواكبي، بمعنى أن مسألة التقدم كانت مفتوحة لكن الإشكالية كانت كيف ننجز عملية التقدم التاريخية هذه؟ الآن أمامنا اختراق عميق لهذه الأسئلة؛ فالسؤال المهم أصبح: كيف نبقى في التاريخ محافظين على هويتنا العربية الإسلامية؟! فالقضية أصبحت مسألة وجود بعد أن كانت مسألة تقدم، سؤال الوجود أصبح يعني كيف تبقى سوريا -مثلا- بلدًا عربيًا محافظًا على سيادته.. بعد أن حققنا الاستقلال منذ أكثر من خمسين عامًا؟
أسئلة النهضة الآن اختلفت.. أصبحنا أمام استحقاقات جديدة خصوصًا مع نشأة النظام العولمي الجديد الذي يعمل على اقتلاع العالم العربي الذي لم ينجز ما كان مطروحًا على بساط البحث النهضوي سابقا، فكيف ننجز الجديد ولم ننجز القديم بعد؟!.. في هذه الحال نجد أنفسنا أمام مجموعة من الملفات والاستحقاقات تتصل بكل القطاعات المجتمعية من السياسة إلى العلم، إلى الثقافة، إلى الاقتصاد.. كل هذا المركَّب من الاستحقاقات أصبح أمامنا دفعة واحدة؛ لذلك حين أتى كولن باول وقدم إملاءاته بعد يوم واحد من سقوط بغداد تبين أنه لم يعد هناك زمن مفتوح.
وأذكر هذا الشيء ويشرفني أنني في اليوم التالي كتبت بيانًا بخط اليد ووزع في سوريا ولبنان بعنوان طريف وهو: [المرأة والأمة لا يجوز أن تسوغ عملا يؤدي إلى اقتحامها]، نعم.. لا يجوز أن تستباح حرمة الوطن العربي الإسلامي.
من هنا أقول إنَّ الأسئلة اختلفت و أصبح السؤال السياسي سيد الموقف، لا أعني أن تهمل الملفات الأخرى لكن أن تأتي في سياق السؤال السياسي؛ لأنه سؤال يتصل أساسًا بإعادة بناء المجتمع الذي يعيد بناء التاريخ، فالسؤال السياسي يعني أيضًا المجتمع السياسي، مجتمع الأحزاب ومجتمع الندية والتعددية.
الخطاب الإسلامي
* أشرت إلى بروز خطاب إسلامي معاصر، فهل يمكن أن نتحدث عن هذا الخطاب وسماته؟
– عملية التفاعل في الخطاب الإسلامي عمومًا بدأت في السبعينيات من القرن السابق، وهي بداية ما سمي بفترة النفط السياسي التي أحدثت تحولا عميقًا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العربية كما في بلدان أخرى، ترافقت مع تفكك الفئات الوسطى في المجتمع العربي ونشوء نمط متصاعد في القوة من المجتمع الاستهلاكي نظرًا للسيولة المالية الهائلة التي تدفقت باتجاه العالم العربي محدثة شرخًا عميقًا في المجتمع أدت إلى انقسامه إلى فئتين كبيرتين في الأعلى والأدنى، وهناك بعض الدراسات الاقتصادية والاجتماعية تقول بأن 20% من المجتمع العربي أصبحوا يمتلكون 80% من الثروة الموجودة في العالم العربي، و80% يمتلكون 20% فقط.
هذا المظهر الجديد حمل معه كثيرًا من النتائج السياسية والاقتصادية والثقافية، تجسدت -على الصعيد السياسي- في سقوطٍ مدوٍّ ومضطرد لمؤسسة الدولة؛ حيث بدأت الدولة كمؤسسة قانونية دستورية تتهشم لتفسح الطريق أمام ظاهرة «الدولة الأمنية» التي أصبحت البديل التاريخي، على الأقل حتى الآن، للمجتمع الوطني والمجتمع المدني والدولة الوطنية القانونية.
على الصعيد الاقتصادي أوجد فئاتٍ واسعةً من المهمشين والمفقَّرين الجدد من خلال إرغامه الفئات الوسطى على الانزياح من مواقعها والانضمام إلى الفقراء التقليديين ولكن دون أن تستطيع الوصول إلى بناء جديد بينها وبين الفقراء التقليديين يمكن من خلاله أن تنتج الثقافة والسياسة كما كانت تفعل في مواقعها السابقة، وهذا بسبب أن الدولة الأمنية وضعت نصب عينيها هزيمة المجتمع الوطني، ولهذا عملت على اقتحام كل الشرائح وكل الفئات وخصوصًا الفئات الوسطى في موقعها الجديد خوفًا من أن تؤسس لحالة جديدة في إطار عملية اندماج محتملة بينها وبين الفقراء التقليديين، وقد أدى هذا إلى هزيمة المشروع الثقافي العربي الذي حمل لواءه مجموعة متعددة من المثقفين القوميين الاشتراكيين أو الليبراليين، وهنا برز التيار الجديد وهو التيار الإسلامي الذي أخذ منحًى جديدًا مختلفًا عما كان سائدًا قبله من توجهات إسلامية على الصعيدين السياسي والثقافي؛ إذ كان الحديث السابق عن مشروع إسلامي تنويري ثقافي لا يطمح إلى إيجاد دولة إسلامية.
أما الطرح الجديد فقد فتح الباب لتأسيس حالة مختلفة في الحياة الإسلامية نتج عنها ما يسمى بالإسلام السياسي، وقد أخذ الإسلام السياسي نفسه يعيش حالات متعددة برزت في صيغتين كبيرتين:
الصيغة الأولى: تمثلت في نشأة أحزاب سياسية إسلامية تضع نصب عينيها الوصول إلى السلطة، طارحة فكرة أساسية وهي أن الحزب السياسي الإسلامي لا يستطيع أن يحتمل أحزابًا أخرى غير إسلامية؛ لأن المرجعية هنا عُدَّت مرجعية لاهوتية قرآنية، حتى كان من يسعى إلى إنهائها أو السجال معها كأنه يفعل ذلك باتجاه المرجعية اللاهوتية نفسها، وهذا أضر بالإسلام بشكل كبير. لكن الرغم من ذلك كانت هناك تسربات قوية تحولت شيئًا فشيئًا إلى ما قد يسمى تيارًا تنويريًّا أحد همومه السلطة السياسية ولكن ليس على أساس أن تجد هذه السلطة مرجعيتها في الحقل اللاهوتي وإنما تكون مرجعيتها حقلا وضعيًّا بشريًّا.
وعلى الرغم من نمو هذا التيار فإن التيارات الأخرى أخذت تنمو بشكل أكثر قوة، مع هذا وذاك برز تيار جديد بدأ يفصح عن نفسه خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، هذا التيار الذي راح البعض يُسمِّيه تيارًا أصوليًا، وأظن أن التسمية هنا تحتاج إلى إعادة نظر شخصية بالمعنى اللغوي والفكري والتاريخي ومع ذلك فقد فرضت نفسها، وقد نشأ هذا التيار، كغيره من التيارات، في البنية العربية الإسلامية، لكنه مع الحادي عشر من أيلول أخذ يكتسب قوة واسعة النطاق بفعل داخلي وخارجي في آن معًا.
الثقافة الأمريكية تفرض هيمنتها على العالم
الصيغة الثانية: أن الولايات المتحدة التي راحت ترسم لنظام عالمي جديد وجدت في هذه الظاهرة أمرًا مهمًا بالنسبة إليها فسعت إلى تحفيزها وتعميقها وجعلها سيدة الموقف بالنسبة للتيارات الإسلامية والتيارات الأخرى غير الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.
وفضلا عن الولايات المتحدة فإن أطرافًا أخرى في الفكر السياسي والثقافي العربي أسهمت في التغطية على وصول مرجعيات أصولية جاء بعضها من خارج المجتمع العربي والإسلامي، وهي صنيعة الأمريكيين بشكل أو بآخر، ومن هنا تبرز أهمية خاصة لإخضاع هذا التيار الأصولي إلى دراسة نقدية على الصعيد السياسي والثقافي والتاريخي.
فقد أريد من ظاهرة الأصولية أن تكون فزاعة جديدة في وجوه الناس في العالم العربي الإسلامي، بمعنى أن النظام السياسي العربي وضع الناس أمام خيار يقوم على أنه هو أو الأصولية هما وحدهما الموجودان وعلى الناس أن يختاروا بين أصولية ظلامية تلجأ إلى العنف والتكفير.. ونظام هو في كل الأحوال لا يدخل الناس في حلبة الصراعات الطائفية الدينية، وما زالت هذه اللعبة قائمة حتى الآن.. وبدأت معركة عسكرية بين النظام السياسي العربي وبين هذا التيار.
ويلاحظ هنا أمر ذو أهمية خاصة وهو أن النظام السياسي العربي أدرك ضرورة وجود مثل هذه التيارات من أجل أن يسهم في إنتاج التلاحم الضروري في البنية الداخلية للنظام نفسه انطلاقًا من أن هناك عدوًّا، أي على النظام أن يكون دائمًا بحالة من التوتر والجاهزية الكاملة، الأمر الذي أدى في أكثر من دولة عربية إلى عسكرة البلد، بمعنى أن يبقى في حالة من الاستعداد لرد العدو، هذا العدو الذي سيوضع هنا دائمًا بين قوسين تأكيدًا على أنه عدو لا يمكن أن يخرج من جلده فهو عدو أبدي تكوَّن هكذا وسيبقى هكذا ومن ثم لا يصح أبدًا أن يعاد النظر في الموقف منه.
على الصعيد الاقتصادي، عُدَّتْ هذه الظاهرة ردًّا على الطغيان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الموجود في البلد، وكما أشرت سابقا فإن الأوضاع الاقتصادية المتردية قادت إلى رحلتين: رحلة إلى السماء، ورحلة إلى أبواب السفارات الأجنبية، وفي إنجاز الرحلة السماوية سيصبح الحل دينيًّا ناجزًا، وبرزت في سياق ذلك مجموعة من الشعارات منها ضرورة أسلمة العلم.. والإسلام هو الحل.. ومنها العودة إلى تكفير المجتمع برمته وليس النظام السياسي فقط، وبرأيي أنَّ النظام العربي الجديد أسهم في تعميق مثل هذه المقولة لأنها ستعمِّق في الوقت نفسه الصراع بين الفريقين وتجعل الناس أمام الخيار الذي أشير إليه: إما هؤلاء وإما النظام السياسي العربي.
الأمر الجدير بالملاحظة هنا أن هذا التيار بدأ يستغل ويوظف توظيفًا واضحًا من قبل الولايات المتحدة سواء في سوريا أو في الجزائر باتجاه أن يكون هذا التيار حصان طروادة جديدًا يُخترق من خلاله المجتمع السوري والمجتمع الجزائري، كما في المجتمع العربي والإسلامي عمومًا.
ومن جانب آخر وبعد أن فقدت الولايات المتحدة رأس النظام العالمي الجديد العدو الكبير ممثلا بالاتحاد السوفييتي الذي كانت تساجله وتجعل منه عنوانًا يسهم في الإبقاء على توازنها في الداخل، رأت أنه لابد من وجود عدو جديد يملأ الفراغ، واكتشفت أن هذا العدو يمكن أن يكون الإسلام النفطي الذي يتأسس في أفغانستان والسعودية وأوراسيا (آسيا الأوروبية) هذه المنطقة التي تعج بالخيرات الطبيعية، وأصبح الإسلام فعلا المقولة العظمى التي يجري تداولها في الفكر السياسي الأمريكي.
الإسلاميون والديمقراطية
*هل يمكن لهذه الحركات الإسلامية أن تتمثل الديمقراطية أو أن تنتجها؟
– هذه مسألة معقدة لا شك ويبدو أن الواقع يفرض ذلك على كثير من هؤلاء، أذكر طرفة حدثت معي في اليمن حين تناظرت مع رجل دين هناك له حضوره الديني والسياسي، وكان السؤال: إذا ما أتيح لكم الوصول إلى السلطة فماذا ستفعلون؟ قال: سنصل إليها بفعل أدوات الديمقراطية الموجودة في اليمن، ولكن ما إن نصل إلى السلطة حتى ندمر هذه الأدوات؛ نظرًا إلى أنه لا يوجد بالأساس سوى حزب واحد هو حزب الله.. الحزب الاعتقادي.
هذا الأمر موجود ومحتمل ولكنه بدأ يفتقد مصداقيته وقدرته على الحضور البشري ولعله بدأ يفتقد حضوره على الصعيد الإسلامي نفسه، وبدلا من هذا أخذت تيارات جديدة مناحيَ جديدة في الأفق الإسلامي تتجه نحو التساؤل حول عملية تطبيق الديمقراطية بطريقة أو بأخرى؛ وهنا أمامنا مثال حي من التاريخ العربي الإسلامي البعيد قليلا والمتمثل بالمناظرة التي لم يحدث مثيلٌ لها بعد ذلك بين الإمام محمد عبده والمفكر النهضوي فرح أنطون، كان الإمام محمد عبده قلقًا بعض الشيء من مسألة العلمانية، ومعه حق لأن المسألة كانت ملتبسة إلى حد كبير والحوار بينه وبين المفكر فرح أنطون اتجه نحو زاوية محددة؛ فقد تبلورت بسؤال طرحه الإمام على فرح قال: إذا وصلت أنت أو أحد المسيحيين الذين تربوا في إطار إسلامي إلى السلطة فهل ستفتقد مصداقيتك الإسلامية بمجرد أن تدخل إلى السلطة؟ أي ألا تعتقد أن حكمك من موقعك كرئيس دولة سيبقى ملوثًا بمسيحيتك التي نشأت عليها؟ وكان الإمام محمد عبده يرى أننا لا نستطيع أن نكون علمانيين فعلا في السلطة.
وقد أجابه فرح أنطون قائلا: نعم يا سيدي لن أستطيع أن أخرج من مسيحيتي، أنا ربيت هكذا، ولكني حينما أصبح رئيس دولة فإنني سأجد نفسي منصاعًا من الداخل والخارج للقوانين التي أردت أن أمثلها وأصبح رئيس دولة، أي سأصبح خادم الدستور والقانون الوطني وحينذاك سأكون واحدًا للجميع، لن أفقد مسيحيتي ولكنني سألبس العباءة الوطنية كلها.
إنَّ العملية معقدة بطبيعة الحال نظريًّا لكن الضرورات التي يعيشها العالم العربي الإسلامي تفرض نفسها الآن على الجميع كي يفكر في إمكانية التعايش فيما بينهم، وربما الديمقراطية نمط من أنماط التعايش خصوصًا إذا فهمناها نظامًا سياسيًّا يقوم على مجموعة من الآليات التي إذا ما أخذت فليس من الضروري أن تتدخل في العقائد مباشرة، مثلا هل هناك ما يمنع بأن نأخذ كمسلمين ومسيحيين وعلمانيين بآلية تقوم على إقرار التعددية والجميع سواء، وآلية الانتخاب السري، ثم من الآليات الإقرار بأن الوطن للجميع، آليات تحافظ على الواقع.. على الوطن وعلى النص الديني كي لا يصبح عائقًا.
خذ مفهوم أهل الذمة، تصور أننا نحاجج على هذا الأمر ولم نعد قادرين، هل سنصارع من أجل فكرة لم تعد واردة؟ من هنا نحن رجال وهم رجال كما قال العظيم الشافعي؛ أي نحن مخولون باسم النص وباسم الواقع وباسم الوطن أن نؤول هذه المواقف ونصل إلى ما هو عام يجعل من الوطن وحدة للجميع، بهذا المعنى فالديمقراطية التي يواجهها الإسلام تفرض نفسها بكثير من الصعوبات والالتباسات التي من الصعب أن يجاب عنها؛ نظرًا لغياب حرية الإعلام وغياب حرية التعبير.
لا غرب بالمطلق
*كيف تنظر إلى العلاقة مع الغرب في ظل ما يجري الآن؟
– أولا أريد أن أقول كلمة بما يتصل بمصطلح الغرب: الغرب مصطلح صحيح لكن إذا أُصِرَّ عليه بصورة مطلقة فإنه يصبح مضللا أي في حالة التضليل هذه يبرز مفهوم صراع الحضارات الغربية والشرقية (المسيحية والمسلمة) كيف؟! حين يقال الغرب هكذا على عواهنه يصبح هناك احتمال الحديث عن خصوصيات تاريخية لحضارات متعددة فكان (شبنغر) أحد رواد الدراسات الحضارية الألمانية قد تحدث عن حضارات من هذا النمط واحدة منها تنشأ وأخرى تزول عبر صراعات مختلفة، والآن يأتي هذا الحديث ليقال بالأساس: إن الصراع الآن هو صراع بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي.
التعديل الذي ينبغي أن يدخل إلى مفهوم الغرب يتمثل بضرورة تفكيك هذا المصطلح واكتشاف أنه لا يؤسس لحالة اجتماعية وثقافية وسياسية واحدة وإنما يؤسس لتعددية قائمة على التمايز بين الفئات والشرائح والوحدات والطبقات والشعوب.
ومن ثم لابد من التمييز بأنَّ هناك أكثر من غرب، نذكر مثلا ما حدث في المراحل الأولى للتدخل الأمريكي للعراق، هذا الغرب الذي خرج بالملايين إلى الشوارع ضد الحرب، هناك غرب آخر، هو غرب المصالح العسكرية والاقتصادية.. وربما كان هناك غرب ثالث خارج الدائرة، إذن لا يصح أن نتحدث عن غرب بالمطلق، الصراع الحقيقي الدائر الآن هو صراع المصالح، الولايات المتحدة تريد نفط العالم كله وخصوصًا العالم العربي.
ولابد أن نذكر هنا بمشروع أمريكي طرح منذ ثلاثة أعوام وهو محاولة التقسيم السعودي إلى قسمين كبيرين: قسم النفط وقسم الأيديولوجيا، المناطق النفطية تعدُّ حالة، والمناطق المقدسة حالة أخرى.. وبذلك حينما تقسم السعودية على هذا الشكل فالولايات المتحدة لا تتدخل بالشأن الأيديولوجي.. أي لا تتدخل في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة.. في هذه المدن والبقاع التي لا علاقة لها بالنفط.
إذن صراع الحضارات مفهوم زائل، هناك صراع مصالح يغطى بالأيديولوجيات، والولايات المتحدة تريد أن تستخدم الإسلام كما تفهمه غطاءً لصراعها ضد الوطن وضد العالم العربي والإسلامي عمومًا، من هنا كانت أهمية البحث العلمي النظري النشط باتجاه هذه المفاهيم التي تتدفق باتجاهنا من أجل أن نفهمها ونبني مواقفنا على هذا الفهم.. وبهذا المعنى فإن صراع الحضارات مفهوم ملفق أتى من أجل أن يجعل الإسلام مطية هذا الصراع ومن أجل أن يصبح الإسلام حاملا جريرة هذا الصراع.
إن الذين يقومون بعمليات تخريبية هنا وهناك هم الإسلام.. هذا ما تريد أمريكا قوله لتبرر مقولتها: «إذن علينا أن ندمر هذا الإسلام»، ومؤخرًا سمعنا عن إنذار خطير وفريد من نوعه من الكونجرس الأمريكي يدعو إلى تدمير المقدسات الإسلامية.. وهذه ليست وقاحة فقط بل أكثر بكثير، شيء فظيع أن يصلوا إلى هذه الدرجة من أجل التسويغ لمصالحهم الإجرامية.
وفي الحقيقة نحن نعيش ذلين: ذلا واقعيًّا يمارس علينا من الولايات المتحدة ومن الصهيونية ومن التواطؤات مع الداخل العربي، وذلا ناتجًا عن جهلنا الذي لا يسمح لنا أن نكتشف ما حولنا، من هنا تتأسس فكرة الدعوة إلى إنتاج معرفي جديد، إنتاج معرفي تقوم به فئات جديدة من المفكرين والباحثين ضمن مراكز بحوث حقيقية تنتج معرفة فعلية كي نقدمها للناس بوصفها شكلا من أشكال الصراع الأيديولوجي وفضح ما تريد الولايات المتحدة فرضه علينا مسلمين وغير مسلمين.
* سؤال أخير: ما هي برأيك آفاق العملية السلمية مع الكيان الصهيوني؟
– الكيان الصهيوني مقتله السلام فعلا، حين تقول سلامًا كأنك أطلقت قذيفة إلى قلب إسرائيل.
السلام الحقيقي يدمر إسرائيل، يدمر مجتمعًا غير مؤتلف، مجتمعًا ملفقًا يحتاج دائمًا إلى أعداء.. ولاسيما أن هؤلاء الأعداء موجودون وهم الفلسطينيون. ومن ثم أجد أن هذه العملية التي تسمى المفاوضة لا مستقبل لها، لا يعني ذلك رفض هذا الأمر ولكنه يعني أنه إذا ما أرغمنا على مثل هذه المفاوضات أن نضعها في سياق إستراتيجي ندرك من خلاله أن فلسطين لن تعود على الأقل إلى الشرق العربي، لن تعود إلا فلسطين كاملة؛ وهذه دعوة قد تكون الآن أصبحت خيالية ولكن ما هو خيالي قد تجده في لحظة واحدة قد أصبح واقعًا، وهنا أنهي كلامي باستعادة مقولة للفيلسوف الألماني (هيغل): «التاريخ مراوغ» لا تعتقد أنك وصلت إلى حده النهائي لأن هذا الحد النهائي بلحظة ما يَكشف عن أنه مفتوح ويبقى الفعل والإرادة والوعي.
المطلوب الآن أن نفعل بإرادة وأن نفعل ونريد بوعي عربي تاريخي قادر على أن يحقق الحد الأول من كرامة وطنية وقومية وأيديولوجية إسلامية ودينية سمحاء عمومًا وخصوصًا.
كاتب سوري