العذرية مركز الثقل الرمزي في مفاهيمنا الثقافية
عمر كوش
يتناول هذا الكتاب قضية العذرية، بوصفها إحدى القضايا التي شغلت العديد من الباحثين والمفكرين، الذين تعددت مداخلهم في تناول مصطلح الجسد ما بين العلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية، وفقا لمنطق كل فريق للدراسة وزاوية التناول. وتعتبر مؤلفته، مها محمد حسين أن العذرية، بوصفها قيمة اجتماعية في الثقافة المصرية، تحتل منزلة عالية، ذات دلالات معيارية، وتمثل قوة إلزامية على الأفراد من خلال ارتباطها بقيم أخرى مدعمة لها، مثل الشرف، والفضيلة، والعفة، والالتزام، والحياء، والخجل… الخ. لكن بالرغم من أن العذرية في معناها البيولوجي تعني الحفاظ على غشاء البكارة، إلا أنها تتجاوز هذا المعنى المحدود في كتابها، من جهة التمييز ما بين العذرية البيولوجية وبين العذرية السلوكية “العفة”، والتي تظهر في الأفعال والتصرفات حيال المواقف المختلفة. كما أن هنالك تداخلاً بين العذرية بالمعنى البيولوجي والمعنى السلوكي، من خلال الاتجاه نحو التأكيد على أن الفتاة العذراء، بيولوجيا، تُظهر بعض السلوكيات والصفات التي تختلف بها عن الفتاة غير العذراء.
وتسعى المؤلفة إلى تناول العذرية في إطار مباحث إنثروبولوجيا الجسد، مع تحول الاهتمام الكلاسيكي بالجسد إلى التحليل البنائي للظواهر المتداخلة معه في ارتباطها بالعلاقات الاجتماعية، والبناء الاجتماعي، أو الاتجاه الرمزي الذي يبحث في العلامات والرموز التي تكمن وراء حركات الجسد، خاصة عندما يصبح الجسد قناة من من قنوات التفاعل الاجتماعي خلال المواقف الحياتية اليومية. لكن أهمية دراستها تكمن في أنها تتعرض لموضوع يمس قيمة اجتماعية هامة، سواء على الصعيد العربي عموماً أو المصري خصوصاً على الرغم من أنه يعتبر من الموضوعات التي لم تدرس بشكل مستقل من قبل، بل درست من خلال علاقاتها بمفاهيم أخرى، مثل الزواج أو دورة الحياة، كما أنها تلقي الضوء على العديد من القيم والمتغيرات وثيقة الصلة بالعذرية مثل الزواج، التنشئة الاجتماعية، الختان، الشرف والعفة، حيث يتم تناول عادة ختان الإناث، بوضعها آلية من آليات الحفاظ على العذرية، بل والعفة بشكل أساسي.
وتحاول المؤلفة الإحاطة بالآليات المختلفة التي تستخدمها الثقافة في ضبط الجسد، من خلال التركيز على مفهوم العذرية من زوايا التصورات المختلفة، المرتبطة بهذا المفهوم داخل الثقافة المصرية، مع أن هذه التصورات تتباين وفقاً لتباين الطبقات الاجتماعية الثقافية المختلفة. كما تحاول فهم الكيفية التي تفرز بها هذه الثقافة أشكالا بعينها من الضبط والرقابة، بل والسلوك أيضا، التي تمارس على جسد الأنثى من أجل المحافظة على العذرية، أو تفرز أساليب لمواجهة انتهاكها، كحلول لما ينتج عنها. إضافة إلى كيفية تحول المفاهيم ذات الطابع البيولوجي، مثل مفهوم الذكورة والأنوثة، إلى مفهومات اجتماعية ذات صبغة ثقافية، تعكس طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وطبيعة ضبط التنشئة التي يخضع لها جسد الأنثى وأحيانا جسد الذكر. وإلى أي حدّ يعدّ ذلك مؤشراً دالاً على تباين وضعية الذكر والأنثى داخل المجتمع والثقافة المصرية.
وتعتمد الدراسة في جانبها التطبيقي على مجموعة من البيانات متعددة الأبعاد، يشمل البعد الأول منها بيانات ذات طابع وثائقي تضم في أحد شقيها بيانات كمية متمثلة في بعض الإحصاءات الخاصة بالختان، جرائم الشرف، وفاقدات العذرية اللائي تمّ التبليغ عن فقدهّن لها وتسجيلهن في إحصاءات الجهات المختصة، وتضم في شقها الآخر كيفية متمثلة في القرارات الرسمية التي تصدر بشأن قضية ختان الإناث، والتي تم التعبير عنها في الخطاب الرسمي الديني والطبي. في حين يشمل البعد الآخر بيانات ميدانية عن الجوانب المختلفة لدراسة إستراتيجية العذرية وثقافتها، من خلال دراسة خطاب العذرية، وتصورات وتوجهات الأفراد حول ثقافة العذرية وقيمة الشرف، والتجليات السلوكية والبيولوجية للعذرية، وممارسات الحفاظ على العذرية وتمثلاتها، وآليات ضبطها وضبط جسد المرأة، كآلية الختان ومواقف إجرائه، وما يخص الأنوثة وممارساتها.
وترى المؤلفة أن الصورة التي يرسمها أي مجتمع للجسد ومكوناته، تستمد عناصرها من الرموز السائدة في هذا المجتمع. تلك الرموز التي تحدد الوظائف التي يقوم بها الجسد، وتنهض بها أجزاءه المختلفة، وعلاقتها ببعضها البعض، الأمر الذي ينتج في النهاية نوعا من المعرفة، تيسر للإنسان إدراكه لمعنى هذا الجسد ووظيفته، وما يرتبط به من فرح وما يصيبه من الهم، وهو ما يتيح له أن يدرك حقيقة موقعه من المجتمع وعلاقته بالآخرين من حوله من ناحية، وأن يعمل ذلك متفقا مع رؤية مجتمعه للعالم من ناحية أخرى.
وفي محاولة معرفة المعنى الشعبي المتداول للعذرية، تجد المؤلفة أن هناك خلطاً بين العذرية كحالة والعذرية كصفة للفتاة، إلى جانب تداخلات في التعريف بين المعنى ومواصفات الفتاة العذراء وسلوكياتها. لكن القاسم المشترك بين الفئات الاجتماعية هو المعنى البيولوجي للعذرية. غشاء البكارة. ويحمل المجال الدلالي للعذرية ألفاظاً واصفة للفتاة العذراء، وهو امتداد للخلط بين العذرية كحالة والعذرية كصفة، وفي بعضها مواصفات دالة على العذرية البيولوجية، وأخرى دالة على الفتاة العذراء، مثل بنت بكر، وبنت بنوت، وبنت شريفة، وبنت بشوكها، وبنت مقفولة. وهناك ألفاظ وعبارات دالة على العذرية في شكل صفاتها منها، بنت بريئة، وبنت محترمة، وبنت ملتزمة، وبنت زي الملاك محدش لمسها، وبنت خام، وبنت خجولة حيية، وبنت عفيفة، وبنت مقفلة. وقد تباين المجال الدلالي وفقا للشريحة الاجتماعية، حيث يتضح ذلك جليا في مفردات الشريحة العليا، التي تصف ذلك بألفاظ أكثر تهذيبا ومفردات أجنبية تتفق وسياقات الشريحة العليا.
ويزخر التراث الثقافي بالعديد من الأمثال الشعبية والأغاني التي تعمل على إرساء قيمة العذرية، فمنها ما يوضح أهمية وإعلاء القيمة، ومنها ما يطمئن الحس الشعبي على عذرية الزوجة قبل يوم زواجها، ومنها ما يوضح بعض الحكم المحفزة للشباب على الزواج من الفتاة البكر. وتعتبر قيمة الشرف من أهم القيم الاجتماعية المتداخلة والمؤثرة، بل والمدعمة لقيمة العذرية، إلا أنها قيمة قائمة في الثقافة المصرية على تصنيفات الذكورة والأنوثة. ففي الإناث يكون شرف العائلة، والأسرة والأب، وبعد الزواج، يتحول لشرف الزوج، فالشرف شرف الزوج ولكنه لا يرتبط من قريب أو من بعيد بموضع العذرية. وثمة علاقة بين التصورات المختلفة المرتبطة بالعذرية وبين تجليات العذرية الممثلة في الحديث والصوت، حيث أن الصوت الهادئ، والمنخفض الذي يتسم بالحياء غالبا ما يرتبط بالفتاة العذراء، كما أنه كلما كانت مفردات الحديث بعيدة عن الألفاظ الخارجية عما تقره ثقافة المجمع. وتتصف بوضوح مخارج الوصف دون ترقيقها وبعيدة التدلل كلما كان ذلك معبرا عن عذرية الفتاة.
وترى المؤلفة أن لا علاقة للختان بالعفة، لأن العفة الحقيقية لا تبدأ من الجسد، بل من العقل والإرادة والروح. وقد أثبتت التجربة أن ختان البنات لا يؤدي إلى الهدف الذي تم من أجله، ولا يقضي تماماً على الرغبة الجنسية، لأن الرغبة هي عقلية وعاطفية في الأساس، لكن الختان يجعل العملية الجنسية عند المرأة في غاية الصعوبة، إضافة إلى الآثار النفسية المدمرة التي تنتج منها.
[ الكتاب: العذرية والثقافة
[ تأليف: مهما محمد حسين
[الناشر: دال للنشر والتوزيع، دمشق، 2010
المستقبل