تتغيّر أمريكا إلا في فلسطين

سليمان تقي الدين
لا شك أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما قد تغيّرت في الكثير من الملفات إلاّ أنها لم تتغير تجاه فلسطين .
في حقيقة الأمر أعادت المؤسسة الأمريكية أي الإدارة، صياغة مشروعها في المنطقة في السنة الأخيرة من عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش . ما أوحى بأن تلك السياسة تمثل في تقرير لجنة بيكر  هاملتون والوثيقة التي أطلقها وزراء الخارجية السابقون والتي دعت إلى اعتماد القوة الناعمة بديلاً لسياسة توسيع الحروب المباشرة . اتفاقية الانسحاب من العراق جرت في العهد السابق والتوجه إلى مفاوضة إيران واستخدام العقوبات وتشكيل جبهة دولية للضغط عليها تم أيضاً قبل تسلّم الرئيس أوباما . بل إن مطلب الانفتاح على سوريا والحوار معها في مسألة العراق وفلسطين ولبنان قد جرى بصورة غير مباشرة قبل العهد الجديد . ولم يخرج الدور التركي عن رغبة أمريكية في استكشاف إمكانات واحتمالات صياغة نظام اقليمي لمصلحة ما يسمّى “الاعتدال” بدلاً من الضغط على بعض المواقع العربية لدفعها في اتجاه “التطرف” أو التشدّد .
في واقع الأمر فشلت سياسة أمريكا في وضع اليد العسكرية على المنطقة وتطويع كل الدول والحركات المقابلة لها . لكنها مازالت تبحث عن علاقات أمنية مع كل هذه الدول وترتيبات سياسية ضمانة لنفوذها . أمريكا تنشر قواتها في الكثير من المواقع وفي المحيطات والمعابر طبعاً بكلفة أكبر من أن تكون لها قواعد عسكرية ثابتة في افغانستان والعراق، لكنها موجودة وقادرة على تعويض ذلك بصياغة النظام السياسي هنا وهناك . غير أن المسألة الجوهرية التي تواجهها أمريكا، خلافاً لادعاءات البعض عن تراجع اهتمامها بالمشرق العربي، كانت وما تزال ترعى مستقبل الكيان الصهيوني، ومن غير أية مبالغة في تطور التحديات أمام الكيان الصهيوني، فإن مجمل التطورات في المنطقة لم تساعد على فرض الوظيفة والدور اللذين تريدهما أمريكا لهذا الكيان . بعد الانجازات الكبرى التي تحققت من خلال إخراج مصر من الصراع وتدمير العراق برز الدور الإيراني ومن ثم التركي كمنافس حقيقي وكقوتين تبحثان عن شراكة فعلية في نظام الشرق الاوسط الكبير الذي سعت أمريكا إلى ترتيب توازناته وفي قلبه الكيان الصهيوني .
كل السعي الأمريكي لدمج الكيان الصهيوني في نسيج المنطقة رغم نجاحاته السياسية الكثيرة توقف عند عتبة الترتيبات الأمنية والسياسية الضامنة لهذا الدور في ظل تقدم عسكري إيراني واضح ونهضة اقتصادية تركية تتطلع إلى المدى الحيوي لها في الشرق هذه المرَّة وليس في الغرب . كل التقديرات التي توقعت أن تنخفض أهمية الكيان الصهيوني بالنسبة لأمريكا لأنها متورطة في وسط آسيا هي تقديرات خاطئة . وكل الرهانات على اتساع الفجوة في التصورات بين أمريكا والكيان لم تصمد طويلاً ولم تنجح أمريكا في تطويع ربيبتها إلى الحد الأدنى من السلوكيات السياسية التي تساعدها على التعامل بحرية أكبر مع النظام العربي .
في اجتماع نتنياهو الأخير مع الرئيس الأمريكي حصل على ضمانات بعدم تناول الملف النووي للكيان الصهيوني معتبراً أن لهذا الكيان خصوصية في الأمن . في حين أن المنطقة كلها تطالب بسياسة ذات معايير واحدة لمكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل ولمصر على هذا الصعيد مبادرات عدة . ثم إن أمريكا حمت سياسات حكومة نتنياهو منذ اللحظة الاولى، أي منذ حرب غزة 2009 المتزامنة مع تولي الرئيس أوباما مسؤولياته الدستورية وصولاً إلى تقرير غولدستون ومجزرة اسطول الحرية . أما الاستيطان فقد تجاوزت أمريكا المطالبة بوقفه كمدخل لتحريك المفاوضات مع الفلسطينيين . أكثر من ذلك لم يسبق لإدارة أمريكية أن قدمت الدعم المالي للدولة العبرية . فبعد حرب يوليو/ تموز أقامت أمريكا مخازن أسلحة في فلسطين المحتلة وقدمت أحدث القنابل والتقنيات ودعمت الدرع الصاروخية، وزادت من مساعداتها المادية رغم الأزمة العالمية . هذه المعطيات وحدها كفيلة بالقول إن أمريكا لم تغيّر سياستها على هذا الصعيد وما يزال الكيان الصهيوني جزءاً من أمنها القومي كما يصرح المسؤولون على مستويات عدة . ولا مجال هنا للانخداع بهذا أو ذاك من الآراء التي تقول إن الأزمة الفلسطينية تأكل من رصيد أمريكا في المنطقة . هذه حقيقة كانت موجودة دائماً لكنها ليست في حساب السياسة الأمريكية التي تصنعها كتل الضغط الاقتصادية لمجمع الأسلحة والنفط . على أي حال من يربط أزمات المنطقة ربطاً محكماً هو أمريكا نفسها فهي تتعاطى مع إيران من زاوية دورها الاقليمي، ومع مستقبل العراق من زاوية النتائج التي تترتب على توازنات القوى في المنطقة، ومع الملف الفلسطيني كجزء من النظام الاقليمي، وهو كذلك، في العلاقة مع سوريا ولبنان والأردن ومصر . من المهم أن نعرف كيف أن الغرب وأمريكا على وجه الخصوص تتعاطى مع مشكلاتنا جملة مترابطة وتنظر إلى المنطقة كسلسلة من الحلقات المتشابكة، بينما تفكر الكثير من الدول العربية على انها قادرة على الخروج من هذا الاشتباك الاقليمي الواسع . ما يقود تركيا مثلاً إلى التورط اكثر في سياسات المنطقة يتجلّى في التأثير الذي سيحدثه مستقبل النظام في العراق ومستقبل الأكراد وحدود النفوذ الإيراني . إذا صح ما نقول فإنه لا يكفي أن تسارع السلطة الفلسطينية إلى الاستجابة لمطلب نتنياهو في المفاوضات المباشرة . لا أفق لهذه المفاوضات لأن الحل الذي يقدمه نتنياهو دون ما تستطيع قبوله ولأن مشكلات المنطقة مترابطة وتحتاج إلى تفاهمات وتسويات شاملة . لقد توقف مسار التسويات الجزئية الذي اقترحه كيسينجر عند مصر ولم ينجح في فك ارتباط الأردن بمستقبل فلسطين ولم تنجح “أوسلو” في حصر الصراع بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني .
الخليج