ماذا يمنع إصلاح جامعة الدول العربية؟!
ميشيل كيلو
عقد في ليبيا لقاء عربي مصغر، بمبادرة من رئيس القمة في دورتها الراهنة العقيد معمر القذافي، لدراسة أحوال الجامعة العربية وتلمس سبل إصلاحها.وقد حضر اللقاء، إلى جانب صاحب الدعوة، رؤساء مصر واليمن والعراق وقطر، وانتهى بالفشل في التوصل إلى اتفاق، لوجود اتجاهين متناقضين سيطرا على نقاشاته وحالا دون تحقيق الهدف منه.
ليس إصلاح الجامعة العربية فكرة جديدة. إنه مشروع له من العمر ما لها هي نفسها منه. وقد دأب عرب كثيرون على المطالبة بإصلاح ما كانوا يسمونه ‘ بيت العرب ‘، الذي بان مبكرا عجزه عن تلبية حاجتهم إلى الوحدة، ثم عن إدارة خلافاتهم وتناقضاتهم في أجواء طبيعية، وتحول، منذ وقت طويل، إلى أداة فاقمت مشكلاتهم، مثلما بدا جليا بعد زيارة السادات إلى القدس المحتلة، واتفاقية كامب ديفيد مع العدو الإسرائيلي، ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس، وما رافق ذلك من تقليص دورها وزعزعة مكانتها، المزعزعة أصلا، في الحياة العربية العامة، كما في علاقات العرب البينية والخارجية.
أسست الدول العربية الجامعة عام 1945، فجاء دورها التوحيدي معدوما والتوفيقي ضعيفا. وبان افتقارها المبكر إلى مؤسسات لتسوية خلافاتهم كمحكمة العدل العربية، التي طالب بعض أمناء الجامعة بإيجادها دون جدوى، بينما تراجعت وظيفية مؤسستها الأخرى، عنيت مؤسسة القمة العربية، وتزايدت مقاطعتها، وتعاظم التنصل من قراراتها، فغدت جهة لا حول لها ولا طول، انقسم أعضاؤها في طور مبكر من حياتها إلى معسكرات وتيارات متناقضة، ارتبطت برؤى ومصالح وجهات متباينة بل ومتعادية، افتقرت إلى ثوابت وحدود دنيا من التفاهم، وإلى مشتركات تؤثر إيجابيا على سياساتهم داخلها، بينما نقلت كل واحدة منها مصالحها ورؤاها إلى ساحة الجامعة، لتتصارع وتتنازع وتحبط أي مسعى قد يؤسس لمواقف عربية منسقة أو متقاربة أو موحدة. إذا ما أضفنا الآن إلى ما سبق قوله حول افتقار الجامعة إلى أدوات ومؤسسات فاعلة وملائمة، وافتقار الدول إلى خيارات متقاربة ومصالح متوافقة، غموض ميثاق الجامعة وعجزها عن التكيف مع رغبات الشعب العربي الوحدوية، تبين لنا وجود نمطين من المعوقات يشلان الجامعة ويقيدان عملها، أولهما الواقع السياسي القائم داخل الدول العربية وفيما بينها، وهو يعمق حال التجزئة والتباعد العربية القائمة، وثانيهما واقع الجامعة نفسها، الذي لا يترك لها غير هوامش حركة ضيقة وتزداد ضيقا باضطراد، تبدو معها وكأنها إحدى مستلزمات وضع العرب التناحري، الذي يريدها ساحة تشحنها حكوماته بالعراك والصراع، لا يتفق اسمها مع دورها، فهي ليست جامعة بل ‘مفرقة العرب’.
انقسم العرب، منذ بدايات الجامعة، إلى معسكرات تتخذ مواقف متباينة منها، فأعلن بعضهم رغبته في تغيير وظيفتها، وقدم مقترحات تعيد النظر في هيكلها وآليات عملها، منها مقترح ليبي قدم في نهاية تسعينيات القرن الماضي، استهدف جعلها ‘أداة للوحدة العربية ‘، من خلال فصل علاقات العرب بعضهم مع بعض عن مؤسساتها القيادية المقترحة، التي ستتألف من قادة الدول، وستبدل وظيفة أمانتها العامة بتحويلها إلى جهة تنفذ قرارات هؤلاء، تتخطى صلاحياتها الدول وتلزمها في آن معا، بما أنها ستعيد تنظيم علاقات المجال القومي وستوطده على حساب دوله القطرية. إلى هذا، قدمت مقترحات تتعلق بإضافة صلاحيات، جزئية غالبا، إلى عمل أمانة الجامعة العامة، وبتوسيع أو تعديل مجالات عمل بعض دوائرها. ولعل المؤتمر الذي عقد بالأمس في ليبيا فشل بسبب تناقض مطالب وتصورات هذين التيارين، فضلا عن أسباب أخرى تتعلق بالحال العربي الراهن، الذي يشجع الحفاظ على ما هو قائم من مؤسسات وطرق عمل، ويرفض أي مسعى تغييري يريد تبديل أحوال الجامعة وأساليب اشتغالها، والحد من طابع العلاقات العربية / العربية المتناحرة. هذه الأسباب يمكن تلخيصها على النحو التالي:
– افتقار الوطن العربي إلى دولة أو محور أو كتلة يمكن أن تجمع أطرافه وتحد من خلافاتها وتناقضاتها، وأن تبلور مصالح مشتركة أو متقاربة ملزمة لها. بافتراق المحور السوري/المصري/السعودي، الذي تأسس عام 1996 في مدينة الاسكندرية، وابتعاد مصر أو إبعادها عن الشأن العربي، تحولت دول الوطن العربي إلى كيانات واهية الروابط، يجمعها الخلاف والاختلاف، ويغلب الصراع والتناحر على صلاتها ومصالحها.
– تراجع المسعى القومي/الوحدوي إلى أدنى درجاته في تاريخ العرب الحديث، وتلاشي الفكرة الوحدوية، حتى ليخال الناظر إلى العرب من الخارج أنه لم يعد هناك، أو بالأصح لم يكن هناك، آصرة تشدهم، وأنهم لا يشتركون في اللغة والتاريخ والدين والآمال والمصالح والجغرافيا… الخ، بل هم أقوام متنافرة ترفض التعايش مع بعضها، ما يفرقها ويمزقها أكثر بكثير مما يجمعها ويوحدها. تراجعت الفكرة الوحدوية، وتلاشت السياسات القومية، بينما تتقدم المشاريع الإقليمية الساعية إلى وضع العرب تحت إبط جيرانهم، القريبين والبعيدين، التي تعاملهم كمزق وفرق وتكوينات مستضعفة وهزيلة، عاجزة عن الحفاظ على مصالحها واستقلالها، ويفتقر حكامها إلى شرعية داخلية تمكنهم من الحفاظ على مواقعهم.
– وجود مشاريع أجنبية لتفتيت الدول العربية القائمة، تتظاهر على أخطر وجه في العراق، حيث تتصارع دون هوادة إرادات دولية وإقليمية وعربية وداخلية تمزق العراق، يمكن أن تنتقل غدا إلى بلدان عربية أخرى. بالأمس القريب، كان الخارج يمنع وحدة العرب، أما اليوم، فإنه يشجع تفكك الكيانات القطرية ويدعمه ويعمل له، بينما الحال العربي في أدنى درك بلغه منذ بداية العصر الحديث.
هل يمكن إصلاح الجامعة العربية في أحوال كهذه؟. أليس إصلاح ولملمة أحوال العرب المقدمة الحتمية لإصلاح ولملمة أحوال جامعتهم؟. لماذا لا تعقد خلوة عربية مفتوحة يتدارس خلالها الزعماء موضوعا واحدا لطالما تحاشوه، مع أنه الموضوع الوحيد الذي يستحق الاهتمام في أيامنا: ترميم أوضاع العرب، أمة وحكومات ونظما وشعوبا، وانتشالهم من واقع عصيب يطاولهم جميعا، ليسوا فيه صناع مصيرهم بل مجرد متفرجين على غيرهم وهو يصنعه لهم، بالكيفية التي يريدها وعلى هواه!.
ليت العقيد معمر القذافي دعا إلى لقاء كهذا، وأعلن أن مأزق الحياة العربية المشتركة يكمن أيضا في افتقار الأمة إلى عقل سياسي متقارب أو موحد يملي عليهم ممارسات مشتركة أو موحدة. لو أنه فعل، لكان قدم خدمة كبيرة لأمته، في لحظة مفصلية من أخطر ما اجتازته من لحظات. أما فصل وضع الجامعة عن الوضع العربي، ومحاولة إصلاحه باعتباره موضوعا مستقلا عن الواقع القائم، فهذا ضياع للوقت، نتيجته الوحيدة المزيد من انقسام وفشل العرب، باعتراف البيان الختامي عن اللقاء، الذي أقر بانقسام أطرافه القليلة إلى كتلتين، وفشلها في التفاهم على أي شيء.
ليست الجامعة غير مرآة ينعكس فيها الواقع العربي. إذا كان هذا قبيحا، كان من المحال أن تعكس المرآة غير القبح. وعلى كل حال، فإن وضع الجامعة لن يتغير ويتحسن، إلا بقدر ما يتغير الواقع العربي ويتحسن!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي