صفحات العالم

هل ينقذ القبطان السفينة

ألكسندر كوكبرن
في الشرق والغرب ظهر الفساد، وأنى مددت بصرك فجعك مشهد الدمار في البقاع القصية والدانية في هذا البلد الذي اجتاحه الخراب الاقتصادي فتركه قاعاً صفصفاً. وهآنذا أسير اليوم في رقعة في أقصى شمال كاليفورنيا، فتقودني قدماي لألج ورشة ومحل سباكة محلية، وهو مكان شاسع الاتساع يستخدمه مقاولو البناء. وثمة داخل المحل لمحت شخصاً آخر غيري أتى ليبتاع أنابيب بلاستيكية بخمسة دولارات. وتطوع أحد أصحاب المحل الذي بدا كأنه يبتغي تزجية الملل وراح يحدثني عن همه هذه الساعة، وكانت ومضة عابرة من بريق أمل بدده هول الأزمة أو كاد قد برقت من ثنايا قسماته، وقال الرجل: “نتولى حالياً بناء وتجهيز بضعة حمامات ومراحيض. والناس الوحيدون الذين يبنون حقيقة هذه الأيام إنما هم مزارعو الماريجوانا هناك في مقاطعة هومبولت الجنوبية شمالي كاليفورنيا”.
غض الطرف هنيهة عن هومبولت هذه التي حباها الله بشيء من الثراء ورغد العيش إذ حظيت بنعمة كونها ضلعاً رئيسياً في مثلث الزمرد المحظوظ المكون من المقاطعات الثلاث في كاليفورنيا، منديسينو وترينيتي وهومبولت التي تعتبر أكبر مقاطعات إنتاج الماريجوانا في كاليفورنيا، وابدأ الحساب والتقصي وسيروعك الأمر حقاً فعدد ما فقد حتى الآن من وظائف في ولايات أمريكا يزيد على المليون وثلاثة أرباع المليون وظيفة. وأما معدل البطالة الإجمالي الحقيقي حسب خبير الاحصاء جون ويليامز، ووفقاً للمعايير التي كانت سائدة قبل عهد ريجان فقد ارتفع إلى 18% في يناير/ كانون الثاني عن مستوى 17،5% في ديسمبر/ كانون الأول.
وتذكرنا هذه الأرقام المفزعة اليوم بزمن الكساد العظيم في حقبة الثلاثينات، بل سيزداد الأمر سوءاً وستتردى الأوضاع بصورة أكثر مأساوية خلال الأشهر القليلة المقبلة بعد أن توصد المصانع والشركات أبوابها ويبتلعها يمّ البطالة أفواجاً. نعم، قد شرع الاقتصاد الأمريكي بالترنح، فالأزمة أخطر بكثير مما يتصور معظم الناس ونحن نغذ السير نحو شتاء اقتصادي قارس الزمهرير، وحسبك للتحقق مما أقول أن تلقي بنظرة عجلى على محال التجزئة في الشوارع الرئيسية في كافة أنحاء أمريكا اليوم فتدرك أننا دنونا من القاع. فالإنفاق الاستهلاكي يهبط بشكل مطرد متسارع وبصورة فاقت أي انخفاض فيما مضى منذ أن بدأوا بتوثيق السجلات في عام 1947. ونحو ربع عدد مشتري المنازل إما أضحوا عاجزين عن تسديد الأقساط أو طالتهم محنة حبس الرهن، فرياح الإفلاس تعصف في طول البلاد وعرضها ولم تعد تنفع بطاقات الائتمان أو تشفع.
وفي كاليفورنيا، موطني، الذي لطالما ظل يباهي بأنه ثامن أكبر اقتصادات العالم، لم تعد هذه الولاية بقادرة على تسديد فواتيرها، فثمة انكماش حاد في المداخيل ولا تستطيع كاليفورنيا بيع ما يكفي من السندات. وكان مراقب النفقات في هذه الولاية جون شيانغ قد أعلن يوم 26 يناير/ كانون الثاني أن كاليفورنيا تعتزم سك نقودها بنفسها. وتوشك هذه الولاية أن تتعامل عما قريب بالكمبيالات (أوراق “إني مدين لك”) وها هو حاكمها شوارزنجر ومساعدوه يتفاوضون مع البنوك ليقبلوا الكمبيالات كودائع.
لنواجه الحقيقة: أمريكا في حالة انهيار اقتصادي. وها هو الرئيس أوباما استطاع بالكاد تمرير تشريع الإنعاش والتحفيز الاقتصادي بكلفة 878 مليار دولار، ورغم أنها أكبر صفقة إنقاذ في تاريخ أمريكا كله، شن بول كروغمان، المتألق بجائزة نوبل التي حازها في الاقتصاد هجوماً عنيفاً عليها في العمود الذي يكتبه في صحيفة “نيويورك تايمز” ووصفها بأنها هزيلة وشحيحة ومترعة بالثغرات وتحابي أناساً على حساب آخرين.
وارتأى الجمهوريون اتخاذ موقف معارض لحزمة التحفيز التي عرضها أوباما، ولربما كان قرارهم هذا بإشاحة الوجه عن الصفقة وإيثار السلامة أغبى موقف اتخذ منذ أن حاول والتر مونديل هزيمة ريجان في عام 1984 بأن وعد بزيادة الضرائب. وعندما ذهب أوباما إلى الكهارت في ولاية انديانا الأسبوع الماضي حيث تجاوز معدل البطالة الرسمي فيها 15%، وجه الدعوة إلى السيناتور الجمهوري ديك لوغار ليصحبه في جولته، سيما وأن لوغار هو النائب عن انديانا، فرفض مرافقته، وكانت تلك إشارة مؤسفة تنضح بالطائفية وستكلف الجمهوريين كثيراً حين تحين انتخابات 2010.
ومن الغايات الكبرى لخطة أوباما تأمين 4 ملايين فرصة عمل جديدة وإعادة تأهيل البنى التحتية. غير أنه كي ينهض الاقتصاد لا بد من انتعاش قطاع التصدير. وثمة شكوك كبيرة في أن يتعافى هذا القطاع في القريب العاجل خاصة أن أزمات أمريكا تتعاقب فيأخذ بعضها برقاب بعض.
وكان تيم غيثنر وزير خزانة أوباما قد حاول مطلع هذا الأسبوع تسويق خطته المالية لتعزيز القطاع المصرفي وانتشاله من أزمته. وطرح غيثنر الأطر العريضة للخطة الجديدة التي تهدف بشكل أساسي إلى تحريك سوق الائتمان المجمد وتعزيز القطاع المصرفي المترنح، ورهن تعافي الاقتصاد بانتعاش القطاع المالي إلا أنه أخفق في إقناع الأسواق بقدرته على أن يبلي بلاء حسناً، وينجح في الميدان الذي لم يفلح فيه سلفه هنري بولسون.
وانتقد مراقبون الخطة بالإشارة إلى أن الحوافز المخصصة لإعادة رسملة المصارف المتعثرة إما أنها كانت “غير كافية” أو أنها “غير مفصلة” بما يكفي لطمأنة المستثمرين بشأن قدرة الحكومة على التعامل بحصافة وحنكة مع الأرصدة الهالكة التي ينخر سوسها المصارف حتى يكاد يقوضها.
واستحق غيثنر في الحقيقة الإخفاق الذي منيت به مساعيه لإقناع المعنيين بخطته التي راح يغمغم بها ويتلعثم أثناء عرضه لملخصها، وزاد الطين بلة حين أقر بأنه لم يكن لديه في الحقيقة خطة واضحة، إلا أنه يصل الليل بالنهار في عمل دؤوب ليتوصل إلى تصور شامل بشأنها، فلا غرو أن رجّعت الأسواق صدى اعترافه فهبطت. واتسمت هذه الخطة التي تزيد قيمتها على تريليون دولار بأنها محكومة بالتصور المعهود الذي يمكن للمرء أن يتوقعه من ابن البنوك المتشبع بالعقلية المصرفية والذي يحاول فرض مفاهيمه وتتلخص فكرته عن الإنقاذ بإقراض الناس المال ليزيد من إغراقهم بمزيد من الديون. والأمريكيون ليسوا بحاجة إلى مزيد من الديون بل هم بأمس الحاجة إلى نجدة حقيقة تفرج عنهم وتريحهم من المديونية.
وزادت خطة أوباما للإنقاذ من عجز ميزانية سنة 2009 المالية التي ورثها عن بوش. وتفتح هذه الخطة ثغرة في الإنفاق تقدر بنحو 3 تريليونات دولار. وكما أشار بول كريج روبرتس مساعد وزير الخزانة السابق في عهد ريجان متسائلاً باستهجان: “من ذا الذي سيشتري 3 تريليونات دولار من سندات الخزينة الأمريكية؟” لن يشتريها المستهلك الأمريكي. فالمستهلك طرد من وظيفته وأضحى عاطلاً عن العمل وهو مفلس خوت جيوبه من المال. وتبلغ مديونية السوق الائتماني للقطاع الخاص نحواً من 174% من إجمالي الناتج المحلي، وهو مبلغ هائل ترتعد من ضخامته فرائص كبار رجال الأعمال وسيجعل الصينيين المحترسين والسعوديين اليقظين ينظرون شزراً وبريبة إلى مثل هذه الاستثمارات المفخخة ويثنيهم عن أن يمولوا هذه الصفقة ويتولوا التبعات المادية لها ويكفلوها ضد الخسارة، فالمخاطر ها هنا جمة لا تغري أبداً بالمجازفة بشراء سندات الخزينة التي لا تدر سوى أدنى الفوائد إلى درجة أنه شاعت نكتة في الأوساط المالية تقول إن الخزانة الأمريكية هي المؤسسة الوحيدة في العالم التي تلتزم شرع الإسلام فتحرم الربا ولا تعطي أي فوائد.
الانهيار يعصف بكل شيء وتتداعى الصروح من حولك بعد أن هوى حجر الدومينو الأول. إلا أن المطبعة الرسمية الحكومية مازالت، كعهدنا بها، تربض عتيدة وتواصل نشاطها الدؤوب وتطبع الدولارات تضخها بدفق غزير يفاقم الباطلة ويسعر نيران التضخم ويزيد الأمر سوءاً.
ليس لدى الجمهوريين خطة، ورغم أن أوباما شحذ كل ملكاته الخطابية واستنهض مواهبه في الإقناع وأخرج من جعبته درر فصاحته عساه يستميل العقول ويروج لحزمة ترياق الإنقاذ ويسوق خطة التحفيز التي تفتقت عنها قرائح أوباما ومعشر جهابذته، إلا أنه حتى أولئك الذين سحرتهم شخصيته واستهواهم ألقها خاب أملهم إذ لم يعثروا على بغيتهم فتسلل إليهم داء الشك، فهل حقاً لدى الزعيم المخلص رؤية ثاقبة متماسكة تقنع العقلاء والحكماء من الناس بأن الفجر صادق وأن الفرج قادم؟
بوسع الشعب الأمريكي أن يفهم ويستوعب فكرة أن ضخامة الكلفة واتساع البرنامج في أدبيات التخطيط الاقتصادي المركزي يمكن أن تشفع أو تنفع وتؤتي أكلها لتكون طوق النجاة مهما كان الثمن باهظاً. ويستعرض الأمريكيون حشداً من الأمثلة، بدءاً بالصفقة “الجديدة” التي عالج بها الرئيس روزفلت الكساد العظيم، أو إقامة شبكة الطرق السريعة بين المدن والولايات الأمريكية، وهو المشروع الذي مازال يعتبر أكبر إنجاز في ميدان الأشغال العامة عبر التاريخ، وكان الفراغ منه في حقبة الخمسينات، أو مشروع الرئيس كنيدي لريادة الفضاء، أو حتى في أشد الصور عبثية وتبديداً، خطة ريجان، حرب النجوم التي لاتزال غير قابلة للتنفيذ حتى الآن، بل تلتهم 19% من ميزانية الدفاع. خطة أوباما المتورمة خاوية حتى من الأبهة والزخرف الذي قد يغوي المرء فيقتنع. خطته التحفيزية هذه الأشبه بنثر المليارات هنا وهناك دون طائل، بل هي أقرب ما تكون إلى العبارة التي أطلقها أبي كلود في تعريفه لموجز عن كتاب حيث قال والدي في وصفه لهذه النظرة العامة التي تناولت ذاك الكتاب: “إنه في منتصف الطريق بين تحقيق أمنية ومحاولة جني المال بالتستر وراء دعاوى وحجج زائفة”.
وثمة ضبابية مروعة تكتنف أوباما الذي ظل دائماً لا يراهن إلا بحذر ويغالي في التحوط. هناك سمة من سماته تتشح بغموض يستثير الريبة ويوقظ كوامن الشك ويبعث على التوجس. فما الذي يسعنا استشفافه وسط لجج الغموض هذه ونحن نجهد في استقراء ملامح الغد في خضم متاهة الألغاز هذه؟ وإلى أين المسير؟ فأمريكا اليوم كسيرة حسيرة تقف على شفير الإفلاس أو تهوي في دركاته وتحاول أن تستجدي التمويل حتى من الصين. إلا أن هذا الرجل قد وطد العزم على ما يبدو على زيادة قوات أمريكا وتعزيزها في أفغانستان، التي يخبرنا مركز تحليلات الميزانية أن إرسال جندي واحد إليها يكلفنا 775 ألف دولار في السنة الواحدة. وكان أوباما قد أسخط قواعده التقدمية الطلائعية هذا الأسبوع بأن تعهد وألزم إدارته في مناسبتين بالقوانين غير الدستورية ذاتها التي كبل بها بوش الأمريكان وهي: قانون السرية وقانون انتحال وانتزاع حصانة للمسؤولين التنفيذيين حتى لا تطالهم سطوة القانون وسلطته، وهو النهج الذي أزرى ببوش وجعله واحداً من أشنع الرؤساء وأبغضهم في التاريخ كله. ويستطيع طاقم أوباما أن يظهر كأنه يظفر بتعيينات آمنة سالمة. غير أننا إن شئنا الإيجاز وتلخيص الأمر قلنا إن هذه الأسابيع الأولى مصيرية حاسمة في عهد الرئيس. إلا أن التيه، على ما يبدو، ابتلع بوصلة أوباما ففقد حس الاتجاه، وها هي السفينة تمخر العباب مسرعة توشك أن ترتطم بالصخور.
* كاتب صحافي وناقد ومحلل سياسي يشارك في تحرير موقع “كاونتر بانش” على الشبكة
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى