صفحات سورية

المسار التركي كما لم تعرفه المنطقة العربية

null
صالح بشير
لا يتردد مراقبون كثر في وصف مساعي المحكمة الدستورية التركية لحظر حزب العدالة والتنمية، بدعوى منافاته لعلمانية الدولة، بـ»الانقلاب القضائي». والوصف ذاك محق صائب، على نحو قد يتجاوز تلك الواقعة العينية ليستوي تشخيصا لا يخلو من دقة لحال الدولة الأتاتوركية العلمانية في طورها الراهن.
إذ يبدو، لوهلة أولى، أن الدولة تلك، ممثلة بمؤسساتها الآخذة بالإيديولوجيا الأتاتوركية، إدارة وجيشا ومحكمة دستورية، قد اهتدت إلى وسيلة لتجنب اللجوء إلى الانقلاب العسكري، تعيد بواسطتها الأمور إلى النصاب الذي تريده، على نحو ما فعلت مرارا في تاريخ الجمهورية التركية، بأن تمكنت من مأسسة الممارسة الانقلابية. قد يبدو القول بذلك مفارقا، لفرط ما بين الانقلاب والمؤسسة من تناقض جذري، أصلي، إذ أن من «شيم» الأول أن يُبطل الثانية، تعليقا أو إلغاء، أن يستقوي بالاستثناء يتحرك من موقعه ليأتي على قواعد سارية وعلى سنن مرعية، عنفا وتجاوزاً. غير أن العلمانيين الأتراك، وهم على غير ما هي حال نظرائهم في المنطقة العربية، ينتظمون في مراكز قوة نافذة داخل جهاز الدولة تستوطنه، قد أفلحوا في ذلك الأمر الذي يعدّ، نظريا، من قبيل تربيع الدائرة، أو أن ذلك ما يوحون به.
إذ ما لا شك فيه أن حلّ حزب العدالة والتنمية، الذي تزمع المحكمة الدستورية اتخاذ قرار يجيزه خلال هذه الصائفة على الأرجح، فعل انقلابي، وأن أداة إصدار ذلك القرار وأداة إنفاذه، أي تلك المحكمة إياها، قانونية. كأنما الأمر يتعلق بنزاع بين مرتبتيْ شرعيّة، أو أن العلمانيين الأتراك نجحوا في إظهار الأمر على أنه كذلك، لا بنزاع بين شرعية ناجزة أو قائمة وقوة تباغتها إبطالا من خارج النصاب القائم أو بواسطة تجاوزه.
أما عن شرعية حزب العدالة والتنمية، فلا غبار عليها، نالها من ثقة محضها الناخبون وجددوا محضها في اقتراعين متتاليين، ومن نجاحات تحققت على الصعيد الاقتصادي، ومن التزام بالتوجهات الأساسية للدولة، ومن اعتدال لم يُقترف حتى الآن ما ينافيه. وأما عن شرعية المحكمة الدستورية، فهي صنو تلك التي تتمتع بها الدولة التركية لا أقلّ، وهي لذلك راسخة. فهي جهاز من أجهزة تلك الدولة بل ركن من أركانها، طالما أنها حارسة قانونها الأساسي، وذلك ما سلّم به حتى حزب العدالة والتنمية ما إن قبل بخوض اللعبة الديموقراطية في إطار الوضع القائم، تسليما قد يبلغ به، على الأرجح، مبلغ الامتثال لقرار حلّه إن صدر.
وذلك ما قد يمثل فرادة الحالة التركية بين تجارب الحكم ما قبل الديموقراطية أو الساعية إلى الانتقال إلى الديموقراطية. فالحالة تلك ليست استبدادا محضا ولا هي بـ»الديموقراطية المقيّدة» على النحو المعمول به في بعض بلدان المنطقة العربية على سبيل المثال. تختلف عن الأول في أنها تتيح انتخابات حقيقية، حرة، أي ليست من قبيل استفتائي، مشرعة بالتالي على إمكانية التداول على الحكم، بما في ذلك مراتبه الرمزية العليا، شأن رئاسة الجمهورية التي آلت إلى عبد الله غل، أي إلى رجل يراه العلمانيون إسلاميا، وتتباين عن الثانية في كون زمام المبادرة «الديموقراطية» ليس بين أيدي السلطة التنفيذية، تتحكم فيها تضييقا أو إلغاء، تنفرد بالصلاحية في شأنها انفرادا كاملا، وفق ما تقتضيه مجريات سياسية أو «أمنية» طارئة، دون التقيد بقواعد وأعراف ومرجعيات معلومة تنظم الحياة السياسية.
ما حصل في تركيا وما لم يحصل في بلدان الجوار القريب والأبعد، أن مثل تلك القواعد والأعراف والمرجعيات أضحت ماثلة إلى حد بعيد. ثانوي، والحالة هذه أن تكون، لدى هذا الطرف أو ذاك، العلماني أو الإسلامي (شرط أن يكون من طينة حزب العدالة والتنمية)، «أجندة خفية»، طالما أن الإقدام على تفعيل تلك الأجندة، لا يمكنه أن يتحقق إلا بخرق تلك المبادئ الناظمة، تلك التي يبدو حزب رجب طيب إردوغان من الحرص عليها، أقله في ما يُبدي ولوعيه العميق ربما بأهميتها سلاحا بين يديه، بحيث قد لا يتردد عن الامتثال لقرار حل حزبه.
مثـــل ذلك الخرق هو ما قد ترتكبه المحكمة الدستورية إن هي بلغت بتهديداتها حيال حزب العدالة والتنميــــة مداها الأقصى. فهي ستقدم بذلك، وهي الهيئة غيــــر المنتخبة، على إبطال إرادة أغلبية الناخبين الأتـــراك، بل ومناطق بأسرها تتعرف على نفسها في ذلك الحزب وتمحضه ثقتها. صحيح أن الانتخاب ليس شرطا في هيئة كتلك، بل إن الابتعاد بها عن أهواء الجمــوع هو من عوامل فاعليتها، غير أن الأمر، في الحالة التـــي تعنينا، ينافي ذلك الأنموذج النظري، والمعياري في الآن نفسه، طالما أن المحكمة الدستورية التركية تستحوذ عليها نخبة إيديولوجية، ما يفقدها حيــادها وما يحولها إلى أداة صراع سياسي ويخرج بها عن دورها وعن وظيفتها. إذ أن مهام هيئة كتلك، تنحصر، افتراضا، في النظر في مدى دستورية القوانين التي تُسنّ، والإجراءات التي تُتخذ على هيئة مراسيم تصدرها السلطة التنفيذية، لا النظر في أحقية حزب من الأحزاب في الوجود، والحال أن الحزب ذاك قام وفق القوانين المرعيّة وعمل في إطارها حتى فاز بالأغلبية وتولى حكم البلاد لولايتين متتاليتين. كان بإمكان المحكمة الدستورية أن تعلن لا دستورية قانون الأحزاب أصلا، كي تكون منسجمة مع وظيفتها ومع دورها، أما إن لم تفعل، وخصت حزب العدالة والتنمية بالحظر، فهــــي لــن تعدو أن تكون ناطقة بلسان تيار بعينه مؤدلج، يتوسل الدولة وأجهزتها لتنفيذ «اجندة خفية» وسياسة فئوية. ناهيك عن أنه لا جدوى من مثل تلك المناورات، عــدا توتير الحياة العامة، إذ ليس ما يحول دون عودة حزب العدالة والتنمية إلى الوجود تحت مُسمّى آخر، وبقيادة غير تلك التي ضُرب عليها الحجر، والفوز في أي انتخابات مقبلة بنسب أعلى، مجللا بهالة الضحية.
مؤدى كل ذلك أن العلمانيين الأتراك وإن أفلحوا في مأسسة الانقلاب، على ما سبقت الإشارة في بداية هذه العجالة، إلا أن النجاح ذلك نسبي أو مُتوهّم، أو أنه أقرب إلى الفشل من حيث النتائج المرجوة منه، أو هو جاء بمثابة التعويض عن انقلاب عسكري أضحى متعذرا، لا يستسيغه العصر ولا حلفاء تركيا الغربيين (من ولايات متحدة واتحاد أوروبي له من وسائل الضغط على أنقرة الكثير، مع أنهم كثيرا ما تسامحوا معه في فترة الحرب الباردة) ولا عاد المجتمع التركي، وقد تطور وتعقد وازداد تنوعا بحيث ما عاد من الممكن قسره على إطار ثابت جامد، يطيقه، حتى أضحى المحافظون، وهم في هذه الحالة غلاة العلمانيين، في حالة دفاع لا في حالة مبادرة، يلوذون بمواقعهم المكتسبة، والتقليدية، داخل أجهزة الدولة، يستنهضونها لتأجيل ما لا مناص من حصوله. إذ ربما تراجع أولئك العلمانيون لحظة أن توهموا مأسسة الممارسة الانقلابية، إذ أنه لا يسع الانقلاب إلا أن يكون من المؤسسة براء، ينفيها نفيا قاطعا. تلك طبيعته، حتى إذا ما أراد مأسسة، على ما حاول العلمانيون الأتراك، أخفق وحكم على نفسه بالإلغاء.
وتلك قصة مسار لم يتحقق في المنطقة العربية، حيث لا تزال حالة الطوارئ قائمة، لا تنفك آجالها تُمدد، وتُحل الانقلاب في الحياة العامة، في كل لحظة وآن… «انقلابا مستمرّا» على ما كتب مرة الزعيم الاشتراكي الفرنسي السابق فرنسوا متيران، مُجحفا في وصف النظام الذي أرساه الجنرال ديغول، وكم كان ليكون مصيبا لو عنى بعض أنظمة منطقتنا.
الحياة     – 22/06/08
————————————-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى