قراءة في كتاب ” نقد العقلانية العربية “
عبد الحفيظ الحافظ:
في ذكرى ثورة تموز1952
في هذه الذكرى نقدم قراءة لكتاب ” نقد العقلانية العربية ” للمفكر المرحوم إلياس مرقص ، الذي لمْ يتحْ له أن يراه ، وللكاتب عشرات الكتب الهامة التي ألفها وترجمها منها : ” نقد الفكر القومي ” و” الماركسية والشرق ” و” نظرية الحزب عند لينين “..
يقدم هذا السفر 900 صفحة مادةً غنيةً ، تتمحور حول موضوعات نظريةٍ وعمليةٍ راهنة ، ويتضمن مداخلات المفكر مرقص على مداخلات عددٍ كبيرٍ من رجال الفكر والثقافة العرب ، الذين اجتمعوا في تونس 12-13-14 /7/ 1988 ، ندوة ” العقلانية العربية : واقع وآفاق ” .
نطلع في هذا الكتاب على جهود المفكرين في الندوة ، التي تناولت حياة العرب وواقعهم العملي ومعرفتهم للآخر ، كما نطلع من خلال الكتاب على ” شمولية معارف المفكر الراحل ، وجدية مسعاه المعرفي /النظري والسياسي” ، وفي الكتاب رؤية هذا المفكر لـ” عبد الناصر ” وللعصر” الناصري “.
تابع الأستاذ إلياس مرقص أعمال الندوة كما يفهم المتابعة : التناصت والتجابه ، ونقده الشديد أن هذا ضعيفٌ في واقعنا العربي . ” أنا ضد مفكرين ، وعقلانيين وعرب ، في ندوة عقلانية العرب ، جعلوا الظهورات فكراً “740 والقومي العربي لا يرى الإنسان في قوام الأمة والدولة ، و ” المواطن في قوام الوطن ، المواطن لا الرعية “647 ، إنه لا يرى الكلي في قوام الإنسان والمواطن الفرد ، ومن المؤسف أن يكون الفكر القومي يحمل الحداثة والعقل العملي لكن ” بدون الإنسان والانتقائية والتاريخ، أي بدون الجذر الروحي الفكري للتقدم الذي رفع أوروبا “802
ويخلص مرقص إلى أن الفكر القومي العربي كتيار قد ” استغنى بـ ” الثورة ” عن ” التقدم ” ونفخ ” الثورة ” وفرَّغ ” التقدم “397
ثم يتساءل هذا المفكر : كيف يمكن أن تكون عربياً ، تريد أمةً عربيةً .؟ وحدة عربية . وطناً عربياً ” إذا كنتَ غير متعاطف مع كل إنسان ومع كل جماعةٍ مظلومةٍ في هذا الوطن “215 ، من هنا رأى أن ” النقد الطبقوي اليساري لعبد الناصر كان يحمل صفتي : المثالية والكذب “383 ، ويضيف لاشيء أكثر تمزيقاً من ” الوحدة ” كما يؤمن بها ” العرب ” ، إنه يطالب ” بإخضاع ” العلم ” و” العقل ” للفكر مع لحن الكلي والحقيقة والحق والخير “565 .
عندما تناصت إلياس مرقص وتجابه مع مفكري وكتاب ندوة العقلانية ، قرأ التاريخ ليفهم الواقع بدأب العالم المجد ، ليتلمس مسار المستقبل العربي ” مصر وما حولها لولا تدخل بريطانية والدول سنة 1840 ضد مشروع محمد علي باشا وإبراهيم باشا النهضوي الحديث والعربي القومي ، لصالح الخلافة والطوائف ، لصالح ” الرجل المريض” “609 … كان يمكن أن تكون مصر استثناءً .
تمنى إلياس لو أن الدولة العثمانية عوضاً عن حصار ” فيينا ” أتت بالمطبعة ، لكان خيراً لها ” إن موجودنا من الطباعة سنة 1900 أقل من موجود أوروبا الغربية سنة 1500 والآن ؟ ” 298 ، ويمكن أن نقارن بين طول الطرق والسكك الحديدة في الواقع العربي ” الآن ” وفي أوروبا منذ قرنين لنرى حجم المفارقة في المواصلات وفي الإنتاج والشغل .
إنه ينتقد تجسيد الجماعة في رئيسها لأنه ” تثبيت لهذه الكتلة الذرية المذرة نافية الفردي الحقيقي ، حقيقة الفردي وواقعيته ، مجتمع الاختلاف ، جماعة الاختلاف ، متحد الاختلاف ، عملية تشارك البشر ” 895 ، ثم يعرف المجتمع : مجتمع الاختلاف وإلا فهو ليس المجتمع ، ويأخذ على أبناء أمته ، أنهم مازالوا ينتظرون المنقذ . الخليفة الصالح والمستبد العادل ، إنهم ينفون أنفسهم بدون نفي النفي .
يكتب المفكر مرقص : إن أمة العرب ” هي اليوم 4% من حجم البشرية الديمغرافي ، وأقل من ذلك بالتأكيد من حجم البشرية الحضارية والثقافي ” 758، وأنها كانت أكبر بكثير قبل ألف عام ، لكنها في ” زمن عبد الناصر ، حين كانت ملايين العرب تتحرك في يوم واحد ، وتحديداً في أيام من السنوات 1955، 1956، 1958، 1961، 1962، 1967،1970 ” حين كانت السويس تزيح ” ايدن” و”غي موليه” و” بن غوريون “758. حينها كانت الهوية العربية حقيقةً ، ولم تكن ” عقدةً وتجارةً ، حين كانت الهوية حقيقةً عاديةً جداً وعظيمةً جداً ، ولم تكن تحوَّل ، على الأقل ناصرياً ” عند عبد الناصر ” وشعبياً وأيضاً عند معظم المثقفين ، إلى جوهر موضع اعتزاز واغتناء متبادل ومنشود “758 ، لمْ تكن الهوية القومية مجرد عقدة هوية .
حين نقول : عبد الناصر حرَّك الجماهير من الخليج إلى المحيط ، فهذا قولٌ متسرعٌ ، الأصح : ” عبد الناصر فكر وعمل ، والجماهير تحركت . الجماهير ، كل إنسان فكر في وجدانه ووعيه أولاً ، ثم نزل إلى الشارع . لم نذهب إلى لندن فاتحين أو محررين ، ولمْ نغزُ أحداً ، كافحنا الغزو ” .
إن عبد الناصر واصل عصر النهضة ” يوسعها ، يعمقها ، يحولها ” 440 ، فالسياسة الناصرية اتجهت نحو إقامة الركيزة الاجتماعية للديمقراطية ، وقد فهم عبد الناصر الأصالة ” أنا أصل نفسي ، الماضي يمضي في الحاضر ، والمجموع يُنقد ، الأصنام تُدحض ” 441، عبد الناضر ضد ركود الأمة .
لا يرى إلياس مرقص أن معركة عبد الناصر كانت مع الثقافة الأوروبية ، معركته ” مع الاستعمار والإمبريالية والأيديولوجية الاستعمارية والإمبريالية ، كان يعي أن هناك أموراً كبيرةً محققةً في أوروبا ، في البلدان المتقدمة يتوجب علينا تحقيقها تحت طائلة السقوط ، ولنعترف أنه حُورب من اليسار باسم الثورية ، وباسم العلمية ، كما حُورب من اليمين باسم الأصالة التراثية والثقافة الدينية ” 614 ، لكن إلياس لا يقصد بهذا النص تقليد النمط الغربي ، هو يبحث عن العام . يميز الخاص ، العام الوارد والواجب تحقيقه : الثورة الديمقراطية البرجوازية القومية الوحدوية ، المجتمع المدني العلماني، دولة الحق والقانون .
أستاذنا الكبير ينتقد المفكر العربي بمدارسه المختلفة ، لأنه عجز عن الفهم ، عن الفكر ، فكر تاريخنا الراهن ، ورغبته في عدم الفهم ، لأن إلياس يعتبر ” مرحلتنا الناصرية أو القومية العربية التحررية مرحلة الديمقراطية والجدلية ” 439، لكنه لا يحول الزمن الناصري والناصرية إلى أيديولوجية ، إلى دوغما ، ينظر إلى العصر الناصري في سياق محاولة الأمة الجادة والشعب التحرر والتقدم .” إن العصر الناصري أهمل مسائل برزت في العصر السابق ، لكنه بالتحديد أنمى هذا النمط ذاته ، عممه على شعبٍ وأمة ، عمَّقه روحياً وسياسياً ، جذَّره في ملايين من الناس ، وبعض المثقفين أو المفكرين ” 348.
إن هذا المفكر ينتقد التضخم لـ ” العقل ” الذي لدينا ، لأننا في عهد عبد الناصر كان لدينا أقل لكننا ” كنا نرى السلام والأسلحة الذرية وأهمية مجتمع الدول . كنا نرى ما كان موجوداً في مسائل عالمية ” 124، أكثر وأهم مما نرى اليوم ، في هذا الكتاب يدعو إلياس للجهاد الأكبر ، الذي هو جهاد الذات ضد الذات ، ويعلن : عندما تصبح الأمة العربية 250 مليون أنا ، عندها نتقدم .نتوحد .
ينتقد إلياس بعض المفكرين والمثقفين ، لأنه يرى أن الحملة على الدولة القطرية باتت عندهم كأنها عداء لمفهوم الدولة ، لذا يصرخ : ” لا للقطرية مع أن وحدة العرب لا يمكن أن تكون إمبراطورية أرياف “865 ، خاطب المفكرين في ندوة تونس في قاعة باردو فندق تونس الدولي قاطبةً : ” الدولة والمفهوم يصعدان معاً ويتراجعان معاً ، السياسة والفلسفة أختان ، كلاهما ميدان العام ، فكرة الكلي ، لا دولة حقيقية بدون حق الإنسان ، حقوق الإنسان “648 ، لكن الدولة غير السلطة وأن ” الدولة هي الشيء العام والمجتمع السياسي ” 757، من هنا دعا إلياس المحاضرين في الندوة إلى “فكر السياسة ، علم المدينة ، المجتمع المدني ، حقوق الإنسان ، فكرة أن الاختلاف والتفاوت منبع القانون والحق والمساواة ، فكرة أن الوحدة العربية ليست تماثلاً بل تكاملاً بين أقطار ” 757 . كان مرقص يرى أن الدولة العربية عندما همشت المجتمع مستعينةً بالسلطة ، همشت السلطة بدورها الدولة وركبت ظهرها .
إن انحياز إلياس للإنسان وفكره الكوني جعلته يناشد المفكرين والمثقفين العرب في ندوة تونس : ” بدون حقوق الإنسان أولاً قبل وفوق حقوق المواطن ، المواطن إنسان أولاً ، المواطن مواطن المدينة أو المجتمع أولاً ، ثم بالتالي الدولة والسياسة ” 862 بدون حقوق الإنسان لا دولة ولا سياسة .
بعد هذا يضع مرقص إشارة استفهام كبيرةٍ أمام / بعد تبني الإمبريالية قضية ” حقوق ” . ” الإنسان ” الكلي – المفرد ، في ظل ” استفحال النهب والإفقار على نحو لا مثيل له ، داخل بلدان العالم الثالث أو كثير منها ” 610 ، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي كان حصارها وتوحشها الأبرز في الوطن العربي .
كتاب ” نقد العقلانية العربية ” سفر كبير ، قراءة في تاريخ الفلسفة ، تقديم مكثف لها ، تعريف بالفلاسفة عبر العصور حتى يومنا هذا ، وبالرغم من ذلك كان هم المفكر إلياس مرقص وطنه العربي، أمته العربية ، الشعب العربي ، الإنسان بدون أية صفة لكي لا تأكل الصفة الموصوف ، فالكتاب محاولة مخلصة وجادة لتأسيس فكر / وعي لمشروع النهضة . إن نقد ، دحض ، ما يطرحه المفكرون العرب في الندوة وخارجها ليس رغبةً في النقد ، إنه طرحٌ في تقدم الأمة ، هذا هاجس ، شاغل إلياس طوال حياته مع شريكه الفكري و مشاجره المرحوم ياسين الحافظ .
إن للديمقراطية شأناً كبيراً في هذا الكتاب ” لئن تكلمتُ عن الديمقراطية تحت موضوع الأمة nation فلأن الأمرين مترابطان ، ولأن لا أمة بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون مجتمع مدني حر ، بدون مواطن المدينة أو المجتمع أولاً ، ثم بالتالي الدولة والسياسة ” 862 ، إن مرقص لا يحول الديمقراطية إلى أقنوم . مقدس ، بل يربطها بالأمة ، بحق الإنسان ، بحق المواطن وبالمجتمع المدني.
الديمقراطية هي ” أولاً حقوق الإنسان وحقوق المواطن ، المساواة المدنية والسياسية ، شرع الدولة والمجتمع والبلديات ، حكم الأكثرية الانتخابية والبرلمانية وعدم الاعتراف بأكثرية أو أقلية خارج فكرة الانتخاب أو عملية اختيار الناس وإرادتهم ” 862 فالديمقراطية مشروع تاريخي تمديني عام وإلا ” قد يتحول الليبرالي إلى فاشستي على ركيزة النخبوية الراسخة “445, ويستنتج إلياس : الحرية والمساواة لا تزرعان!!!. كما لا مستقبل للعرب بدون وحدة , بشرط ترك الفكر عقيدة الأقانيم والانبثاق.
إن الثروة عند هذا المفكر ” ليست نفطاً وغازاً وذهباً , فكِّروا في العمل والتعامل , فكروا في الشغل والطبيعة والثروة والاجتماع البشري “. الأمة العربية لا يمكن ” أن تكون قطيعاً, لا يمكن أن تكون شعب إمعات “502. مثلما يعود السوفياتيون إلى عهد لينين والثورة نقدياً, يجب ” أن نعود إلى عهد عبد الناصر والقومية العربية نقدياً . إذن في الجذر والعمق ” 887.
في ختام هذه القراءة الثانية للكتاب ” نقد العقلانية العربية ” الذي أعتبره موسوعةً عربيةً بامتياز, لأنه قدم دراسة لأعمال معظم المفكرين العرب وللفلسفة وتاريخها, أختم هذه القراءة ببرنامج المفكر الراحل إلياس مرقص كما ورد في الكتاب :
” شرط انتقالنا من ” الجماهير ” و ” الاستبداد ” إلى شعب ودولة . ومن حرية الطائر الحر إلى العقل والحرية . ومن ديمقراطية واهمة جداً إلى دولة حق وديمقراطية … ” المجموع هو الثورة العربية في الفكر, للفكر وللشعب . المجموع تأسيس الأمة , الآن هنا … هذا هو مشروعي ” برنامجي ” الذي أقدمه لندوة ” العقلانية العربية واقعاً وأفاقاً ” بدون مثله بدون الالتفات إليه ومناقضته لا واقع ولا أفاق ” 884.
• كتاب نقد العقلانية العربية، دار الحصاد، دمشق عام 199