فيلم بوليسي افتراضي طويل!
فواز طرابلسي
كان لا بد لاقتراب موعد القرار الظني للمحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري من أن يؤكد الاقتناع بأن الحياة السياسية عندنا تقوم على التخييل والإشاعة والشلف والتخطيط والخرافة والتخريف، والخواف والتخويف. حيث الفضيحة إن هي إلا تستير على ما حصل. وحيث التداعيات تصب لا محالة مصبّ فيلم عن «المؤامرة» التي تتلبّس لبوس «السيناريو» أو «المشروع».
شهدنا في الآونة الأخيرة عينات عن تلك المنوعات كلها تقريباً. فيما فصول مؤامرة «التوطين» مستمرة، تكشفت فضيحة إقفال ملف فضيحة مصرف المدينة. واتخذ الأمر منحى إلكترونياً مقلقاً، وخطيراً، مع اكتشاف جواسيس لإسرائيل في مراكز حساسة من شبكة الاتصالات. ولم يكن ينقص الفيلم الافتراضي الطويل الذي نشاهده منذ خمس سنوات، غير خبر يزيده افتراضية. فقد تقرر تمثيل تفجير موكب الرئيس الحريري في حقل للرماية تابع للجيش الفرنسي قرب بوردو، الخريف المقبل. بذلك يرقى الفيلم الافتراضي من مستوى الخيال الفهلوي السائد حتى الآن إلى مستوى أفلام الخيال العلمي.
منذ أن بدأ التحقيق في جريمة الاغتيال وعبارة «تسييس» تواكبه. وللتسييس معنيان أقلا. يصعب فصل جريمة اغتيال الرئيس الحريري عن السياسة. الضحية رجل سياسي كان يتقلّد منصب رئيس الحكومة، ما يوحي ـ يوحي فقط ـ بضرورة البحث عن أطراف سياسيين أو أسباب سياسية وراء عملية الاغتيال إلى جانب أسباب ودوافع أخرى قد تكون شخصية أو اقتصادية أو سواها.
أما التسييس بمعناه الآخر فالمقصود به التلاعب بالمحكمة والادعاء والأدلة والأحكام لأغراض تتعلق بسياسات قوى وأطراف محلية أو إقليمية أو دولية أو يؤدي التلاعب إلى الانتقال من رواية اتهامية إلى أخرى على هوى التقلّبات في علاقات القوة أو التحالفات أو النزاعات بين الأطراف المعنية.
بناء على ذلك المعنى الأخير، لا بد من القول إن التحقيق والمحاكمة والمحكمة ذاتها، من حيث التسريبات المنسوبة إلى رجالاتها وما جرى تحميلها في الخطاب السياسي أو في الإعلام قد تسيّست باكراً وأذت المحكمة نفسها ومصداقيتها الأذى الكبير.
بدأ التحقيق نفسه بطريقة غريبة. أخذ المحقق الأول يبحث عن الدوافع قبل البحث عن أداة الجرم وكيفية التنفيذ. خلفه محقق قرّر البدء من البداية. وخلال ذلك تقرّر اعتقال أربعة ضباط لأربع سنوات تقريباً على تهم غير محددة تبيّن في ما بعد أنها قائمة على شهادات شهود زور فقرّرت المحكمة، حين تشكيلها، الإفراج عنهم مع أنها لا تزال تمتنع عن محاكمة الشهود الزور.
خلال تلك الفترة كلها، كانت أصابع الاتهام مصوبة نحو دمشق. ودمشق، التي ارتضت استقبال محققين وتقديم مسؤولين لديها للشهادة، ثابرت على الإعلان أن المحكمة شأن لبناني وأنها سوف تحاكم في سوريا من يثبت التحقيق اتهامه.
استجدّ حدث محلي وإقليمي ودولي أكد مدى التسييس الذي يتعرّض له التحقيق وسير المحكمة. في مناخات التقارب السوري السعودي، وتولي النائب سعد الحريري رئاسة الوزراء عقب الانتخابات النيابية، وزيارته العاصمة السورية، انعطفت الرواية السائدة في التحقيق نحو توجيه الشبهات وجهة حزب الله. وبغض النظر عمّا إذا كانت الأدلة المعتمدة لذلك قديمة أو مكتشفة حديثاً، كانت المفاجأة أن يعلن الانعطاف في مقالة في مجلة «دير شبيغل» الأسبوعية الألمانية.
ولكن إذا كان هذا برهانا قاطعا على سماح المحكمة لنفسها بأن تتسيّس، وأن تتولى أطراف محلية وإقليمية تغيير وجهة الشبهة من طرف إلى طرف، هل يبرّر ذلك الرد على التسييس بمزيد من التسييس؟
تساءل حزب الله على حق لماذا لم تتجه أنظار المحكمة مرة تجاه أي طرف آخر غير سوريا، بما في ذلك إسرائيل. ولكن ثمة فارقاً كبيراً بين هذا التساؤل وبين اتهام المحكمة بأنها
«مشروع إسرائيلي». خصوصاً أن الحجج على ذلك ليست بالحاسمة. لا من حيث التصريح الذي أدلى به رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الذي يتوقع شهر أيلول حاراً في لبنان. ولا مجرد اكتشاف ثلاثة عملاء لإسرائيل في إحدى شبكتي الاتصال، اعترف اثنان منهم أقلاً بأعمال تجسس موصوفة. فإذا كان يمكن الإثبات بأن إسرائيل تسيطر على شبكة الاتصالات اللبنانية سوف يشكّل ذلك تبرئة لأي اتهام، مهما كان نوعه، يقوم على مجرد الأدلة الإلكترونية.
لا شيء يبرّر التهوين الذي عالج به أطراف في الموالاة مسألة الجواسيس. لكن الاتهامات المتبادلة بين الطرفين كأنها تفترض أن كليهما، حزب الله وخصومه، يعرف حيثيات التحقيق كاملة. علماً أن هذا كله يتم قبل أن تبدأ المحكمة أعمالها. وقبل أن يصدر القرار الظني ويستدعى الشهود ويبدأ الدفاع برد اتهامات الادعاء ويجري تداول الأدلة والبراهين والقرائن ونقضها، وصولاً إلى صدور الأحكام.
ولا بد من الملاحظة أن التسييس يزداد عندما يحذر وزير خارجية سوريا وليد المعلم من «استهداف المحكمة هذا الحزب أو ذاك في لبنان أو سوريا فهذا يعني تسييساً لها وابتعاداً عن كشف الحقيقة». والافتراض هنا بأن السبيل الوحيد لكشف الحقيقة يبدأ بتبرئة كل حزب من الأحزاب في سوريا أو لبنان من تهمة الضلوع في جريمة الاغتيال!
هكذا يتداعى التسييس، في سجال يتراوح بين التذكير بقرينة البراءة، للتهوين من ارتكابات جواسيس الاتصالات ومدى الاختراق الإسرائيلي لشبكتها، وبين اتهام القرار الظني والمحكمة سلفاً بزرع «الفتنة» بين اللبنانيين. ويتلاقى سيناريو كلا الطرفين على اتهام الآخر بالفتنة. في «قراءة» الجنرال ميشال عون المؤامراتية أنه سوف يتولّد عن القرار الظني توتر داخلي لبناني ـ لبناني ثم لبناني ـ فلسطيني. وإذ يصدر القرار الظني، ينطلق عمل عسكري إسرائيلي واسع النطاق يضع المقاومة رهينة نارين. وتأكيداً على ذلك، سوف تتحرك «قوى إسرائيلية» في «البيئة المسيحية» وتتحرك مجموعات أصولية فلسطينية «لرسم وقائع جديدة في ساحات محددة، ويصبح مشروع الفتنة في لبنان مفتوحاً على أكثر من احتمال». أما السيناريو المعاكس فيفترض أن المعارضة سوف تستبق القرار الظني بمحاولة انقلاب على غرار السابع من أيار 2008 تطيح الحكومة أو تفرض تعديلها بما يرجح سيطرة «المعارضة» عليها.
يتساوى هذا السيناريو وذلك من حيث تجهيل الفاعل والأهم من خلال التخييل الانقلابي. وكأن حكومة الوحدة الوطنية لم تحلّ شيئاً من ذيول الأحداث التي أدّت إليها. والأغرب أن لا أحد ينشغل بتفحص هذا السيناريو أو ذاك، أو بالكاد. ذلك أن السيناريو، مثله مثل العسل، برهانه منه وفيه. ثم أن لا أحد يغلّب نفسه محاسبة الذي «يقرأون» السيناريوات الإقليمية والدولية، بما هي نوايا ومشاريع ومخططات، عندما يتبيّن أن حساب السيناريو لم ينطبق على حساب الفيلم الحقيقي ناهيك عن حساب مجريات الحياة.
إن بعض الظن إثم، يقول أصحاب السيناريوات الافتراضية. الظن هو الطريق إلى اليقين، تقول حكمة أخرى. وهي الحكمة التي يقوم عليها افتراض آخر ليس إلكترونياً، هو افتراض قيام دولة الحق والقانون والعدالة التي يزعم الطرفان العمل على بنائها.
فهل يترك لنا أصحاب السيناريوات من الطرفين الفرصة لمشاهدة فيلم المحكمة إلى نهايته؟ فنكتشف القاتل أو ندرك على الأقل أن البوليس عجز عن اكتشافه؟ أم أن كل «سيناريست» سوف يصر على أن يفرض علينا السيناريو الخاص به؟ فيتعارك أنصارهما في الصالة فيتوقف العرض؟ أو تحترق السينما!
السفير