مغريات هندسة الهدم
مصطفى السراج
تابعت بشغف مدة ساعه برنامج تلفزيوني يوضح بالتصوير الرائع كيف يتم هدم المباني العاليه باستخدام هندسة التفجير العلميه بكافة فنونها وتطورها. شاهدت كيف تتهاوى العمائر الكبيره بتسلسل زمني وتوقيت لايخطىء تتراكم أجزاء المبنى على الطريقه التي رسمها المهندسون. ويزيد من جماليات العلم والفن في طريقة الهدم اعادة التصوير قرباً وبعداً، ابطاءً وتسريعاً. وتتجلى الدقة في الهدم بتحقق الأهداف الهندسيه المصرح عنها مسبقاً.
في أحد الأمثله يشرح المهندس أن هذه العماره ينبغي هدمها بدون أن تتأثر العماره الجديده القريبه منها، يقوم المهندسون بوضع كميات محدده من المتفجرات في أماكن مدروسه من العماره ويتم ربطها بتيار كهربائي يتتالى في ايصال الشحنة الكهربائيه الصاعقه من مركز الى آخر في العماره فترى أجزائها تميل وتتهاوى بعيداً عن العمارة المجاوره المطلوب عدم ايذائها، وتتكدس الأسقف والانقاض على الجهة التي رسمها المهندس بدقة وبلا أخطاء.
ومثال آخر على عمارة مطلوب اسقاطها في مكانها بدون أن تتأثر جميع العمائر المحيطه بها، تعاد ترتيبات مشابهه للاولى بتخطيط هندسي آخر، حتى ترى تساقط الأدوار من الاعلى للاسفل واحداً بعد آخر حتى تصل الى أرضها جميعاً، ولاتتعدى الأنقاض حدود أرض العماره نفسها.
وتتالى الأمثله باشتراطات شتى تتحقق كلها كما رسم المهندسون لها، وفي جميع الأمثله تصل ثورة الغبار حول العمارات المهدومه الى أبعاد أفقية وشاقولية واسعه. ولكن عندما احتاج المهندسون لهدم عمارة مطلوب عندها تقليل غيمة الغبار المنطلق حتى لاتتأثر حركة السير في طريق سريع مجاور لها يعد شرياناً مهماً للمرور، فيقوم المهندسون برسم مخطط خاص للتفجير يجعل العماره تتهاوى من وسطها وتميل جميع واجهاتها الى داخل العماره وكأنها تنجذب من مركزها كالثقب الفضائي الأسود الممتص للنجوم، ثم ينطلق الغبار من وسط العماره نحو الأعلى وكأنه دخان منطلق من مدخنة لاينتشر أفقياً، وتسلم حركة المرور في الطريق السريع الشريان المجاور سلسة وبلا توقف.
روائع هندسية شدتني وأنا الذي أمضى عمره يبني ولايهدم، ينتقل في أعمال البناء الهندسي تصميماً واشرافاً وتنفيذاً، حتى أنه يحافظ على العمائر الآيله للسقوط بكشف أساساتها وتدعيمها ولو اضطر للحفر تحت أساساتها حتى يزيد بعمرها الافتراضي وتستمر في أداء وظيفتها.
على الرغم من الاندماج الشديد بالفنون الهندسيه للهدم العلمي وفنون التصوير الأخاذ يقفز الى الذهن سؤال محير كيف يتخذ أصحاب العمائر قرارالهدم لأبنيتهم العاليه القيمه، وبعضها ماتزال قائمة تؤدي وظيفتها؟ وقد درسنا في الهندسه بسوريا أن الحل الاقتصادي (المقتصد التكاليف) هو الحل الأمثل عند عدم الاخلال بالوظيفه أو عوامل الآمان. وأسأل نفسي وأتسائل لو كنت مالكاً من مُلاك عمارة بقي فيها رمقاً واحداً أورمقين كما قالت فيروز، هل توافق على هدمها وفيها ذكريات الماضي الجميل؟ غالباً سيكون الجواب لا.. لما تراكم بالعقل الباطن (وان شئت قلت اللاشعور) من خبرات الماضي في سوريا الذي تربينا فيه على استنفاذ كل فائدة ممكن استنقاذها من أي حاجة قبل رميها.
أتخيل أن كثيراً من أصحاب هذه العمائر التي هُدمت أنفقوا الكثير من أوقاتهم وجهودهم لمراجعة الاسباب الموجبه لهدم عماراتهم من نقصان مردودها الى زيادة تكاليف صيانتها ، مع اغراء سهولة الهدم ومقدار المنفعه والجدوى الاقتصاديه من اقامة مباني جديده أكثر تأدية للوظائف المطلوبة منها مع الحداثه. وكلما زاد وعي مُلاك العمارات ودقة حساباتهم كلما صار قرارهم أكثر منطقية وعلميه ومصالح مستفاده. وكلما زاد تعلق المالكين بالماضي وذكرياته والحنين والعاطفه كلما زادت خسارتهم في ابقاء مبانيهم القديمه وخصوصاً اذا كان التحديث يحيط بهم من كل جانب.
البرنامج التلفزيوني عن هدم المباني العاليه لم يرصد كيفية الوصول الى قرار الهدم وكم يحتاج من جهد عريض وخبرة واسعه للوصول الى جدوى الهدم، ولكنه استفاض في تصميم طريقة الهدم بالعلوم والفنون الهندسيه وتطبيقاتها الحرفيه والمهنيه الراقيه التي تحمي مباني الجوار، ولا تعكر الجو المحيط، ولاتوقف حركة المرور، وبذلك يفتح الطريق لبناء جديد يُشبع متطلبات المجتمع الحضاريه والتحديثيه.
ياترى هل ماذكر عن المباني الماديه يمكن تطبيقه على البُنى المجتمعيه كالاحزاب والجماعات والتجمعات عندما تهرم وتفقد مبرر وجودها، أوتنتهي ظروف نشأتها، أو تتناقض ممارساتها مع مبادئها؟
وهل يمكن أن يقتنع أصحاب هذه البنى المجتمعيه بضرورة الهدم بالطريقه الهندسيه الفنيه التي سبق شرحها؟ أم ينتظرون حتى تقع على رؤوس اصحابها كونها آيلة للسقوط كما سقطت أشباهها؟
وهل يستطيع من أنفق عمره وجهده ووقته وماله في المحافظة على حزبه أوجماعته أن يحتمل اصدار قرار الحل متناسياً الماضي متطلعاً لمستقبل يحفظ المجتمع بكل أطيافه. لاشك أن التعامل مع البنى الفكريه أكثر تعقيداً من المباني الماديه، وأكثر مساساً بالمشاعر والعقائد وأوهام الماضي وتخوفات المستقبل.
خاص – صفحات سورية –