صفحات العالم

مصر وسوريا… وحزب الله

خالد الدخيل
ما الذي يجمع بين هذه الأسماء الثلاثة في عنوان المقالة؟ ما هي العلاقة بين دولتين، وحزب سياسي ينتمي لدولة ثالثة، هي لبنان؟ لماذا لم يكن لبنان هو الاسم الثالث في العنوان؟ بل لماذا لم يأت ذكر لإيران، الحليف الاستراتيجي الأهم لـ”حزب الله”، بدلا من اسم الحزب؟ ستتضح أسباب ذلك من خلال السياق. تشير هذه الأسئلة إلى أن أشياء كثيرة يمكن أن تجمع بين تلك الأسماء: منها الظرف التاريخي، وطبيعة الأزمة التي تجمع بينها في هذا الظرف. لعل اسم “حزب الله” هو الأهم في هذا الإطار، لأنه المؤشر الأبرز على طبيعة الظرف، وعلى طبيعة القضية التي يكتنفها هذا الظرف. مصر (الدولة) هذه الأيام في حالة صدام مع “حزب الله” (تنظيم منافس، وربما مناهض للدولة). سوريا (دولة أخرى) في حالة تحالف مع الحزب نفسه. من ناحية أخرى، سوريا ومصر في حالة خلاف معلن، وربما صدام أعنف مما توحي به كلمة خلاف. وبالتالي فما يجمع بين هذه الأسماء الثلاثة أنها جميعاً، ومن خلال ما يربط بينها من علاقات، تمثل حالياً أهم رموز على طبيعة المرحلة، وطبيعة ما يحدث فيها للعالم العربي.
يتميز المشهد العربي في هذه المرحلة بأن التنظيم الذي يقع خارج الإطار الرسمي للدولة، والمنافس للدولة، بل والمناهض لها أحياناً، أصبح طرفاً رئيسياً في العملية السياسية التي تعتمل داخل النظام الرسمي العربي. والمقصود بذلك تأكيد دور التنظيم ليس داخل الدولة، فهذا قد يكون طبيعياً، ويمكن إخضاعه لسلطة قانون الدولة، وتأطيره وفقاً لمقتضياته. لكن هذا لا يحصل في لبنان مثلا، ويحصل، لكن بحدود واضحة في العراق. مما يعكس تشوه الدولة في الحالتين. وبالتالي، فالمقصود تأكيد دور التنظيم وتأثيره خارج حدود الدولة، وعلى المساحة السياسية والثقافية التي يوفرها ما يعرف بالنظام الرسمي العربي. لم يحدث من قبل في التاريخ العربي الحديث أن استحوذت تنظيمات وأحزاب غير رسمية على مثل هذه المساحة، وأصبحت تمثل، أو تقترب من أن تمثل سلطة موازية لسلطة الدولة على الشارع العربي أولا، وتتمتع بمكانة سياسية أصبحت واضحة على المسرح الدولي ثانياً. أهم التنظيمات التي تتمتع بذلك حالياً هي، “حزب الله” في لبنان و”حماس” في فلسطين والتيار الصدري في العراق. يبدو أن ما يحصل في اليمن يتجه نحو إفراز الظاهرة نفسها. حركة “الإخوان المسلمين” تمثل حالة خاصة من حيث أنها تعمل حالياً داخل الإطار الرسمي للدولة، لتنطلق من ذلك إلى الساحتين العربية والإسلامية. حاولت هذه الحركة من قبل أن تحل محل النظام الناصري بالأسلوب الإنقلابي الذي أتى بالنظام أصلا في مصر، لكنها فشلت فشلا ذريعاً. الآن تحاول الشيء نفسه، لكن من داخل النظام. على المستويين الإقليمي والدولي، هناك طبعاً منظمة “القاعدة” بكل فروعها وتفريعاتها، بما في ذلك التنظيمات الجهادية المتناثرة في أرجاء العالم العربي.
بدأت ظاهرة التنظيمات تفرض نفسها في الدول العربية الصغيرة التي تعاني من عدم الاستقرار الناتج عن الضعف المزمن في بنية الدولة أمام مكوناتها الطائفية (لبنان نموذجاً). في الدول العربية الأخرى، وخاصة الكبيرة منها، والتي لا تسمح بحرية التنظيم، تفتقد هذه التنظيمات للوجود الشرعي، لذلك لم تظهر إلا بواسطة العنف والإرهاب، وبالتالي اصطدمت مع الدولة، وخسرت حتى الآن. والمثال الأبرز على ذلك “الجماعة الإسلامية” في مصر، وفروع “القاعدة” في السعودية. في العراق جاءت بعض هذه التنظيمات مع قوات الاحتلال (مثل حزبا “الدعوة”، و”المجلس الأعلى”). وبعد سقوط النظام السابق في هذا البلد فرخت التجربة الناتجة الكثير من التنظيمات المتناحرة. كان العراق دولة كبيرة، وكان يخضع لحكم قوي لم يكن يسمح بوجود تنظيمات خارج الإطار الرسمي للدولة. كانت تنظيمات المعارضة مهمشة في الداخل. لم يكن من الممكن إسقاط النظام إلا بغزو خارجي، وهو ما حصل على يد الجيش الأميركي. كيف برزت ظاهرة التنظيمات المنافسة للدولة، وفرضت نفسها على المشهد؟ هذا سؤال يوجه للدولة العربية قبل غيرها.
بالعودة إلى موضوع ما يجمع بين مصر وسوريا و”حزب الله”، يمكن الحصول على هذا الجامع من السجال الذي دار مؤخراً بين هذه الأطراف. وهو سجال معلن أحياناً، ومضمر أحياناً أخرى. الأهم في هذا السجال تأكيده وجود التنظيم في المشهد الإقليمي مع الدولة جنباً إلى جنب. ومما له دلالة ذات صلة بموضوعنا أن أمين عام “حزب الله” في لبنان اختار أن يجمع بين مناسبتين في خطابه الأخير السبت الماضي. الأولى تخلية سبيل الضباط الأربعة، من الأمن اللبناني، بأمر من قاضي المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري. ويتبنى “حزب الله” هذه الأيام قضية هؤلاء الضباط، لأنها كما قال أمينه العام، “دليل قاطع على أن لجنة التحقيق كانت مسيسة”. ولماذا “التسييس” بهذه الأهمية للحزب؟ تهمة الـ”تسييس” هي في الأساس دعوى سورية. وتحالف “حزب الله” مع سوريا يفرض عليه تبني الدعوى نفسها. من هنا ستخدم الأمين العام في خطابه تخلية سبيل الضباط الأربعة كمنطلق لتقديم مرافعة عن براءة النظام السوري من دم الحريري. وقد ردت سوريا الجميل للأمين العام بالمثل حينما دعا الرئيس السوري إدارة أوباما الأميركية إلى التحاور بشكل مباشر أو غير مباشر مع “حزب الله” و”حماس”، وقال إن سوريا مستعدة لتسهيل هذه المهمة. دعوة الرئيس السوري محاولة لاستخدام فكرة التنظيم غير الرسمي كورقة سورية في الخلاف مع مصر. فدعوة أميركا للحوار مع “حزب الله” تتضمن نوعاً من الرد غير المباشر على الدعوى المصرية ضد هذا الحزب. وهي بذلك تؤكد دور هذه التنظيمات إلى جانب الدولة في الحالتين السورية والمصرية. لأن سوريا هي الأكثر حاجة لدور التنظيمات في سياستها الخارجية. أما دعوة سوريا أميركا للحوار مباشرة مع “حماس” فتهدف إلى ضرب الوساطة المصرية، وبالتالي تهميش الدور المصري في مفاوضات السلام لصالح هذا التنظيم. بدوره لم يفت الأمين العام لحزب الله التأكيد مرة بعد أخرى على تراجع الدور المصري. بل هو يعزو إعلان مصر عن وجود خلية للحزب فيها إلى أنه محاولة لـ”فش خلق” مصر نتيجة لهذا التراجع. من ناحيته كان الرئيس المصري، حسني مبارك، قد وجه في خطاب له أواخر الشهر الماضي تحذيراً مبطنا لكل من إيران أولا، وسوريا ثانياً على خلفية خلية “حزب الله” في مصر، قائلا: “… وأقول لهؤلاء إننا واعون تماماً لمخططاتكم، وسنكشف تآمركم ونرد كيدكم في نحوركم. كفاكم تمسحاً بالقضية الفلسطينية. واحذروا غضب مصر.”
هذا سجال يكشف مدى التحول الذي حصل للنظام الرسمي العربي لصالح التنظيمات. قبل ذلك كان زعيم “القاعدة” هو الطرف الآخر في سجال مشابه مع الرئيس الأميركي السابق، بوش الابن. في هذه اللحظة يبرز “حزب الله” باعتباره الطرف صاحب الصوت المنافس لصوت الدولة في السجال. سوريا في حاجة إلى صوته في هذه المرحلة، ومصر بكل ثقلها تجد نفسها تحت وطأة الظروف خصماً لهذا التنظيم. والأرجح أن أمين عام “حزب الله” مدرك لهذا التحول. ولذلك، ومنذ خروج قضية خلية الحزب في مصر إلى العلن، صار يداوم على إلقاء الخطب حول هذه القضية، يرد فيها على حكومة مصر، وعلى رئيسها مباشرة. ولتأكيد مكانة الحزب في المشهد يقول أمينه العام: “من طرفنا في حزب الله، لم ندخل في مواجهة سياسية وإعلامية مع النظام في مصر… ولم نكن طرفاً في هذه المواجهة. ما كنا نشهده في الأسابيع الماضية، وما زلنا نشهده حتى الآن هو حرب إعلامية وسياسية دعائية من طرف واحد، هو النظام المصري…”. وهدف الأمين العام واضح هنا، وهو ترسيخ اسم الحزب وموقعه في المشهد، وفي وعي الجمهور العربي.
قد لا تكون صورة المشهد أوضح مما هي عليه الآن. فالتنظيم المتمثل بـ”حزب الله” يلعب داخل المساحة التي توفرها خلافات الدول العربية ووهنها في العقود الأخيرة. وإيران باعتبارها الراعي الرئيسي لهذا الحزب تدخل بدورها، ومن خلال الحزب، على هذه المساحة. لكن مثال “حزب الله” هو كذلك، مجرد مثال على حالة عربية آخذة في الاستشراء. ومهما قيل عن هذا الموضوع، فإنه ينبغي التأكيد مرة أخرى على أن بروز التنظيمات على حساب الدولة العربية هو نتيجة طبيعية لضعف هذه الدولة وترهلها، وتراجع دورها. بل إن بروز هذه التنظيمات مؤشر على تفسخ النظام الرسمي العربي.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى