حكام يظلمون ويحششون ويطبّقون الشريعة ومذيعون متجهمون بلباس الميدان الكامل!
خطيب بدلة
طال السهر.. عُرضت قبل أيام، على شاشة المستقبل الحلقةُ الأخيرة من برنامج ‘طال السهر’ الذي يقدمه المذيع الظريف ميشيل قزي، بالاشتراك مع المذيعة الجميلة الظريفة كارين سلامة.. وللتذكير أقول إن معظم المشاهدين عندنا يسمون ميشيل قزي ‘ميشو شو’، تيمناً أو التباساً مع عنوان أول برنامج قدمه قبل بضع سنوات وهو: (misho show)!
إن الأشقاء اللبنانيين، كما هو معروف هم ملوكُ برامج المنوعات في العالم العربي غير المنازعين، فهم يحشدون لنجاح البرنامج ما يخطر ببال الإنسان، وما لا يخطر بباله، من ألوان وظلال وديكورات ومساحات وأشخاص خفيفي الظل ونساء جميلات مهضومات وملابس وفرق موسيقية، وهم قادرون في الوقت ذاته، على استضافة مَن يشاؤون من أسماء مهمة ومشهورة، لسببين، أولهما أن الضيف المدعو للمشاركة في برنامجهم، تجذبه أهمية البرنامج وشهرته، وثانيهما أنهم لا يهضمون حقَّ هذا الضيف، فيدفعون له ما يترتب له من تعويضات مالية، إضافة إلى أنهم يُلبسونه (البدلة) التي يرى مخرج البرنامج أن موديلها ولونها مناسبان لعين الكاميرا.
وأبو الميش أو ميشو، يقدم برامجه التلفزيونية كلها على الواقف، ليس هذا وحسب، بل إنه خلال البرنامج يمشي ويرقص ويمزح وينكت ويغني ويضرب على الدربكة، وهذا كله ناجم عن خفة دم حقيقية موجودة لديه، على عكس ذلك المذيع السوري الذي بدأ حياته المهنية بتقليد ‘ميشو شو’، ثم ارتدى شخصيته فما عاد يستطيع منها فكاكاً.
وأنا أظن أن ميشيل قزي وغيره من مقدمي البرامج في المحطات اللبنانية يبذلون هذه الرشاقة كلها أثناء تقديم برامجهم بمنطق عبارة (بحبكم جَكَر بالناس) التي يكتبها سائقو الصهاريج على مؤخرات صهاريجهم، أعني أنهم يفعلون ذلك (جَكَر) بأشقائهم السوريين الذين يدخل الواحد منهم إلى الاستوديو ووجهه يوحي- اللهم عافنا- وكأنه عائد للتو من تشييع جنازة ابيه! وحينما يجلس (أو بالأصح: يتمطرق) على الكرسي المخصص له في الاستوديو، سرعان ما يتذكر المثل الشعبي القائل (الحجر في مكانه قنطار)، فلا يلتفت ولا يتحرك ولا يتزحزح ولا يرف ولا يبتسم وكرافته واصلة- من دون مبالغة- إلى خصيتيه!
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن بإمكاني أن أقول، بل وأكاد أجزم أن مقدمي البرامج المتجهمين الذين تحدثت عنهم قبل قليل، هم أحسن بما لا يقارن من مقدمي نشرات الأخبار الذين أدركناهم نحن السوريين في عز شبابنا- سقى الله أيام الشباب- فالمذيع كان لا يدخل إلى ستوديو الأخبار إلا إذا كان مرتدياً لباس الميدان الكامل! وهو يجلس في مواجهة الكاميرا جبهياً، وهي الطريقة الشائعة عالمياً لدى تصوير الأشخاص المطلوبين للعدالة الذين تُنشر صورهم في الجرائد، مع تخصيص مكافأة مجزية لمن يرشد رجال الشرطة الساهرين على أمن المجتمع إليهم!
ولئن كنا نستبشر خيراً حينما يكون الدور في تقديم النشرة على الأستاذ مهران يوسف، لأن وجهه بطبيعته، مستبشر، فقد كنا ننقبض، وغالباً ما نغلق محطة التلفزيون الوحيدة المتاحة أمامنا، حينما يكون الدور في تقديم النشرة على مذيع (لن أذكر اسمه) وجهُه مفلطح، وله شاربان أسودان كثيفان، وحاجباه مثل حاجبي المرحوم ليونيد بريجينيف الذي خصه الكاتب الروسي الساخر غريغوري آستيور بمسألة حسابية قال فيها: (إذا كان الرسامون قد استهلكوا 159 مليون كيلوجرام من الأصبغة لرسم لحية كارل ماركس، واستهلكوا خمسة أضعاف هذه الكمية لرسم حاجبي ليونيد بريجنيف، فكم هي كمية الأصباغ التي استهلكها رسمُ كل حاجب من حاجبَيْ ليونيد بريجينيف على حدة)؟
ذات يوم كنت أزور ابن عمي الذي يقيم في مدينة حلب، وكان ذلك المذيع (المغضوب) يقرأ نشرة الأخبار، فانفلت ابن عمي الصغير بالبكاء فأغلقت زوجتُه التلفزيون وأعطته سُكَّرة، فسكت ولكنه بعد قليل عاد إلى الشيطنة، فأمسكت به بقوة وقالت له:
– شوف ولاك، كُو بشرفي، يا إما بتسكت، يا إما بفتح التلفزيون!
شاعر متحد
وبينما أنا أقلب المحطات الفضائية العربية التي أصبحت- بعون الله- أكثر من بذور البقلة، إذ وقع بصري على محطة ‘الثقافية السعودية’ وهي محطة عربية حكومية مختصة بالـ (ثقافة) تبث لقاءً بين مذيعة متحجبة على نحو معتدل، ورجل كتبوا على الشاشة أنه شاعر وكاتب، ودونوا اسمَه بطريقة الـ (subtitles)، ولكنني لن أذكر اسمه لئلا يَخرج هذا الحديث عن نطاق النقد والدعابة، ويدخل في نطاق التجريح والنكد.
في بداية الأمر، أو لأول وهلة كما يقول النحويون، ظننتُ أن اللقاء له طبيعة كوميدية على طريقة (قفشات) الفنان الكويتي داوود حسين الذي كان يقلدُ في برامجه التلفزيونية الرمضانية بعضَ الشخصيات الثقافية والفنية العربية على نحو مضحك للغاية.
ولكن الموضوع كان جدياً للغاية، والشاعر المذكور كان يعطي المسألة حقها، ويعطي جانباً من وجهه للكاميرا على نحو دائم، وكأنه لا يريد أن يعرض الطرف الآخر من وجهه، لعلة فيه! وكان صوته ضعيفاً وممطوطاً ورتيباً، وأثناء الكلام يسحب نَفَسَاً يترافق مع فتح فمه على نحو مفاجئ، فيوحي لنا نحن المشاهدين، وربما يوحي للمذيعة الجالسة إلى جواره، بأنه سوف يتثاءب!
وأما الجانب الأكثر طرافة في شخصية الرجل فهو اعتدادُه بنفسه، وحرصه على إبداء آرائه بثقة بالنفس زائدة، وكلما ألقى واحداً من آرائه الظريفة في الوسط كان يُتبعُه بابتسامة تنم عن الرضا المختلط بشعور بالنصر.
قال، مثلاً، إن علاقته بقرائه متينة جداً، فهم يحبونه، وهو يحبهم، وعلى الرغم من أنه لا يعرفهم عن كثب، إلا أنه يراهم بعين خياله، يراهم وهم يسألونه عبر الهاتف المحمول أو الفاكس أو الإيميل رأيه بمشاكلهم، وهو لا يبخل عليهم بالحلول، وبالطبع فإن حضرته لا يتوخى من وراء ذلك مصلحة دنيوية زائلة، وإنما يبتغي مرضاة الله ورسوله وأولي الأمر من الحكام العادلين!
ولدى سؤاله من قبل المذيعة عن القلق الذي يعتري الشعراء والمبدعين بعامة، نفى ذلك بشدة، وقال:
– بالعكس، أنا إنسان مرتاح ومطمئن ومتآلف، بل و(متحد) مع نفسي التي لا تعرف أي نوع من أنواع القلق أو الخوف، ومعلوم أنه لا راحة لمؤمن إلا بجوار ربه.
لدى انتهاء هذه المقابلة الطويلة إلى درجة أنني غفوت ثلاث مرات أثناء إصغائي إليها، تمنيت أن أصفَّ الأدباءَ والمثقفين العرب بجوار بعضهم، على نسق، وآتي بعدد كبير من عناقيد الحصرم، وأفقأ في عين كل واحد منهم حصرمة، وأقول لهم على طريقة المرحوم فهد كعيكاتي (أبو فهمي):
– شرف بقى سيدي، يا مرحوم البي، طول النهار وأنتم قاعدون تشكون وتتظلمون من أن المحطات الفضائية العربية لا تهتم بكم.. وها هي محطة فضائية ثقافية تخصص، في عز دين الحر والقيلولة، وقتاً طويلاً لشاعر متحد مرتاح البال مطمئن!
ما هي الديمقراطية
قبل حوالي أسبوعين شاهدت على فضائية ‘مودرن’ المصرية رجلاً يتحدث عن الديمقراطية، فيكشفها على حقيقتها! فهي مزيفة بالطبع! وضارة بالمجتمعات! ولا سيما مجتمعاتنا العربية! ويقول، بكل شجاعة ورجولة وصراحة: أخي، أنا ضد الديمقراطية!
وفي معرض الإجابة عن أحد أسئلة مقدم البرنامج قال باستهزاء يليق بالديمقراطية الكاذبة:
– ايه يعني ديمقراطية؟ نقوم إحنا رايحين نحارب الأعداء، مثلاً، وإحنا مية شخص، يقوم عشرة مننا يقولوا: الحرب دي مالهاش لازمة، روحوا إنتوا حاربوا!.. ولما ننهزم يقولوا لنا: شفتوا ازاي؟ إحنا كنا صح، وانتوا كنتوا غلطانين!
وحينما سأله مقدم البرنامج عن البديل، قال: البديل واضح ومعروف، وهو تطبيق الشريعة.
قال معد البرنامج: ولكن (بعض) الحكام الذين كانوا يطبقون الشريعة على أيام الدولة الإسلامية اتهموا بالفساد و..
فقاطعه الرجل قائلاً: مانا عارف؟ عاوز تقول لي إن الحكام دول كانوا بتوع حشيش ونسوان وخمر مش كده؟ طب يا أخي وانت مالك؟ فيه رب يحاسبهم، المهم إنهم يطبقوا الشريعة عليك!
لم أستطع الإصغاء إلى تتمة اللقاء، فلقد شرد ذهني في تلك اللحظة إلى تخيل حاكم عربي معاصر، يسرق مال شعبه، ويحشش، ويتعاطى الهيرويين، ويفتح في قصره مكاناً للدعارة، وجناحاً خاصاً بالشذوذ، بينما عماله يلعنون سنسفيل الشعب بالظلم والبطش، فإذا سأل أحد عن سبب هذه القسمة الغريبة قيل له: وانت مالك؟!
قاص وكاتب من سورية
القدس العربي