شُهود للإيجار
خيري منصور
في عالم تُلفق فيه الجرائم، لا بد أن يلفّق فيه الشهود أيضاً، وما كان مجرد خيال كابوسي كالذي صوره كافكا ووريثه التشيكي كونديرا، أصبح الآن واقعاً مرئياً وملموساً، فقد رأى هذان الكاتبان اللذان عانيا كل بطريقته من النظم الشمولية، أن عالمنا سوف يعكس المعادلات، فيصبح كل إنسان متهماً حتى تثبت براءته، وهو ما سماه كونديرا العقاب الجاهز كالقبعة، والذي يبحث عن جريمة مناسبة له وعن رأس يناسب القبعة .
في السياسة كان تلفيق الجرائم ولا يزال جزءاً أساسياً من أدبيات الدسائس والمكائد التي يفرضها احتكار السلطة والتي يشترط فيها إقصاء المنافسين .
فلم يكن عسيراً على أي ديكتاتور أن يبتكر جرائم، ثم ينسبها إلى خصومه، وهذا ما سمي اختصاراً التصفية ببعديها المعنوي والجسدي . لكن التاريخ لا تنغلق بواباته عند مرحلة أو قلعة مسلّحة، إذ سرعان ما يومض الجمر تحت الرماد، ثم يجد من ينفخ فيه ويؤججه كي يضيء ما كان طي العتمة والكتمان، لهذا أنصف التاريخ رجالاً ونساء مثلما نبش قبور آخرين ليوجه إليهم الإدانات والتجريم، لأنهم نجحوا خلال خيانتهم في ارتداء طاقية الإخفاء، وكان لهم من فائض المكر والمهارة ما يكفي لحجب الحقائق، وأحياناً قلبها رأساً على عقب، لكن عصرنا الذي زاوج بين المتناقضات على نحو فريد وغير مسبوق، عرف نمطاً من الشهود الموسميين المعروضين للإعارة، أو الإيجار، وهم شهود الزور المحترفون الذين لا معيار لديهم في الحياة غير الربح والربح أيضاً، لأن الخسارة وفقاً لحاسوبهم الأعمى هي للآخرين .
ويتطلب استخدام شهود للإيجار بالمقابل حذف شهود حقيقيين في جرائم وقعت بالفعل، وبهذه الضربة المزدوجة بسلاح ذي حدين تصبح الفوضى التي يبشر بها لصوص لا يطيقون رؤية الكهرباء أو حتى الشمس والقمر هي الناموس البديل لهذا الكون، بحيث يتحول المسروق إلى استحقاق، ويدق عنق صاحب الحق، إضافة إلى ضياع حقّه . والمختبرات التي لا تكل من تلفيق قضايا عديدة، واستخدام مستحضرات التجميل لحجب ما هو قبيح، أصبح لها من الخبرة وطول الباع ما يكفي لتلفيق جريمة من العدم، ومن الجهة الأخرى، تحويل جرائم كبرى إلى جرائم كاملة تطوى في الملفات وتنسب إلى مجهول، وهنا تلعب القوة دور البطولة في هذه الدراما، لأن الضعفاء لا حول لهم ولا قوة، كما أن أصواتهم المختنقة وأنينهم المبحوح لا يصل إلى مسامع العالم .
والمنطق المقلوب الذي سماه كونديرا العقاب الجاهز الذي يبحث عن جريمة هو من إنجاز ما بعد الحداثة وما بعد الحضارة أيضاً، لأن من كفنّوا التاريخ، ووأدوه حيّاً راهنوا على أن ما تبقى للبشرية من عمر هو ما بعد التاريخ وما بعد العدالة والحق .
لكن اللصوص الذين لا يكفون عن تطوير أساليبهم وأدواتهم يفاجأون بأن العدالة تطور أيضاً أساليب الكشف عنهم، وأدوات العثور على قرائن الجريمة .
عالمنا لم يعد فيه شيء غير قابل للتأجير أو البيع والإعارة، لأن منظومة الروادع الذاتية أصبحت في إجازة طويلة، ولم تعد حتى القوانين والدساتير تسلم من الحذف والإضافة، لكن كل هذا لن يدوم إلى النهاية، فقد مرّ بالبشر ليل طويل بدده الفجر عندما أزف موعده .
الخليج