صفحات أخرى

“أعلام الفكر العربي” للسيد ولد اباه

ثلاثة وثلاثون كاتباً يضعون الخريطة على طاولة العقل
في كتاب صادر عن “الشبكة العربية للابحاث والنشر” بعنوان “اعلام الفكر العربي، مدخل الى خريطة الفكر العربي الراهنة”، يحاول الكاتب الموريتاني السيد ولد اباه تقديم عرض لتيارات الفكر العربي المعاصر، عبر تركيزه على عدد من الاعلام الذين اثروا في الحياة الثقافية العربية، من خلال عرض يشير فيه الى ابراز الاشكالية الناظمة لفكر كل واحد من هؤلاء الاعلام، وتحديد موقعه ومنزلته في خريطة الفكر العربي الراهنة، وتلخيص اهم بنود مشروعه الفكري. يتضمن الكتاب تعريفا بثلاثة وثلاثين كاتبا عربيا ينتمون الى مختلف البلدان العربية.
يتركز مشروع الكاتب التونسي ابو يعرب المرزوقي على محاولة لتجديد فلسفة التاريخ القرآنية التي يراها “متحكمة في كل ظاهرات الحضارة الاسلامية”، كما يقدم المرزوقي نفسه في وصفه امتدادا لمشروع تجديد الخلق في منظومة القيم الاسلامية الذي تبلور لدى ابن تيمية والغزالي. اما الكاتب السوري برهان غليون، فانه ينطلق من رصد الازمة السياسية المجتمعية العربية في النسق الثقافي القائم، ويتبنى منهجا اجتماعيا مركّبا يتعامل فيه مع الافكار حيث يرى انه ليس هناك من فكرة خاطئة في ذاتها، انما “يجب البحث عن المغزى الحقيقي لهذه الافكار في النسق الثقافي الذي يبرز وحدة موقعها الفكري ومضمونها العقلي، وفي النسق الاجتماعي العام الذي يبيّن وظيفتها وسبب ظهورها ومآلها”. في الاشارة الى الكاتب المصري حسن حنفي ومشروعه، يشير الكاتب الى ان هذا المشروع يتمحور حول مقاربة “التراث والتجديد” حيث يتوخى حنفي منه تجديد الدين والنهوض بالامة من خلال العمل على جبهات ثلاث هي: العلاقة بالتراث والعلاقة بالغرب والعلاقة بالواقع.
يشير المؤلف الى مشروع الكاتب اللبناني الراحل حسين مروه الوارد في كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية” حيث يستند فيه مروه الى الاطروحة الماركسية انطلاقا من “المنهج المادي التاريخي”، ليقرأ التراث العربي والاسلامي من خلاله، في سياق هدف نضالي معلن يقوم على دفع “التوجهات الثورية لمحتوى حركة العربية في لحظتها الحاضرة”. اما الكاتب المصري الراحل زكي نجيب محمود، فيعتبره المؤلف واحدا من القلائل يحتلون مكانة خاصة في الفكر العربي المعاصر، لأنه اول من ادخل الى المساحة الفلسفية العربية اتجاهات “الوضعية المنطقية” وسعى الى نشرها في الوسط الثقافي العربي في “لغة ادبية جميلة وحس تعبوي نضالي قوي”، فحوّل هذه الفلسفة ايديولوجيا تحديثية وتنويرية.
اما الكاتب المصري سمير امين، فيقدم نفسه مفكرا ماركسيا وفيا للمشروع الماركسي الذي لا يزال يرى فيه الافق التحديثي الوحيد للمجتمعات الجنوبية او لـ”الاطراف” وفق تعبيره، فينطلق من رصد ظاهرة “الاستقطاب” في الرأسمالية العالمية التي غابت عن المقاربات الماركسية التقليدية، اي التناقض بين المراكز المتقدمة والاطراف المتخلفة. ولا يرى امين في المشروع الليبيرالي التنويري الذي تدعو اليه بعض النخب العربية راهناً اي فائدة، لان الديموقراطية من دون تقدم اجتماعي شبه مستحيلة بل وعقيمة. يشكل طه حسين احدى الحلقات الرئيسية في الفكر التحديثي الليبيرالي العربي في منتصف القرن العشرين، حيث انطلق من منهجية الشك في قراءة التراث الاسلامي الذي طبّقه خصوصا في كتابه “في الشعر الجاهلي”، فأثار غضب المؤسسة الدينية التقليدية. كما تميز طه حسين بنظرة تجديدية تقوم على الدعوة صراحة الى استبدال الرابطة القومية والدينية بالدولة العلمانية التي اعتبر انها لا تتعارض مع الشرعية الدينية، بل تبقى هي وحدها المؤهلة لقيادة عملية التحديث الثقافي والاجتماعي المتمحورة حول استراتيجيا تطوير التعليم منهجيا ومؤسسيا.
ينطلق الكاتب السوري طيب تيزيني من خلفية ماركسية في قراءته للتراث وفي مشروعه الايديولوجي التنويري التحديثي، فيدعو الى استخدام “المنهج الجدلي التاريخي التراثي”، اي الانتقال من الجزء الاجتماعي الى الجزء التاريخي الى الجزء التراثي، ثم الانتقال من الكل الاجتماعي الى التاريخي فالتراثي. في هذا السياق، يرفض تيزيني مقولة “الجاهلية” التي يرى انها تؤدي من موقع “الاسلاموية” وظيفة ايديولوجية لتهميش العصور السابقة على الاسلام وادانتها، ولتكريس مركزية الاسلام كبداية للتاريخ الحق. لذا يطمح تيزيني الى الكشف عن “الوحدة التاريخية والاتنوغرافية لشعوب العالم العربي القديم”، لإبراز المجتمع العربي القديم في تاريخيته الخاصة، مستخدما العديد من المراجع الاتنوغرافية الكلاسيكية عن تركيبة الشعوب السامية. بالنسبة الى الكاتب المغربي عبدالله العروي، يرى الكاتب انه لا يستخدم المفاهيم على طريقة التأسيسات الفلسفية، وانما من خلال سياقات توظيفها. فبالنسبة اليه “ثمة مسافة نوعية بين المفهوم كما يحضر في الوعي والمفهوم كما يستخدم عمليا”. لذا يقوم منهج العروي في دراساته التاريخية الصرفة وتحليلاته الثقافية على خطوتين متلازمتين: لحظة التفكيك والتحليل ولحظة التركيب، في نمط من “المقاربة الدورانية” حيث كلٌّ من المحطتين تفضي الى الاخرى من دون امكان الفصل بينهما في النتيجة.
يعتمد الكاتب التونسي عبد المجيد الشرفي منهجا يدعو الى تطبيق نقد النص الديني ومسالك العلوم الانسانية على الاسلام بهدف اصلاحه وتحديثه، وضرورة تجاوز المنظومة التأويلية الاسلامية الوسيطة بكاملها، ورفع سقف الاجتهاد المطلوب مع “الوفاء لجوهر الرسالة المحمدية”. دعوته الى تطبيق مناهج العلوم الانسانية التي طُبقت على الديانات الاخرى، تنطلق من اعتبار الظاهرة الدينية خاضعة للنواميس نفسها، بحيث تؤدي هذه المناهج الى قراءة الظاهرة الدينية في تاريخيتها وسياقها الاجتماعي مع رفض التصور “الماهوي للدين”، اي حصره في فهم احادي الجانب. في تعريفه للكاتب الجزائري مالك بن نبي، يشير الكاتب الى ان الاسلام ليس له “اي خصوصية في المبدأ”، لأن جميع الحضارات لها امكانات نهوض ذاتية منسجمة مع “خصوصياتها العقدية والتاريخية”، لذا يقدّم حلوله لمشكلات النهوض الاسلامي ليس من منطلقات دينية، بل من خلال الإصلاحات الثقافية والاجتماعية والمؤسسية، واعادة بناء شخصية الانسان المسلم. وهذا ما دفعه الى التشديد على ان إرجاع التخلف والانحطاط في عالمنا العربي والاسلامي الى المسؤولية الاستعمارية ليس سوى حيلة زائفة لتبرير الوضع المختل اصلا، الذي ادى الى الاستعمار.
يحتل الكاتب الجزائري محمد اركون موقعا متميزا ضمن مفكري التنوير في العالم العربي والاسلامي، فهو اهم من سعوا الى اخضاع النص القرآني الى “محك النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي، والتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وتحولاته وانهدامه”. لذا طرح مشروعه في “نقد العقل الاسلامي” الذي يصفه اركون نفسه بالقول: “انه مشروع تاريخي انتروبولوجي في آن واحد، انه يثير اسئلة انتروبولوجية في كل مرحلة من مراحل التاريخ. ولا يكتفي بمعلومات التاريخ الراوي المشير الى اسماء وحوادث وافكار وآثار من دون ان يتساءل عن تاريخ المفهومات الاساسية المؤسسة كالدين والدولة والمجتمع والحقوق والحلال والحرام والمقدس والطبيعة والعقل والمخيال والضمير واللاشعور واللامعقول، والمعرفة القصصية والمعرفة التاريخية والمعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية…”. كما ان اركون يرى ان مشروعه يفسح المجال امام الحداثة والانوار، ويهيئ الارضية للاصلاح الديموقراطي من خلال العمل الفكري والسياسي والاجتماعي “لإنجاز ديموقراطية ملائمة للاوضاع الخاصة بكل مجتمع”. يتمحور مشروع الكاتب المصري الراحل نصر حامد ابو زيد على “اشكالية التأويل وطرق قراءة واستثمار دلالات النص الديني والتراثي من منظور اراده ان يكون تأسيسا لـ”هرمنوطيقيا عربية جديدة”. في خصوص “النص التراثي”، يدرج ابو زيد منهجه في تأويل النصوص تحت عنوان “الوعي العلمي بالتراث”، اي دراسته من حيث “الأصول التي كوّنته والعوامل التي ساهمت في حركته وتطوره”. من هنا يجب النظر الى النص في ابعاده اللغوية و”مجال تنزيله العيني”، بما يعني كونه منتجاً ثقافياً لا ينفصل عن مسار تشكله في الواقع والتاريخ حتى لو كان مصدره الهيا. “فالوعاء اللغوي للرسالة الالهية يدمجها في النظام الثقافي ويخضعها لأرضية الواقع المعيش”
ما جرى تقديمه طاول قسما من الكتّاب الذين عرّف بهم السيد ولد اباه، وهو عرض يستحق التقويم الايجابي بالنظر الى تقديمه ابرز مقولات هؤلاء المفكرين الذين يستحقون دراسة أوفى واشمل لإنتاجهم المتنوع والمتعدد، ولفائدة نشره في المجتمعات العربية من اجل تأسيس ثقافة تنويرية تتصل بالعصر والحداثة.

خالد غزال
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى