الصمت الآثم: «المبشرون» وغسل الأدمغة!
عبد الحسين شعبان
أماطت صحيفة «نيويورك تايمز» اللثام عن تقرير إعلامي مهم تضمن إحصاءات وبيانات مثيرة عن منظمة إعلامية أميركية تدعى «شؤون الإعلام» (Media Matters). وقالت الصحيفة إن بعض المحللين العسكريين الأميركيين متغلغلون في كبريات شبكات التلفزة الأميركية التي تستضيفهم وتنقل عنهم آلاف المرات، ولعل الهدف من ذلك هو توجيه الرأي العام الأميركي بطريقة «مركزية» قد تكون أقرب إلى الأنظمة الشمولية لخدمة السياسة الأميركية الراهنة والترويج لها، لاسيما بعد إخفاقها في السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد تدهور صدقيتها على النطاق العالمي.
وعلى سبيل المثال، ظهر المحلل السياسي الأميركي ديفيد غرنغ 921 مرة في برامج وأخبار شبكة «CNN»، يليه المحلل دونالد شيبر الذي ظهر 713 مرة على الشبكة ذاتها، وهما ضمن المجموعة الأيديولوجية المعتمدة لدى البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية).
ولعل رجال البنتاغون وهم يظهرون داخل شبكات الإعلام الأميركية، وذلك بوصفهم قوة أيديولوجية وتبشيرية موجهة لنشر الرسائل أو ترويج الأفكار والآراء من طرف محللين سياسيين واستراتيجيين، مضمونون كـ «وكلاء» يمكن الاعتماد عليهم في نقل أهداف ومقاصد الإدارة الأميركية إلى ملايين الأميركيين، للتأثير على الرأي العام وتوجيهه وفقا لمعلومات خاصة لاختراق العقول والأدمغة والتأثير على المشاعر والعواطف، وبالتالي استخدام كل أنواع الدعاية السوداء وغير السوداء وضخ المعلومات لإقناع المتلقين والمشاهدين.
وقد رصد مكتب المحاسبة الحكومية -وهو ذراع بحثي للكونغرس- في تقرير له عام 2006 عقودا واتفاقيات مع شركات خاصة وأفراد تابعين للبنتاغون مع جهات إعلامية وعلاقات عامة ووكالات إعلان وصحافيين، شركات وأفراد، بلغت قيمتها 61 مليار دولار خلال سنتين ونصف السنة (من أكتوبر 2002 ولغاية مارس 2005).
لعل الهدف من عمليات غسل الأدمغة وشراء أفراد وشركات وعقد صفقات واتفاقات وحشد الإمكانات الهائلة المادية والمعنوية إنما يستهدف التأثير على العقول والتعويض عن فترة السنوات الست من التضليل الإعلامي الأول الذي عاشه الأميركيون، على حد تعبير المفكر نعوم تشومسكي. تلك الفترة المسترخية التي تم البناء عليها ببطء خلال سنوات أواخر الثمانينيات والتسعينيات، أو عن طريق صدمات، لاسيما بعد أحداث سبتمبر 2001 الإرهابية الإجرامية عام 2001، وذلك لحساب صناع القرار المخفيين داخل دائرة الرئيس بوش، وفي المقدمة منهم الجنرالات في البنتاغون، الأمر الذي له علاقة بالترويج للقوة العسكرية المرتبطة بمصانع السلاح الأميركي، وهي واحدة من أخطر جماعات الضغط، وكذلك بالتحالف المديد والوثيق بين المجتمع الصناعي والمجتمع الحربي.
استغرقت الفترة الأولى من التضليل الإعلامي الجديد الطويل الأمد بالدعوة إلى نشر قيم الديمقراطية والتعددية وحرية السوق، مع استخدام العصا الغليظة أو التلويح بها كلما كان ذلك ضروريا لبسط سلطان الهيمنة وإعلان انتصار الليبرالية كنظام أحادي في العالم. ولعل نظريات مثل نهاية التاريخ لفوكوياما وصدام الحضارات لهنتنغتون قد راجت في هذه الفترة التي امتدت من نهايات الحرب الباردة وتحول الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل جديد، لاسيما باعتبار الإسلام خطرا يهدد البشرية بعد انهيار الشيوعية الدولية، إلى فترة التسعينيات حيث هيأت إدارة جورج بوش الأب وبيل كلينتون كلها بتوفير المستلزمات للمرحلة الثانية التي تصاعدت بعد وصول بوش الابن إلى السلطة، والتي ترافقت بالحرب على أفغانستان والعراق واحتلالهما، والتصعيد ضد إيران وسوريا وكل من تعتبره واشنطن من محور الشر أو من الدول الداعمة للإرهاب الدولي، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر.
وكانت واشنطن قبل تقديم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد استقالته قد أعلنت عن إنشاء وحدة جديدة للعلاقات العامة تابعة للبنتاغون لتنفيذ استراتيجية الاتصالات الجديدة، وبشكل محدد تقديم وجهة نظر واشنطن الرسمية للأحداث في العراق وغيره من الدول.
لم يعد الخداع الذي وصل ذروته عشية الحرب على العراق ممكنا، كما أن انطلاءه كان لحين، وهو ما عبر عنه كثيرون تعرضوا له، لاسيما بعد تدهور الوضع العراقي وانكشاف عدم وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق وعدم وجود علاقة له بالإرهاب الدولي وتنظيم القاعدة، خصوصا بعد نشر الكثير من الكتب والوثائق، بما فيها للبنتاغون نفسه.
وينقسم الذين مارسوا الخداع وواصلوه إلى قسمين: الفريق الأول هو المؤدلج الذي كان ضحية أوهام القوة والسيطرة الإمبراطورية، وظل يصر على أن النصر حاصل حتى لو شعر بالهزيمة. وهؤلاء من المحافظين الجدد اليمينيين الذين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع إسرائيل، لاسيما في ظل تأثير اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. أما الفريق الثاني، فقد بدأت شكوكه تتعاظم بعد الفشل والخسائر العسكرية والمادية والمأزق الأميركي في العراق، وما حصل في سجن أبوغريب وكذلك غوانتانامو، فاندفع يعرب عن تراجعه. ولذلك اقتضى الأمر حزمة جديدة من الأيديولوجيين والمبشرين والوكلاء لتبرير وتزوير الحقائق، وتقديم شهادات وتحليلات زائفة بهدف إثبات العكس، وتلك كانت خطة البنتاغون الجديدة!
لقد وصلت شعبية الرئيس بوش إلى الحضيض، وصارت هناك فجوة كبيرة بينه وبين الرأي العام. كما طالب %54 من أعضاء الكونغرس بعزل بوش الذي فقد صدقيته، ولولا الخوف من مجيء ديك تشيني محله -وهو الأكثر تطرفا وعراب الخداع- لطالب الكونغرس بتنحية بوش.
وخلف الخداع حقيقة أخرى مهمة، ألا وهي سقوط وهم الإعلام الليبرالي المستقل، إذ لم تعد الثقة متوافرة في روايات التلفزيون الأميركية المخترقة التي باتت جزءا لخنق الحقيقة أو تشويهها أو الدفاع عن الزيف أو ترويج الأكاذيب لغسل الأدمغة، ولاذ البعض الآخر بالصمت ال