تجدد احتمالات الضربة العسكرية لإيران
لم يعد من الغريب أن يطير الساسة مئات الأميال في اليوم الواحد إن كان ذلك ضرورياً للقيام بمهماتهم الدبلوماسية، ولكن المؤكد أن جورج بوش الابن لم يسافر كل هذه المسافة لمجرد ذرف الدموع على ضحايا الهولوكوست. إذ كان بوسعه أن يذرف دموعاً أكثر بكثير في متحف الهولوكوست الضخم والذي لا يبعد عن البيت الأبيض سوى أمتار.
والغريب حقا هو أن يقضي الرئيس الأميركي أسبوعا كاملاً في منطقة الشرق الأوسط ليقوم بأشياء كان بوسعه القيام بها بالوسائل الدبلوماسية العادية، فتحريض دول الخليج على العودة لتطبيق سياسات الاحتواء وتشجيع الفلسطينيين والإسرائيليين على الدخول في مرحلة التفاوض حول الوضع النهائي والإقدام على نوع من المصالحة مع مبارك أو مع مصر الغاضبة كلها هي مهمات اعتيادية لا تحتاج إلى سفرة طويلة.
أعتقد أنه لم يأت إلى المنطقة لتحقيق هذه الأهداف وأن هدف الزيارة كان الاطلاع المباشر على تصورات وخطط إسرائيل لضرب إيران والتشاور حول المبررات والروادع السياسية والتوصل إلى قرار في ما يتعلق بهذه المسألة الاستراتيجية.
البعد الاستراتيجي
لقد نوقشت مسألة توجيه ضربة عسكرية لإيران كثيرا في الصحافة خلال العام الماضي بالذات، غير أن هذه المناقشات لم تكن أبدا كاملة. إذ ركزت معظم التعليقات بكل أسف على الملف النووي الإيراني، وفي تقديري أنه حتى قبل تقرير المخابرات الأميركية لم يكن القلق الأميركي من إيران هو القنبلة. فالمصدر الأشد للقلق هو الخلل الجامح في موازين القوى في الخليج بعد الغزو والتدمير الأميركي للعراق الذي مثل الضمان الأساسي للتوازن. فبكل بساطة صارت إيران قوة كاسحة مقارنة بدول الخليج العربية الصغيرة خصوصاً بعد أن تمكنت من الحصول على وضع مهيمن في العراق وبدرجة أقل في لبنان عن طريق التنظيمات الشيعية وثيقة الصلة بطهران. وفوق أن هذا الخلل استراتيجي فهو أيضا ثقافي وسياسي لأن إيران هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك رسالة سياسية ما ذات مصداقية وشعبية حقيقية. ومع أن هذه الرسالة مذهبية ومستمدة من مصدر فقهي واحد فهي ذات تأثير عربي وإسلامي بل عالمي عام يتجاوز السياسات التقليدية والمحلية للدول. وبهذا المعنى فإيران صارت تماثل من زاوية معينة الاتحاد السوفييتي السابق أثناء مرحلته الثورية ولابد من حرمانها من هذه الجاذبية أو هذا النفوذ الكبير لأنه ببساطة غير محتمل أميركيا.
وهو كذلك في الواقع غير محتمل من جانب بعض دول الخليج العربية، فهي لا تشعر بالقلق فقط من خلل ميزان القوى المادية بل أيضا مما يعنيه ذلك بمعايير النفوذ والجاذبية وقوة الخطاب ورواجه وتأثيره في مختلف مستويات الاستقرار، ويبدو هذا القلق أمراً ثابتاً ويصعب تغييره بهذه المبادرة أو تلك لأنه يعبر عن نفسه في وقائع مادية تغري بالتوسع وتمدد النفوذ حتى لو لم يكن ذلك أمراً مقصوداً أو مدفوعاً بشخصيات أو إيديولوجيات، فما بالنا وقد صار كذلك بعد انتخاب الرئيس أحمدي نجاد.
بل ما بالنا وهذا الخلل الاستراتيجي يتحول إلى خلل نووي فوق أنه تقليدي، ومن وجهة نظر أميركا ودول الخليج فإيران لم تكتف بالجوائز الكبيرة التي حصلت عليها بدخول الأميركيين إلى العراق وإلى أفغانستان وإسقاطها لنظامي صدام حسين وطالبان، كما لم تكتف بالنفوذ الكبير الذي حصلت عليه في عدة دول عربية بل إنها تطلب فوق ذلك امتلاك قدرات نووية وهو أمر تراه أميركا وبعض دول الخليج مبالغة في السعي نحو التفوق.
ولكن قلق دول الخليج شيء وقلق إسرائيل شيء آخر تماماً، فالأولى لا تستطيع في المدى المباشر سوى اللجوء إلى المستوى الدولي أما الأخيرة فلديها هي نفسها قدرات نووية ولديها خبرة في ضرب برامج الطاقة الذرية خصوصاً المفاعل العراقي أوزيراك عام 1981 ولديها سياسة الضمان المطلق للاحتكار الكامل للأسلحة الذرية ولديها فوق ذلك أسباب كثيرة للقلق من إيران التي صارت المحرض الأكثر فعالية ضد إسرائيل في المنطقة. وبسبب القلق الإسرائيلي صارت السياسة الأميركية في عهد بوش الصغير هي حرمان إيران بأي ثمن من فرصة امتلاك التكنولوجيا النووية وتحديداً خبرة تخصيب اليورانيوم إلى المستويات المعروفة في الاستخدامات العسكرية.
ذهنية المستحيل
وشوه النقاش حول احتمالات العدوان على إيران ما يقال عن الصعوبات الكبيرة المعروفة التي تجعله مغامرة. فإيران تملك أوراقا ردعية وثأرية كبيرة على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية. ويقال إن ضرب إيران قد يرفع سعر النفط إلى 150 – 200 دولار للبرميل مسبباً موجة تضخم قد تدمر الاقتصاد العالمي. ومن الناحية السياسية فإيران يمكن أن تطلق «حزب الله» والحركات الجهادية المرتبطة بها لضرب المصالح الأميركية في مواقع وبلاد مختلفة. ثم إن لإيران نفوذاً هائلاً في العراق وقد يمكنها تحريكه ضد أميركا في أي وقت. وأهم من ذلك كله فهي تملك وسائل صاروخية وغير صاروخية لضرب إسرائيل والقواعد الأميركية في الخليج بل دول الخليج نفسها.
نقول إن هذه الصعوبات شوهت النقاش لأنها في ما يبدو دفعت كثيرين جداً للترويج للاعتقاد بأن أميركا لا تستطيع ضرب إيران عسكرياً! ومن ثم تم استبعاد هذا الاحتمال في الفكر الاستراتيجي العربي المعبر عنه في وسائل الإعلام على الأقل.
وكان تقديرنا أن هذا الاستبعاد ساذج ولاعقلاني لسبب واضح بذاته، فجميع العمليات العسكرية الكبيرة والمهمة تواجه بالضرورة صعوبات كبيرة، ولكن هذه الصعوبات لم تمنع ما يسمى بالحل العسكري، بل إن الفكر العسكري مطلوب بالذات لحل الصعوبات المتوقعة في معظم العمليات والحروب.
وعلى أي حال فإن اعتقادي أيضا أن إيران والخبراء الراديكاليين العرب يخطئون كثيرا باستبعادهم هذا الاحتمال والوقوع في المبالغة في قيمة الأوراق الإيرانية في ظل سيناريوهات معينة للضربة العسكرية.
وفي تقديري أيضا أن ما منع ضربة عسكرية أميركية لإيران حتى الآن هو الموقف بالغ السوء لأميركا في العراق، وأهمية هذا العامل لم يكن عجز أميركا عن توجيه ضربة ساحقة ماحقة لإيران عن طريق الجو -وهو السيناريو الرئيسي للضربة- إنما تراجع التأييد الشعبي داخل أميركا للعمليات العسكرية في الخارج بسبب تعثر وفشل مشروع غزو العراق والنزيف المالي (وهو أهم بكثير في حسابات السياسة الأميركية عن النزيف البشري) الذي يسببه. بل إن القطاع الرئيسي أو العقلاني من «المؤسسة الأميركية» أي من نخبة الحكم لم تعارض فقط فتح جهنم مع إيران قبل أن ينتهي جهنم العراق بل طلبت الانفتاح على إيران والحصول على تعاونها وصولا إلى استراتيجية خروج من العراق تكون كريمة لأميركا، ولأن هذا المنهج الذي عبر عنه تقرير بيكر هاملتون هو الذي أنقذ الولايات المتحدة في العراق خلال الشهور الستة الأخيرة كان من الصعب مخالفته خصوصاً بعد أن صدر تقرير المخابرات الأميركية بخصوص الملف الذري الإيراني.
عامل آخر مضاف منع الأميركيين من توجيه ضربة لإيران هو المعارضة الأوروبية، وكانت أوروبا القديمة توصلت إلى حل وسط مع أميركا يقوم على التعاون الأوروبي في العقوبات الاقتصادية مقابل استبعاد الحل العسكري على الأقل في الأمد المنظور.
البديل ضربة إسرائيلية
وفي ما يبدو فإن سيناريو الضربة العسكرية الأميركية الساحقة الماحقة لايزال بعيدا رغم تجدد الحديث عنه، ولكن بالمقابل فإن ثمة اختيارا بديلا أمام جورج بوش الصغير وهو قيام إسرائيل بالمهمة بطريقة أو أخرى.
ومن المحتمل للغاية أن يكون جورج بوش الصغير جاء للمنطقة تحديدا لمناقشة هذا الاحتمال مع الساسة الإسرائيليين، ومن المحتمل أيضا أن يكون قد وافق على إجازة قيام إسرائيل بهذه الضربة وحدد أهدافها السياسة وآفاق الفعل وردود الفعل والنتائج المحتملة كلها.
* لم تكن زيارة الرئيس بوش الصغير إلى المنطقة مجرد مهمة علاقات عامة، فقد صرح أنه ناقش رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بشأن قضايا «بالغة الحساسية»، وفسرت بعض الصحف الإسرائيلية هذا التصريح بأنه يتعلق بإيران، وتساءل بعضها ما إذا كان بوش قد منح أولمرت الضوء الأخضر لضرب إيران عسكرياً.
ومن المرجح أن هذا هو تحديداً ما فعله وأنه ناقش أيضا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ومسؤولين عسكريين واستخباراتيين آخرين مسألة التوقيت، ومن المحتمل أن يكون بوش قد ترك المسألة لمزيد من المشاورات واعتبرها تطبيقاً من تطبيقات فلسفته في مواصلة الضغط على دول الخصم وترك التدابير المحددة ضدها مفتوحة لاتخاذ قرار بقدر ما تسنح الظروف.
لماذا إسرائيل وليس أميركا؟
الإسرائيليون كانوا أكثر تعجلاً من بوش بكثير في ما يتعلق بضرب إيران، فإضافة إلى أن لديهم أسباباً موضوعية تدفعهم إلى تفضيل هذا السيناريو، فهم أيضاً قلقون من إمكان تغيير التركيبة الحكومية القائمة حالياً، وهو ما يفرض تأجيلاً غير مطلوب لهذه الضربة خشية معارضة الرئيس الأميركي المقبل لها، فهم إذن يريدون استثمار بوش الابن قبل أن يرحل.
تدخل هذه كلها في باب الاحتمالات، أما ما يدخل في باب الترجيحات فهو أمران:
الأول، هو أن بوش مصمم على أن يوجه ضربة إلى إيران قبل أن يترك البيت الأبيض، وأنه يريد أن يدخل هذا الإجراء ضمن تراثه السياسي، ولن تمانع نخبة الحكم الأميركية في ذلك، صحيح أن الرئيس لا يتخذ تقليدياً في هذه الفترة قرارات خطيرة ولكن نخبة الحكم قد تفيد من ضربته – ولو غير المباشرة- لإيران وتحمله مسؤوليتها في نفس الوقت باعتباره رئيساً يقضي أيامه الأخيرة في سدة الحكم.
والثاني، أن بوش صار يفضل أن تقوم إسرائيل بهذه العملية بدعم تكنولوجي وإسناد سياسي من جانب الولايات المتحدة بدلاً مما كان يشاع عن أن الولايات المتحدة هي التي ستقوم بالضربة.
ومن الواضح أن إسرائيل لديها عدة مزايا مقارنة بأميركا، في ما يتعلق بالعدوان على إيران:
أولى هذه المزايا هي تجنيب الولايات المتحدة والقوات الأميركية في العراق والخليج عمليات الثأر الإيرانية، فرغم أن الولايات المتحدة ستؤيد ضربة إسرائيلية لإيران، فالأخيرة سوف تكون في موقف لا تحسد عليه، فهي إن تجاهلت الرد على أميركا ستكون قد أظهرت ضعفاً مفاجئاً وهي إن ردت على أميركا ستخاطر بجرها لتصعيد لا تريده ونحو صراع قد يصير «نهائيا» بصورة بالغة الخطر.
ومن ناحية ثانية فإسرائيل تملك ما لا تملكه القوات الأميركية في الخليج خصوصاً في العراق وفي قواعدها في الكويت وقطر والبحرين وهو نظام متميز وكفؤ للدفاع المدني أو السلبي ضد الصواريخ الإيرانية وهي سلاح الردع والثأر الرئيسي لدى إيران.
ورغم ندرة المعلومات الموثوق بها فإن إسرائيل نجحت في تجنب الأسوأ في حروب الصواريخ التي تعرضت لها، وأن الهجوم الصاروخي الذي تعرضت له من العراق عام 1991 ومن جنوب لبنان و«حزب الله» عام 2006 كان محدود الأثر بفضل نظام الدفاع المدني الكفؤ الذي بنته منذ الخمسينيات فضلاً عن افتقار سلاح الصواريخ للدقة.
وبوجه عام فإسرائيل باعتبارها دولة معسكر تقبل دائماً بالمخاطرة العسكرية وهو ما لا تريده الدولة الأميركية خصوصاً في ظروف انقسام واضح في النخبة حول شن الحروب الخارجية عموماً، ويضاف إلى ذلك بالطبع أن إسرائيل هي من لديه مصلحة حقيقية في ضرب إيران عسكرياً، وأن الرغبة الأميركية في تطبيق هذا السيناريو تستهدف أساساً خدمة المصالح الإسرائيلية، ويعني ذلك أن إسرائيل «أولى» بالقيام بالعملية إن تلقت الضوء الأخضر والدعم المادي والإسناد السياسي من إدارة بوش. وبإيجاز فإسرائيل تريد احتكار السلاح النووي وضرب «حزب الله» والمقاومة الفلسطينية ضربة قاصمة من خلال إيران.
من الهجوم الكاسح إلى الضربة الجزئية
فارق آخر كبير هو أن إسرائيل لا تملك بالطبع القوة الهجومية العاتية للولايات المتحدة، فالتفكير الإسرائيلي سيتجه حتماً إلى ضربة أو سلسلة من الضربات الجزئية التي تستهدف أساساً المواقع النووية الإيرانية، وبدلاً من سيناريو الضربة الشاملة والكاسحة التي فكرت فيها الولايات المتحدة فإسرائيل ستقوم بضربة مركزة لعدد من المواقع الأكثر حيوية في البرنامج الذري الإيراني، ثم تنتظر لتدرس طبيعة الرد الإيراني لتقرر ما إذا كانت سترد على الرد بمزيد من الضربات الجوية أم تقوم بتبريد الموقف مع الوقت، فتتجنب النتائج السلبية لسيناريو الحرب الدائمة.
فإضافة إلى مضاعفة العنف وعدم الاستقرار في المنطقة، فالعالم كله يخشى أن تغلق إيران مضيق هرمز وتوقف صادراتها هي وصادرات عدد من دول الخليج من النفط مما يسبب زلزالاً اقتصادياً عالمياً، ولا يمكن استبعاد هذا السيناريو ولكن المتطرفين في أميركا وإسرائيل يقولون إن إيران لن تستطيع القيام بهذا الرد لأنها «لن تشرب النفط» وستعود حتماً لتصديره خصوصاً أنه عصب الحياة الاقتصادية هناك، ويمكن للغرب أن يخفف من نتائج فترة انقطاع نفطي قصيرة سواء بالاعتماد على مصادر أخرى أو بزيادة الاحتياطي، والواقع أن سياسات ملء خزانات النفط الاحتياطية خلال شهري نوفمبر وديسمبر الماضيين أنعشت نبوءات ضرب إيران لوضوح الدور المنوط بهذه الاحتياطيات.
ومن ناحية ثانية فالخوف من توجيه الثأر الإيراني نحو أميركا في العراق ليس كبيراً، صحيح أن النخب الشيعية الحاكمة حالياً في العراق موالية لإيران إلا أنه من المنطقي أن تكون موالية لنفسها بدرجة أكبر.
وباختصار يعتقد العقل الاستراتيجي الإسرائيلي أن توجيه ضربة مركزة وأضيق نطاقاً من سيناريو الضربات الجوية الكاسحة التي فكر فيها الأميركيون سيكون أقل السيناريوهات سوءاً لأنه يجعل خيارات الرد الإيراني أكثر صعوبة وأقل ضرراً وقد يحقق نفس العائد السياسي المطلوب.
الرد الإيراني
مقابل هذا التفكير الشرير ماذا سيكون عليه الموقف الإيراني؟ ثمة ثلاث استجابات أساسية لدرء العدوان الإسرائيلي والثأر منه:
أولاً، يجب أن تكون إيران واضحة تماماً بإعلان مبكر أن أميركا تتحمل مسؤولية أي أعمال عدوان إسرائيلي، وأنها -أي إيران- لن تعفي أميركا من هذه المسؤولية تحت أي ظرف من الظروف.
وثانياً، يجب أن تكون إيران واضحة تماماً بإعلان أنها سترد على أي عدوان إسرائيلي بصورة مستدامة أي حرب طويلة الأمد، وهو أكثر ما تخشاه إسرائيل وأكثر ما يعرضها لخسائر حقيقية رغم نظام الدفاع المدني الجيد لديها.
ثالثاً، لابد من تأسيس تحالف عربي وعالمي حقيقي في مواجهة أعمال عدوان إسرائيلي أو أميركي محتمل.