صفحات سورية

تحوّل في العراق؟ المعطيات وبعض التوقعات

null

نهلة الشهال

كما كان منتظراً تماماً، لم تسفر زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى طهران عن تسهيل مهمته حيال الاتفاقيات التي يتفاوض بشأنها مع الولايات المتحدة. فقبل الزيارة، صرح هاشمي رفسنجاني، وهو المعتدل، بأن مثل تلك الاتفاقيات ستوجِد «احتلالاً دائماً»، وان «جوهرها هو تحويل العراقيين إلى عبيد للأميركان». وفي ختام الزيارة، قال المرشد خامنئي للمالكي أن عليه التفكير في طريقة لتخليص العراق من الوجود الأميركي وليس في كيفية التأقلم معه!

وبالتوازي عملياً مع هذه الزيارة الصعبة، يقوم الرئيس الأميركي بجولة أوروبية يفترض أن عنوانها هو الدعوة لتشديد الضغوط «الديبلوماسية» والعقوبات على إيران. ولكن أنباء مكثفة، متعددة المصادر، منها مقالات من مراكز أبحاث «متخصصة» ومن «خبراء»، أو ما أدلى به ايهود أولمرت في واشنطن، وما تسرب عن جولة نائب الرئيس ديك تشيني للمنطقة منذ بضعة اسابيع… تحمل كلها رياحاً حربية، ولو أنها كلها، وبغض النظر عن السيناريوهات، تشير إلى معنى مثل هذا الخيار ونتائجه، لجهة الإطاحة الكاملة بما تبقى من استقرار في المنطقة، والتسبب بارتفاع غير محدود في أسعار النفط، وتهديد حياة الجنود الأميركيين وسائر الأطر الملحقة بالاحتلال في العراق، علاوة على عدم وضوح المحصلة التي سيسفر عنها، بمعنى القدرة الأميركية على جني الفائدة المأمولة، وهي هنا كسر شوكة إيران. وبالطبع فحجة الحرب تدور حول وضع حد لما يقال له الخطر النووي الإيراني، المترافق مع تأكيد طهران لنفوذها على المنطقة. إلا أن نجاح أو فشل الإدارة الأميركية في تسجيل نصر في العراق قد يكون هو الميزان للإقدام أو للإحجام على التصعيد الخطير الذي يسمع قرع طبوله من بعيد. ويعني ذلك من ضمن ما يعنيه، أن العراق، بذاته، لا يقل أهمية عن إيران في عيون الإدارة الأميركية، وأن تشابك البلدين الجارين التام منذ الاحتلال لم يختصر بلاد الرافدين إلى مجرد ساحة للصراع مع إيران.

تسعى الإدارة الأميركية إلى حمل حكومة المالكي على التوقيع على اتفاقية من شقين، واحد يتعلق بـ«وضع القوات»، والثاني استراتيجي يتعلق بـ«التعاون الثنائي». ويسرب الأميركان أن اتفاقية «وضع القوات» مستوحاة مما وُقّع مع ألمانيا واليابان (!!) اثر الحرب العالمية الثانية، مع أنهم في المحاجة يقولون إنها مفاوضات بين بلدين «ذوي سيادة» لفائدتهما المشتركة… فأيهما ؟ وتهدف الاتفاقية إلى إنشاء حوالى 40 قاعدة أميركية – هناك حاليا 15 قاعدة كبيرة وعشرات المواقع الملحقة – وتنص على حرية حركة القوات الأميركية في عملياتها في البلاد، وعلى السيطرة التامة على المجال الجوي، وعلى الحصانة حيال أي مساءلة قانونية من قبل القضاء العراقي لأفراد تلك القوات، وللمرتزقة من العسكريين والأمنيين، وللعاملين في الشركات التجارية الأميركية القائمة في العراق. أما «التعاون الثنائي» فيقدم بصفته شاملاً مجالات سياسية واقتصادية وثقافية، وتنظمه اتفاقية محددة بعشر سنوات قابلة للتجديد أو للنقض، وما تسرب منها كموضوع اساسي يظهر ان اطارها هو «حماية العراق من العدوان الخارجي، ومن كل تهديد لسيادته وسلامة أراضيه ومياهه ومجاله الجوي»، ما حمل بعض أعضاء الكونغرس من الديموقراطيين على اعتبارها اتفاقية دفاعية ملزمة، وعلى المطالبة بعرضها على التصويت في المجلسين قبل إقرارها، وهو ما لا تريده الإدارة الأميركية بحال، نافية أي حاجة إليه لأن الاتفاقية لن تكون سوى «تنفيذية» كما تصفها.

أما العراقيون من أنصار توقيع هذه الاتفاقيات مع الأميركان فيحتجون علناً بأنها ستتيح إخراج العراق من مفاعيل ورطة البند السابع المطبق عليه بفعل قرار مجلس الامن بعد احتلاله الكويت (هل يستحضر ذلك بعض الورع عند من كانوا يلهثون في لبنان وراء بند سابع، إذا لم يكف البند السادس كإطار للمحكمة الدولية بخصوص اغتيال الرئيس الحريري؟). وأما المُتداول بحياء أكبر، وإن متناقص بسرعة ستؤدي إلى قرب التصريح به بعلنية فجة، فيشير إلى…ضرورة الاستقواء بالأميركان بوجه إيران، بل يدعو الدول العربية إلى الدخول على خط المفاوضات العسيرة الجارية، دعماً للسيد المالكي وموازنة للضغوط الإيرانية التي تمارس عليه. أما المسؤولون الأكراد الذين يرأس احدهم، السيد برهم صالح، الوفد العراقي المفاوض، فيتصرفون كأصحاب الشأن، متخففين مما يكبل سائر العراقيين بمن فيهم هؤلاء الموافقون على عقد مثل هذه الاتفاقية، سواء كانوا ممثلين لقوى شيعية أو سنية، بل يؤدون دور وساطة نشطة في المفاوضات الجارية، فيوضحون بنداً من هنا، ويعدلون بنداً من هناك، ويصرح بعضهم بأن الصيغة الأخيرة المتبادلة من مسودة الاتفاقيتين تظهر تقارباً يدعو للتفاؤل، بل يحاولون التشجيع على التوقيع بدفع ثمن مما يظنون أنه كيسهم، فيلوحون بتساهل ومرونة حيال وضع كركوك، كمكافأة للطرف العربي إن أقدم أخيراً.

هناك اعتبار أول لإصرار الإدارة الأميركية على تأطير وجود قواتها في العراق، يتعلق باقتراب تاريخ 31 كانون الأول (ديسمبر)، حيث ينتهي مفعول قرار مجلس الأمن الذي شرعن الوجود العسكري الأميركي (بعد وقوع الغزو). كما يحتاج الرئيس بوش إلى ما يمكن الاعتداد به كمنجز حاسم ملموس وليس كمجرد تصريحات هوائية على عادة ما فعل حتى الآن. وقد يرد أيضا اعتبار توريث الرئيس المقبل، أياً كان، مثل هذه الاتفاقية، وهو ما يمكن أن يربك تماماً مرشحاً كأوباما التزم بسحب القوات من العراق لو فاز… إلا إن الاعتبار الأهم من كل هذا يتعلق بمصير النفوذ الأميركي في المنطقة. فليس غرض الاتفاقيتين توفير شروط لوجستية مريحة لاستخدام العراق للعدوان على إيران، وهو البند الذي حمله السيد المالكي إلى طهران مطمئناً أنه لا يرتضي منح الأميركان حرية استخدام الأراضي العراقية لشن هجمات عليها، وما كرر الأكراد توضيحه من أن الطرف الأميركي عدل مسودة مشروعه باتجاه توضيح الالتزام بعدم وروده. علماً أن «التنازل» عن هذا البند ليس جوهرياً، لأن الدراسات المتوفرة تشير كلها إلى عدم حاجة الجيش الأميركي، حين لا يكون بصدد الاحتلال، لأي قاعدة أرضية من أجل شن ضرباته، وان حاملات الطائرات، وقواعد أميركية صرفة كدييغو غارسيا، تكفي.

توفر الاتفاقية الإستراتيجية بشقيها استقراراً لـ(حق) الوجود الأميركي في العراق وطابعاً قانونياً مشرعاً له. إنه تطبيع لهذا الوجود، وتجاوز لمرحلة الأمر الواقع الأولى. ويحق للأميركان افتراض أن حصول ذلك يوفر لهم فرص تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية، في العراق أولاً، ولكنها تتجاوزه إلى المنطقة بمجملها.

فهل يمكن لمثل هذه الوضعية أن تقوم؟ يلتزم الوفد العراقي المفاوض بعرض المسودة على البرلمان الذي من المتوقع أن لا يوافق عليها أيا كانت ومهما خُففت بنودها، وأن الانقسامات داخله أولاً، وداخل الكتل المكونة له ثانياً، تجعل من الصعب تماما توفير مجموعة متماسكة تصوت بالإيجاب. وأما موعد 31 تموز (يوليو) المقبل الذي يفترض أن تقر بحلوله الاتفاقية فيبدو غير واقعي طالما ما زالت الأمور على هذا القدر من الاضطراب. كما تطالب كتل سياسية أساسية بعرض الاتفاق على الاستفتاء العام حيث الجواب معروف سلفاً. هذا فيما يخص آلية الإقرار. وأما المعارضة العراقية العامة له، فقواها الفاعلة تتجاوز كثيراً الأوساط التي ترى فيه فوائد، سواء عامة، أو تتعلق بتعزيز وضع ومصالح فئات بعينها. كما أن الاضطراب في المنطقة لا يوفر «اللحظة» التي يتطلبها استقبال مثل هذه الاتفاقيات ايجابيا، وهي عادة لحظة إجماع، كما حدث غداة الحرب الثانية بين الحلفاء المنتصرين، أو لحظة غفلة فيما يخص بلداناً إما ثانوية أو واقعة أصلاً في دائرة النفوذ الأميركي، أو حقق الأميركان في زمن الحرب الباردة نقاطاً في الصراع تجيز اقتطاعها لهم، وهي حالات من يشير السيد ساترفيلد إلى بلوغ عددها الـ88 بلداً، للولايات المتحدة معها اتفاقيات مماثلة!! وهناك أخيرا الرفض الإيراني الذي يصعب توقع تغيره رغم ما يقال عن عروض مقايضة جارية مع إيران

سيكون إذاً شأن هذه الاتفاقية ومصيرها العنوان الطاغي، وستتضح على ضوئه الكثير من المواقف وتتبلور الكثير من التطورات.

الحياة – 15/06/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى