المثقفـون والمخابـرات والمؤامـرات
باسين الحاج صالح
يتعذر تصور نقيضين أشد تباعدا من المثقف ورجل المخابرات إلى حد أنه يمكن تعريف كل منهما بتقابله مع الآخر.
المثقف رجل العلانية، الكشف والإظهار والعرض (وربما الاستعراض). من المألوف أن يقول إنه ينوي أن يكشف عن كذا، أو إنه اكتشف كذا، أو أظهر أو أثبت أو أبان أو عرض أو أوضح. بالمقابل، شغل رجل المخابرات موجه نحو السرية والخفاء والتكتم والحجب والكبت والقمع واحتكار المعلومات. المثقف يعلن كل ما يعرف، رجل المخابرات يكتم ما يعرف ويحجبه عن العموم. وبينما قد يصاب المثقف بداء الاستعراض فإن الداء الذي قد يصاب به المخابراتي هو «الاستسرار»، أي إمساك المعلومات كغاية بحد ذاته، أو السرية للسرية.
ومنذ عصر التنوير، قبل قرنين ونصف، المثقف رجل نور، استعاراته تتصل بالنور والضوء والرؤية وكشف الأسرار وإظهار المحجوبات وتعرية الحقائق، فيما جماعة المخابرات رجال ظل وخفاء وأسرار وكتمان وتعتيم وتمويه، وصولا إلى تعمد نشر معلومات غير صحيحة والقيام بـ«عمليات قذرة». هنا ينتقلون من الحجب السلبي إلى الحجب الفاعل والتشويش.
لا تكتسب معارف المثقف قيمة إن لم تطرح في المجال العام، أي أمام أنظار الجميع، فيما تفقد معلومات رجل السلطة السري كل قيمة إن جرى تداولها في المجال العام. يريد المخابراتي أن يكون كل شيء مكشوفا أمامه، ولو بالعنف. هو وحده غير مكشوف. أما المثقف فيريد أن يكشف كل شيء، لكن دون عنف، ودون إخفاء نفسه. لكن في الحالين ثمة رباط بين الأمن بالمعرفة. المثقف يأمن إذا عرف ونزع الغرابة والخفاء عما يدرس، وإذا عُرف ايضا. والمخابراتي يأمن إن عرف ونزع السر عما هو محجوب عنه، واحتكر المعرفة لنفسه. لكن معرفة الأول غاية بذاتها، فيما غاية معرفة الثاني هي السلطة. وأمن المثقف قابل للتعميم في مجتمعه أو في مجتمع البشر ككل. فيما أمن رجل السلطة خاص، مشروط بنزع أمن آخرين.
ولأن المعرفة أداتية عند رجل المخابرات فإنها ترتد إلى معلومات. والعالم عنده لا يتوحد إلا كموضوع للسلطة، فإن كانت معرفة المخابرات مصدرنا الأوحد لمعرفة العالم تكونت لدينا صورة عن عالم مفتت، متناثر، لا يتماسك دون سلطة فوقه.
شرط المثقف هو الحرية، وهذه شرط عمل أكثر مما هي قيمة يؤمن بها أو دعوة يباشرها. وهو يميل إلى تعميم هذا الشرط كما يميل إلى تعميم معارفه. هذا ينبثق من مفهوم المثقف دون أن يعني ذلك أن كل مثقف يطابق هذا المفهوم المبني بدوره على التجربة المكونة له في عصر التنوير، والتي كرسها المثقفون الأكثر جدارة بالاحترام منذ ذلك الوقت. الإنسان قيمة عند المثقف من هذا الباب، باب الحرية للعموم. الإنسان بسلامة جسده الشخصي، وبضميره المستقل عن السلطات، وعن العقائد والقبائل أيضا، وعقله المستقل، وحقه المطلق في الحياة والحرية، هو ما يمكن أن يكون قيمة مطلقة عند المثقف. عند المخابرات القيمة المطلقة هي السلطة. وهذه مناهضة مبدئيا للحرية، وتفترض قابلية غير متناهية عند الإنسان للتشكل وإعادة التشكل. لا حرمة لجسده، بل هو قابل للإيلام والتعرية والفسخ والطي واللي والتمزيق والاختراق والحرق والبتر والقطع… وضميره المستقل هو عدو محتمل، يتعين التغلب عليه وكشف مضمراته وخباياه. عند المخابرات للحياة والحرية، وللإنسان ذاته، قيمة نسبية؛ وحدها السلطة لها قيمة مطلقة. ووحدها السلطة حرة.
تزييف العالم
على أن الفارق الأهم بين الثقافة العالمة والمخابرات هو في النظرة إلى العالم. يعتقد المثقف أن العالم قابل للشرح، أنه ليس ثمة أسرار جذرية فيه، وإذا حزنا المعلومات الضرورية (ويفترض أنه ليس ثمة حائل جذري دون ذلك) والأدوات الفكرية والتقنية اللازمة، فإننا نستطيع معرفة العالم وإتاحة هذه المعرفة لجميع الناس. العالم ممكن الشفافية في عين المثقف. هو أيضا عالم غير مخاتل، لا يتعمد تضليلنا، وما من أبواب موصدة دون «أسراره».
رجل المخابرات، بالمقابل، لا يكتفي بحجب معلومات، بل ينتج معلومات مزورة، يعطي صورة غير حقيقية عن الأشياء. يفعل شيئا ويخفيه، أو ينسبه إلى غيره. يضع جواسيس في وسط من يعتبرهم خصومه، يضلل، ويخاتل. يتآمر. ويقتل. ومقياس أمنه أن يتجسس الصديق على صديقه. الصداقة مثل الضمير عقبة يوجب المخابراتي على نفسه أن يتغلب عليها. وليس ثمة ما يثبت أنه لا ينجح في إخفاء أفعاله، أو في تقديم صورة غير حقيقية عن الواقع. على سبيل المثال عرفنا في مطلع صيف 2007 أن للموساد ضلعا في تدبير عملية مطار عنتيبي في أوغندا قبل 30 عاما. كم هي العمليات التي لا نعرف شيئا عنها، وقد لا نعرف عنها شيئا أبدا؟ هل اغتيل ياسر عرفات؟ هل عمليات «جند الشام» في سوريا مفبركة؟ هل اغتيال علماء عراقيين من صنع الموساد؟ هل هناك أصابع خفية، إسرائيلية أو أميركية أو إيرانية..، في الحرب الطائفية في العراق؟ كم من العمليات التي نسبت لمقاتلين إسلاميين ارتكبها في الواقع عسكر الجزائر؟ وقبل ذلك، هل اغتيل جمال عبد الناصر؟ هذه أشياء قد لا نعرف عنها شيئا أبدا، أو لا نعرف عنها إلا بعد انقضاء وقت طويل، بعد أن تكون الجهات المعنية بها حققت أهدافها وربما دفعتنا، نحن خصومها من حيث المبدأ، للتصرف بما يناسبها. وهذا أمر يقلق عقل المثقف ومفهومه لنفسه قبل أن يصدمه كفاعل أخلاقي أو كمواطن. يقلق لأنه يهدد بتزييف العالم، وتاليا بجعل افتراض المثقف عن عالم قابل للشرح وممكن الشفافية تبسيطيا وساذجا. وما نخاف منه ليس المؤامرات بحد ذاتها، فهي فاعلية بشرية قديمة معروفة، ما نخافه هو أن لا نعرف أبدا إن كان ما نعرفه حقيقيا أم مزورا. أو أن نعرف متأخرين جدا، حين لا نفع من المعرفة. ونخاف إذا كانت المؤامرات والخطط السرية والبروتوكولات المحجوبة عن الأنظار صحيحة أن كل ما نعلمه ونتعلمه هباء لا قيمة له. كيف نأمن على عقولنا إذاً؟ كيف لا نشعر أننا ريش في مهب الريح؟ إننا نخاف من المؤامرات على هويتنا كمثقفين أكثر مما نخاف منها على وجودنا ذاته.
المثقف ينتقد «نظرية المؤامرة»، لأنه مثقف، لأن تعريفه كمثقف يتعارض مع التسليم بعالم مخاتل، فيه مناطق عتمة واعية، أي تراوغ جهودنا لإضاءتها، وتحركه إرادات مغرضة تتعمد تضليلنا. نشأ المثقف أصلا ضد السحر وعقائد الأسرار والمعجزات وكل أنواع الظلاميات والإرادات النزوية المتعالية، المنسوبة للجن أو العفاريت أو الملائكة أو الآلهة. لكن ما كان يخطر بالبال أن البشر الذين هتكوا «أسرار الطبيعة» وتمكنوا من «نزع السحر عن وجه العالم» وطردوا الجن والأرواح الخفية منه، سوف يفخخون العالم بأسرار من صنعهم ويبثون فيه أشباحا وينشرون فيه ظلمات يعسر تبديدها، وقد يورد كشفها إلى المنايا.
نظرية المؤامرة
والواقع أننا قد نقبل، كمثقفين، وجود مؤامرات، لكن موقفنا من تأثيرها المعرفي غير واضح: إما أن نعتقد أنها تلغي بعضها، أو أنها لا تكاد تؤثر على معرفة الواقع، أو أننا نعرفها دوما بطريقة ما. أو نفترض أنه لما كانت المؤامرات موافقة لمصالح المتآمرين، فيسعنا أن نستغني بمعرفة المصالح عن معرفة وقائع التآمر. لكن معرفة الوقائع الصحيحة هي التي تعرّف المثقف، ومنها أصلا نبني مفهوم المصلحة، المركب والتقديري دوما. فإذا احتجبت عنا معرفة الوقائع، كان من المحتمل أن نبنى مفهوما مختلا للمصلحة، لا يصلح لشرح العالم. ولعلنا في صرفنا لنظرية المؤامرة نصدر عن مفهومنا لأنفسنا كأبناء للتنوير، ولدورنا المفترض كشارحين للعالم، لا عن اطلاع ومعرفة كافية للمؤامرات والمخابرات وعالم الأسرار الحديث. نغفل عن نوع جديد من الظلامية التي تصنعها السلطة، عن أسرار وخفايا وألغاز ومعجزات، تختلف عن تلك التي ميزت العصور الوسطى الأوربية، لكنها مضادة للتنوير مثلها.
التنديد بنظرية المؤامرة يغدو موقفا دوغمائيا في مثل هذه الحالة، ينقذ من خلاله المثقف نظرته إلى العالم، دون ما يثبت أن العالم يمتثل فعلا لهذه النظرة. وتاليا يغدو الإزراء بنظرية المؤامرة «عائقا معرفيا»، لا يحول دون معرفة المؤامرات فقط، وإنما أولا دون معرفة عالم لا تكف المؤامرات عن تشويهه، ولا يكف فيه رجل السلطة السري عن التآمر والختل وتزوير صورة الأشياء وتحريف الأقوال والأفعال، وإنتاج عالم مختلف كثيرا عن عالم التنوير.
هل نتحدث هنا تاريخيا؟ هل لدينا أسباب للاعتقاد بأن المخابرات والمؤامرات تخرب العالم اليوم أكثر مما كانت تفعل قبل 20 أو 50 أو 100 عام؟ هذا ما نشعر به. عالم اليوم فيه أسرار ومؤامرات كثيرة. وفيه فوارق في المعرفة والتطور التقني والقدرة المالية تتيح للبعض التلاعب بغيرهم وتعمد تشويش مداركهم وفبركة «وقائع» وتصنيع «حقائق»، مع احتمال ألا ينجح المتلاعب بهم بكشف ذلك أبدا. أي أننا نغدو موضوعا منفعلا، فتتدنى حريتنا وإنسانيتنا، وتتراجع سيطرتنا على شروط حياتنا إلى درجة مقلقة.
وفي «الشرق الأوسط»، المنطقة التي قد تكون عش دبابير المخابرات في العالم أجمع، مخابرات الأميركيين والإسرائيليين والأوربيين والحكومات العربية..، المنطقة التي ترمى شعوبها بأنها أسيرة نظرية المؤامرة، كيف يستطيع المثقف أن يقف عند صورة العالم بوصفه قابلية أكيدة للشرح والشفافية؟ من يضمن أن ما نعرفه ليس شيئا صنع خصيصا من أجلنا؟ عرضا لجوهر من صنع بشري؟ كأن علاقتنا بالغرب تغدو ميتافيزيقية. كأن الغرب الذي لطالما جهد للتخلص من الميتافيزيقا نجح أخيرا في طردها إلينا.
وفي بلادنا، حيث تتفوق المخابرات على الجان والعفاريت، وحيث ينتشر الاشتباه، وليس دونما أساس دوما، بأن وقائع الأمور ليس كمظاهرها، كيف لنا أن نتيقن من أننا نعرف؟ أو أن ما نعرفه هو الأشياء المهمة؟ وما الآثار المحتملة لذلك على مستقبل الثقافة والمعرفة؟ وكيف يكون التنوير حين تكون المخابرات وأهلها مصدرا رئيسا للتعتيم؟ وحين تكون الحياة مهددة ومشوهة وملعوبا بها، هل يبقى للمعرفة أي مفعول أمني؟ وهل تبقى معرفة أصلا؟
(كاتب سوري)
خاص – صفحات سورية –