صفحات سوريةياسين الحاج صالح

المثقفون السوريون والتفاوض السوري الإسرائيلي

null

ياسين الحاج صالح

لم يحظ التفاوض السوري الإسرائيلي الذي يوشك أن يستأنف جولته العلنية الثانية في تركيا بما يفترض أن يناله من اهتمام المثقفين السوريين. هذا ربما لأن من المبكر توقع نتائج عملية من عملية اسطنبول، أو لأنه لا يزال من المحتمل أن تتعثر آلة التفاوض وتتحطم. ثمة سوابق معروفة من هذا الباب في تسعينات القرن العشرين. وقتها تفاعل المثقفون السوريون بصورة أكثر إيجابية، إن رافضين أو متقبلين. وكان لافتا أن انصب رفض الرافضين على «التطبيع»، وليس على إنهاء حالة الحرب ولا على عملية التفاوض.

هذا الموقف الملتبس يعكس موقعا ملتبسا. فقد كان هُجاة التطبيع مقربين من النظام وأعضاء في اتحاد الكتاب الرسمي، واتخذوا صحيفته الأسبوعية الرسمية منبرا لخطابة عالية النبرة ضد «التطبيع». كانت حججهم تنويعات لفكرة أن إسرائيل هي العدو الطبيعي والعلاقة الطبيعية معها هي الحرب، فإن كان لا بد من تسوية، فليس لنا أن نضفي عليها صفة طبيعية.

للسياسي أن يتفاوض ويبرم تسوية، لكن المثقف لن يسالم ويطبع. ولم يظهر ما يشير إلى أن «السياسي»، وهو من هو حينها، ساخط من توزيع الأدوار هذا.

وفي تلك الفترة جمدت عضوية ثلاثة مثقفين سوريين في الاتحاد لأن مواقفهم بدت ناشزة عن «الوطنية الطبيعية» للسوريين، وقد تمثلت هذه آنذاك بالسيد علي عقلة عرسان الذي رأس «اتحاد الكتاب العرب» نحو ثلاثة عقود.

لا نقاش اليوم من أي نوع. العملية ما تزال في طور باكر كما قلنا، وقد لا تتخطى هذا الطور. لكن كذلك لأن موقع التفاوض في أفضليات النظام مختلف جدا. في التسعينات كان النظام السوري مرتاحا نسبيا، ومن غير المحتمل أن ينعكس إخفاق التفاوض عليه سلبيا. بالعكس، لقد بدا لكثيرين، وربما لمقرري السياسة في عهد الرئيس حافظ الأسد، وربما للرئيس ذاته، أن نجاح التفاوض هو، بالأحرى، ما قد يكون بابا لمشكلات عسيرة، مشكلات تمس تكوين النظام وأولوياته ونمط شرعيته، وقد بنيت جميعا على قاعدة أن سورية في حالة حرب مع «عدو قومي» يحتل بعض أرضها وأراض عربية عزيزة أخرى، وأن الحياة السياسة في البلد يتعين أن تتمحور حول هذا الشرط. من هذا المقترب، تهدد استعادة الجولان بفتح جدول أعمال مربك في دمشق.

لعله لذلك كان النظام يتصرف في المفاوضات بحرص ودونما تعجل. لقد بدا أن «المواقف المبدئية» هي أفضل ما يلبي مقتضيات استقراره وشرعيته. والتقاء المبدئي مع المصلحي هو غاية ما يتطلع إليه السياسي. وإن كان السياسي من نمط حافظ الأسد، الرجل الذي شهد من موقع أساسي أو الأساسي وقائع 1967 و1973 مع إسرائيل، و1979-1982 في الداخل السوري، فسيكون حساسا جدا للثمن الداخلي المحتوم للسلام. ولقد وفر الإسرائيليون، عبر مطالباتهم بتعديلات على حدود 1967، فرصة أن يرفض نظام الرئيس الراحل ما يناسبه رفضه ويوافق مطلوبه.

الوضع مختلف اليوم. النظام الحالي يحتاج إلى التفاوض مع إسرائيل لكسر عزلة مزعجة، ولفتح أقنية حوار مع أطراف إقليمية ودولية نافذة من وراء ظهر أطراف عربية ما انفكت تتصور أنها الأقرب إلى تلك القوى النافذة. التفاوض جيد ومرغوب في مثل هذه الحالة بقدر ما يطول أمده، وليس بالضرورة بقدر ما يعطي من ثمار فعلية. يمكن القول هنا إن «الحركة كل شيء والهدف لا شيء». هذا فضلا عن أن تحقق الهدف، استعادة الجولان والسلام مع إسرائيل، لا يبدو اليوم مقتضيا للأثمان الداخلية التي تصور الرئيس الراحل، بحكم جيله وتكوينه وتجاربه ومفاتيح سلطته، أنه مقتض لها.

ولعله لهذه الاعتبارات يميل معارضو النظام اليوم إلى مقاربة مسألة السلام والتفاوض الجاري من منظور توسلها المحتمل من قبل النظام لتطبيع ذاته إقليميا ودوليا. بالمقابل قد يمكن فهم سكوت المزاج الممانع المستقل في سورية على المفاوضات الجارية بأن رفضه المبدئي للسلام مع إسرائيل يتعادل مع قرب هواه من النظام في وصف هذا قاعدة الممانعة. وفي الحالين تبدو مسألة السلام تابعة لشيء آخر فلا تقارَب كمسألة مستقلة.

لكن إن كان لا ريب أن التفاوض يستجيب لنازع عميق عند النظام إلى كسر العزلة، إلا أن سلاما سوريا إسرائيليا قد تتمخض عنه المفاوضات هو شيء مرغوب، تحتاج له سورية وتحتاج له الحياة السياسية والثقافية السورية، ويحتاج له المعارضون أنفسهم. كلما كان هذا أبكر كان أحسن.

فلا يصح أن تقارب المسألة حصريا من وجهة نظر نوعية استخدام النظام لها. فإذا تحقق السلام فستكون آثاره أكبر وأهم من توظيف النظام له، هذا حتى لو لم نأخذ بالاعتبار أن سياسة العزلة قلما تلحق ضررا بنظام مثل نظامنا، وأن في انكسارها مصلحة للشعب السوري تفوق مصلحة النظام نفسه.

من التبدلات الإيديولوجية والنفسية المهمة التي يمكــــن تلمس آثارها اليوم أننا لا نكاد نجد أحدا يستخـــــدم التفاوض الســــوري الإسرائيلي لإدانة النظام وتخوينــــه. من قد يرفضون المفاوضات والتسوية مع «العدو الصهيوني» يجدون أنفسهم على قرب من النظام في شؤون متنوعة، ولديهم أسباب متنوعة للخشية من فشله وتداعيه. ومن قد يعارضون النظام لا يجدون سببا قويا لرفض التفاوض، بل قد يفضلون نجاحه من أجل التمكن من إدخال قضايا أخرى مهمة إلى النقاش العام. هذا حين لا يشككون في غرض النظام من فتح أقنية تفاوضية مع إسرائيل كما أشرنا للتو.

واضح إذاً أن قضية السلام مسيسة جدا في سورية. أعني أن الموقف منها يمر عبر تفضيلات وانحيازات تحددها شؤون أخرى، الموقف من النظام بخاصة. هذا موافق لطبائع الأحوال السورية التي لطالما تميزت بكثير جدا من التسييس وقليل جدا من السياسة نفسها أيضا، وأقل بعد من فسحة مستقلة للإجماع الوطني. ولعل فائض التسييس هذا يفسر إحجام المثقفين السوريين المكرسين عن التطرق إلى التفاوض الجاري، إن بخير أو بشر.

من غير المتوقع في مثل هذا الشرط أن نجد نقاشا حول السلام كقيمة. ولعل غير قارئ سيتحفظ على الاستخدام المرسل لمدرك السلام في المقالة، في وصف ما هو في واقع الأمر محض «تسوية» قد تقبل على مضض. لكن كل سلام هو تسوية قد تقبل على مضض. لا ريب أن سلاما مستداما هو ما يبنى على أسس ثقافية إيجابية وليس على المضض. لكننا لا نخسر من تسوية على مضض إلا إذا كنا نجعل من تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل هدفا سياسيا عمليا راهنا لنا. النظام السوري لا يفعل ذلك منذ 35 عاما على الأقل.

بالعكس، إن تسوية تندرج في منطق الحساب السياسي العقلاني ستكون في مصلحتنا على مدى أبعد مهما تكن غير منصفة الآن. أما في غياب منطق السياسة العقلانية فلن تكون التسوية وحدها في غير مصلحتنا: كل شيء آخر
سيكون في غير مصلحتنا. أليس هذا واقع الحال؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أسوء مافي خطاب المعارضة والحكومة لاأقصدالسيدعطري..بل السيدالأسدوعائلته الكريمة..هومخاطبة الآخربالعدو…كل ماجرى في العراق لم يفيقنامن نومناونظن أنه فقط كابوس وعندماسنصحو سيكون العراق عمرانا ونتكدس على أبواب سفارته بدمشق لتحصيل عقدعمل؟ان ماحدث للعراق كابوس ولكن كمايقال صدقت الرؤيا؟؟؟انه حقيقة مرة لايجاريهاالا جلوس اولمرت مع الأسدعلى طاولة واحدة لأن كاتساف صافحه وخاتمي فتم اخراج أوراق كاتساف فتبين لهم بعدتمحيص أنه قلع للسكرتيرة مع أنه عندهم كله بيقلع لكله وكلهم نشؤافي كيبوتزات القلع ومع ذلك جرم بالقلع وقلع..وأصبح سابق بسلام..أمارئيسنافبقي ويبدوأن البث المعادي قددس صورة المصافحة..أوأنه صافحه لأن أصله ايراني وايران صديقة؟والريس شاب وصحه الحمدلله بخيروضيعان شبابه اذاكان يهيأله حفرة السادات ..لذانتمنى أن يكون حريصا مع أولمرت لأن الصابونة قدوضعت تحت قدميه..فليأتوابرئيس قوي مثل رئيسناوليفاوضوالأنه يفاوض باسم سورياوبقاياأشعة الحلم العربية والمسلمة التي تتمناه أن يوفق وأن يأخذحظ أباه..ولايخسرفنخسرسوريامعه..سوريالناوله الكرسي والمجدأوالعارحسب مايفعل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى