خطورة تدخل الدين في الفن: البوطي مثالاً
عمار ديوب
الدولة القوية والقادرة على تلبية حاجات المجتمع، ترفض أي تدخل من قبل المؤسسات الدينية في شؤون المجتمع والفن والثقافة، أمّا وأنّ الدولة السورية تتلكأ في بعض مسؤولياتها في موضع كهذا ومواضع غيرها، فإنّ المؤسسات الدينية الثريّة بما أنعم الله عليها تسرع لتعبئة الفراغ بأفكارها القروسطية. هذا ما حصل مع المخرج السوري نجدت أنزور.
فقبل عرض مسلسله “وما ملكت أيمانكم”، وزع محمد رمضان البوطي بياناً، عطفه بخطبة يندّد في المسلسل وينذر بغضب الله على كل ما ساهم في المسلسل تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً، وحتى المشاهدين لن يسلموا من غضبته، أقصد غضبة البوطي، التي رآها قادمة من عالم الغيب وكأنّه يشارك الله في قراءة الغيب، يقول: ” لقد علمت أن في هذه المسلسلات ما يستنزل غضب الله وسخطه بل مقته وعذابه، ولقد علمت أن هذه المسلسلات قد توضعت فيها جراثيم أوبئة وأمراض خبيثة ستسري عما قريب إلى جسوم أصحابها. “طبعاً أحلام البوطي، ممتلئة بجراثيم وحيوانات ستفتك بأجساد الأشخاص الذين ذكرتهم أعلاه، ولكن الرجل يشفع لأهالي دمشق”بلدتنا”، ولا أعلم ما مصير بقية أهالي بلاد العالم الإسلامي، الذي ليس لديهم العلامة البوطي ليشفع لهم.
برأي البوطي، المسلسل يسخر من آيات الله، في عنوان المسلسل ومن المؤمنين ومن الأمة الإسلامية ولا أعلم أيضاً ممن يسخر كذلك. هنا يتبين لنا، أن أصحاب الفكر الديني، ليست لديهم أية عقلانية ليجادلوا بالتي هي أحسن ويناقشوا ويقبلوا أو يرفضوا، بل هم يذهبون مباشرة نحو التأثيم والتكفير واستدعاء الله ليقوم بواجب الدفاع عن كتبه المقدسة وعن المؤمنين به.
الغريب، أن البوطي في خطبته، وهذه فكرة لا علاقة لها بتكفير المسلسل، يقول بأن موجة الحرارة تراجعت في شهر رمضان، وهذا من لطائف الله،” أرأيتم كيف اختفى الحر اللاهب وظهرت في مكان ذلك نسمات منعشة في ليلٍ ونهار “العجيب أن الحرارة لم تتراجع وأبسط ميزان للحرارة سيدل البوطي على ما أقول، إلّا إذا كان البوطي لا يخرج من منزله المكيف، وهذا من لطائف العلم… مصدر العجب، إنكار أمر لا يخطئه أي جسم بشري، فكيف حدث ذلك؟ أنا لا أعلم، ولكنني فقط أحلل ما أقرأ! وسأفتي أنا بدوري، ألم يكن الأجدر القول : أن الله انزل الحرارة لأن البشر خطاؤون وعليهم التوبة، ولذلك يحذرهم الله من مغبة التنكر للصيام والعبادة وممارسة ما ينهي عنه الدين، كالنظر إلى هذه المسلسلات الآثمة والكائدة! أليست هذه حجة أمتن وأكثر واقعية، خاصة وأن البوطي لديه مثل هذه الفتاوى، ولا سيما فتوى ابتلاء الفلسطينيين بالصهاينة نتيجة كفرهم ومعصيتهم الذات الإلهية. وفي نفس المنحى، قال رجال دين عن احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، حيث فساد العراقيين سلط عليهم الأمريكان، وكأن الأمريكان اقل فساداً! طبعاً لا يغيب عن بالي التأويل البائس لآيات القرآن الخاصة بالتسخير…
كل ما قلته أعلاه، لأنبه، إلى خطورة تدخل الدين في شؤون الفن، وأن التدخل ذاته، يتم هذه المرة، بأفكار وآراء لا ترقى إلى الفكر ولا الحوار، وهي عبارة عن أحلام وهلوسات ورؤى أناس يتكلمون وهم نائمون، والرجل يقول عن نفسه ذلك” كل ما أملك أن أقوله أنه كان بين يقظة ونوم”(1).
ما لا يجب طيّه هنا، هو أن إعلاميين من وزارة الإعلام رفعوا تقريراً إلى السيد البوطي ليتنبه إلى خطورة المسلسل؟ وهذا أمر غريب حقاً، فعلى أي قانون استندوا في ذلك التقرير، وإذا ما وجد قانون، ينص على إبداء رأي وزارة الأوقاف أو السيد البوطي بمسلسل يتكلم عن شأن ديني ما، فهذا يعني أن الدولة السورية دولة دينية في بعض تشريعاتها، وهي للأسف كذلك أحيانا، وهو ما يجب التخلص منه سريعاً لكي لا تغدو كذلك دائما.
بعد أن ناقشنا الجزء الخاص بالمسلسل من بيان البوطي، وفيه الكثير مما نرفضه جملة وتفصيلاً، فإنّ تدخل الدين في أمور الفن والثقافة والسياسة أمر يوصل المجتمع السوري ليكون مجتمعا دينيا ومنضبطا ومحافظا، وكأن الكلام في أمر الدين والتطرف هو فقط من شأن رجال الدين، وهو لعمري مما لا يمكن قبوله على الإطلاق، فالشأن الديني بحالته السلميّة أو العنفيّة هو أمر يخص كل أفراد الشعب، عدا عن أن المسلسل-والفن- عمل فني مصوغ بطريقة تستهدف تقديم قيم إيجابية لصالح المجتمع بكليته، وليس لصالح قيم سلبية يدافع عنها البوطي، قاصداً أو غير قاصد.
والسؤال هنا : ماذا يعني كل هذا التشنيع بالمسلسل وكل من عمل به، واعتبار الموضوع مكيدة مدروسة على مدى عامل كامل”هنالك مكيدة تحاك لهذه الأمة ولعباد الله الصالحين خلال أحد عشر شهراً من العام”، ألا يعطي هذا الكلام، الإشارة لسفك دماء أصحاب المسلسل، وإذا أحسنّا النية لتكفيرهم. أما قول البوطي أنّه لم يكفر مسلماً، فهو قول مردود. فمن المعروف، لأي ناظر أن البوطي أو غيره لا يستطيعون ذلك في سوريا بسبب قوة النظام، ولكن الرسالة وصلت للمتلقي المتطرف بكل بساطة، حيث يقول البوطي أنه أراد إبلاغ رسالة لأصحاب المسلسل، والحقيقة أن رسالته وقعت في أيدي المتطرفين أيضا؟
أردت التأكيد، إذا أردنا أن نكون أبناء عصرنا، فأنّه لا يحق لرجال الدين التدخل في شؤون الفن والثقافة ولو كان الموضوع متعلقا بالله والأنبياء، فهؤلاء ملك البشرية جمعاء، وليسوا محتكرين لشيوخ وأديان محددة، وإذا كان لأحد الحق بالتدخل، فيجب أن يتم الأمر عن طريق قوانين الدولة، فالقضاء وحده من يملك الحق بالحكم وقبول أو رفض مسلسل ما وتقييمه، إن كان لصالح المجتمع أو لا. وأما غير ذلك، فهو تعبير عن تراجع دور الدولة العمومي، وتقدم الفكر الديني نحو مشروعه الديني التكفيري لكل أنواع الفنون والآداب والعلوم والفلسفة، وكل ما يعلي من شان العقل والحرية والعدالة والمساواة بين البشر بغض النظر عن الدين والجنس واللون وأشياء أخرى.
إشارتي السابقة لتدخل البوطي كممثل لرجال الدين في شأن الفن، هو محاولة للبدء بتدخل أوسع إذا نجح الأمر، ولكن الدولة لم تستجب والفضائية السورية، كما فضائيات أخرى استمرت بعرض المسلسل، وهو أمر جيد. وبكل الأحوال، تدخل البوطي، يستدعي من الدولة، إبعاد سلطة رجال الدين وعبر القانون عن التدخل في شؤون المجتمع والفن وأي أمر مجتمعي آخر، وأن يكون الشأن الديني شأن شخصي محض، وعندها يحق لأي شخص، وفنان وكاتب ومبدع، أن يكتب عن الدين بالطريقة التي يراها مناسبة، وكل اعتراض يجب أن يكون عبر القضاء الذي يجب أن يكون ليس لصالح سلطة الدين كما هو حالياً (- فهو لصالح الدين الإسلامي-السنّة- تحديداً سواء في الدستور السوري، أو في قوانين الأحوال الشخصية) بل لصالح كل أفراد المجتمع وبشكل متساوٍ.
أختتم مقالي، بالقول لا يمكن للمجتمع أن يتقدم ما دامت سلطة رجال الدين، تحشر أنفها في كل شاردة وواردة، ويتقدم فقط حين يتم كفّ أيديهم عن التدخل في حياة الناس، وعندها سيؤمن من يرغب بالإيمان، بشكل حر وعقلاني وباعتدال وبتسامح وبرقي، فهل نحن ذاهبون إلى هناك، أنا لا أعتقد ذلك في أوقاتنا الحالية؟
هامش:
-كل ما ورد بين هلالين من خطبة البوطي، ومنشورة على موقع نسيم الشام، بعنوان”مكيدة للصائمين في رمضان”.
– المقطع من حوار صحفي، لمراسل موقع نسيم الشام ومنشور فيه، الخاص بمحمد رمضان البوطي.
موقع الآوان