حول تعثر الإصلاح الديني في المجتمعات العربية
أكرم البني *
لاقى الإصلاح الديني اهتماماً كبيراً لدى مفكرين وفقهاء يؤمنون بدور مهم للإسلام في البناء والتغيير الاجتماعي، من أجل خلق واقع ثقافي جديد ينطلق من الإقرار بنسبية المعارف، ويعيد دراسة الفكر الديني في ضوء التجربة والمنطق وتطور العلوم الإنسانية، بما في ذلك إعادة النظر في فهم بعض النصوص المرجعية والأحكام ونقد الكثير من الأوهام والمسلّمات الخاطئة، الدينية والفقهية، التي عششت في عقول المسلمين أمداً طويلاً، على أمل تحقيق الانسجام بين مقاصد الدين ومصالح المؤمنين وحقوق الناس جميعاً، ولكن للأسف لم تكلل هذه الجهود بالنجاح وتعثر مسار الإصلاح بفعل تضافر عوامل كثيرة أعاقت دعاته وأجهضت دورهم في تطوير حياة المسلمين وطرق تفكيرهم.
كان في مقدمها الحرب الشرسة ضد فكرة الإصلاح الديني التي شنّتها قوى وجماعات إسلامية اتفقت على إلغاء دور العقل في وعي الحياة الدينية وتمكينها، وتمسكت بالتقليد ورفض الاعتراف بأن جزءاً من مضامين الفكر الذي تدافع عنه وتضفي عليه شيئاً من القداسة هو فكر بشري، تجاوزته المتغيرات ولم يعد يستجيب مشكلات المسلمين وحاجاتهم الراهنة، وقد بذلت هذه الجماعات جهوداً كبيرة لعزل الإصلاحيين وسحب الشرعية الدينية منهم، من خلال تأليب الناس ضدهم وإدانة من يتخذ فكرهم مرجعاً أو التشهير بهم كخصوم وأعداء للإسلام، وصل أحياناً إلى تكفير بعض رموزهم وإباحة دمه، زاد الطين بلّة شيوع حالة من التعصب الاجتماعي وتغلغل ثقافة شعبية دينية تجنح إلى التقليد، عززت عصبيتها وتعصبها، هزائمنا الوطنية المتكررة وفشل البرامج القومية والاشتراكية وتغذية الإيحاء بأن مجتمعاتنا في حالة خطر وجودي يتطلب الاستنفار الدائم لصد محاولات النيل من خصوصيتنا الدينية.
ثم، ما أضعف تيار الإصلاح الديني وشتّت جهوده، عجزه عن توحيد نفسه وقد نهض من منابت متنوعة واتبع مناهج مختلفة، لنشهد انقسامه إلى قوى واتجاهات وصلت حد التعارض والصراع، وزاد في ضعفه سلبية التيار العلماني الذي لم يأخذ مسألة التجديد الديني على محمل الجد، ولم يبادر إلى دعمه، بل إن قطاعاً واسعاً منه بدا متطرفاً أكثر من المتطرفين، واندفع إلى إشهار فك ارتباطه مع دعاة الإصلاح الديني على قاعدة رؤية اطلاقية تدعو إلى الفصل التام بين الدين والسياسة، أحياناً بدافع من نيات طيبة تتوسل قيام دولة ديموقراطية تحترم المعتقدات وحقوق مواطنيها، وغالباً بضيق أفق هدفه تصفية الحساب مع دور الدين في المجتمع.
وكحال الإصلاح السياسي لعب الموقف من الآخر الأجنبي دوراً إضافياً في إعاقة الإصلاح الديني ومحاصرة دعاته. فالمقارنات التي قام بها المصلحون بين الحالة التي آلت إليها أوضاع المسلمين وبين التفوق الغربي، جعلتهم عرضة للاتهامات بالترويج لقيم الغرب ومفاهيمه على حساب تراثهم ومعتقداتهم الدينية، ثم ساهمت التوترات السياسية ضد نزعات الهيمنة الغربية في تغذية مشاعر التحفظ ورفض التجديد، وربما كرد فعل على مواقف غربية لم تخل من عنصرية ونظرة استعلائية.
وفي المقلب الآخر، ساهم بقسط مهم في استمرار جمود الفكر الديني وانغلاقه، القطع التاريخي لحركة الإصلاح الذي أحدثه المد التحرري الوطني والقومي والطابع البراغماتي لسياسات الأنظمة العربية، لجهة رفضها عموماً إنجاز إصلاح ديني شامل مكتفية بتطويع الإسلام الشعبي وإخضاع مؤسساته لمصالحها. ولا شك، فهناك جهود دينية تجديدية كثيرة ضاعت بسبب استثمار الحكومات الضيق لها، حين وظفت ما قد يفيدها في معاركها السياسية وأهملت تكريسها في حقول التربية والأفكار والقيم. ونضيف أن بعض الأنظمة وفي أتون صراعها ضد أيديولوجيات ومخاطر سياسية علمانية كانت هي المبادرة إلى تشجيع النزعات الدينية المحافظة ولم تنتبه أو لم يكن يهمها أن تنتبه أنها مهّدت الطريق بنفسها لنمو الحركات الإسلامية المتطرفة وتمكينها من فرض أفكار وممارسات خاطئة تركت آثاراً سلبية بعيدة المدى في المجتمع.
والأهم في هذا الصدد هو تغييب المناخ الديموقراطي الضروري لنجاح الإصلاح الديني، فهذا الأخير يتعلق بإعمال العقل والنقد ولا ينمو إلا في مناخ يتسم بالحرية، حرية التعبير والاعتقاد والبحث. وعليه لا يصح الفصل بين الدعوة إلى تجديد الثقافة الدينية وبين تقدم الإصلاح السياسي، بل كل خطوة في اتجاه تعزيز الديموقراطية هي خطوة نحو توفير أفضل الشروط لإحداث المراجعات الدينية الضرورية، من دون أن نبخس الإصلاح الديني حقه، فتقدّمه يساعد أيضاً، في خصوصية مجتمعاتنا، على دعم الديموقراطية ومناخ الحريات.
لقد كان غياب الديموقراطية وسيادة المطلق السياسي في سدات الحكم العربية عاملاً حاسماً في تعثر الإصلاح الديني وتوفير الشرط الانعكاسي لتثبيت المطلق الديني دنيوياً. فحين يصادر السياسي حرية الفكر ويرفض الخضوع للعقل النقدي ويستبد، فمن البديهي أن يطرح الديني نفسه على أنه اكبر من أي نقد، ليغدو الأمر أشبه بمعادلة بسيطة تقول إن النجاح في تصحيح العلاقة بين المطلق الديني وبين الدنيوي المتغير، لا يتحقق إلا برفض المطلق السياسي والاستناد إلى نظام ديموقراطي يحضن موضوعياً طرائق المعرفة النسبية، ويبعث روحياً وسياسياً حقوق الإنسان وحرياته في الرأي والتعبير والاجتهاد، ويعرف الجميع أن أزهى فترات الإصلاح الديني في التاريخ العربي تمت في مناخات ليبرالية نسبياً وأن أجواء الحرية هي التي ضمنت تفتح النقد والإبداع وسمحت للمجتهدين بطرح أجرأ الاجتهادات والتفسيرات الدينية.
أخيراً، لا يمكن عاقلاً أن ينكر أهمية الإصلاح الديني وضرورته في مجتمعات أدمنت الجمود والتقليد وصارت في أمسّ الحاجة إلى نشر العقلانية في طرائق التفكير وتمكين الدين من تقديم إجابات واضحة عن أسئلة الواقع الملحّة وفق منطق العصر واحتياجاته، لكن يعتبر جهداً ناقصاً الاكتفاء بالدعوة إلى تجديد الفكر الديني وغض النظر عن تردي الشروط السياسية والاقتصادية، أو اعتبار معالجة حالة التخلف والنهوض بها تتأتى فقط من انتقادنا مسلكيات دينية مريضة أو عبر قرارات فوقية تهدف إلى تصحيح ما يحمله الناس من أفكار خاطئة ومغلوطة عن الدين، فهناك ما يجب عمله لتحسين شروط حياتهم المادية والروحية وخلق المناخ الضامن لحرياتهم وحقوقهم وتالياً لتطوير أفكارهم وعاداتهم وأنماط حياتهم.
* كاتب سوري
الجياة